سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في دعاء مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه في القنوت وهو يتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى بالنسبة إلى أولياء الله، ويخاطب الله تعالى بقوله: (وأعذ أولياءك من الافتتان بي، وفتّنهم برحمتك لرحمتك في نعمتك تفتين الاجتباء، والاستخلاص بسلوك طريقتي، واتّباع منهجي) (1).
الافتتان الحسيني
إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه مختبر عظيم من الله سبحانه وتعالى لعامّة البشر، في زمانه وبعد استشهاده صلوات الله عليه وإلى اليوم وإلى يوم القيامة. ففي الدعاء المذكور، يطلب الإمام الحسين صلوات الله عليه من الله تعالى متضرّعاً، أن يبعد الله تعالى أولياءه من الافتتان به افتتاناً يوجب لهم السقوط. ويطلب من الله تعالى أن يفتتن الله أولياءه بسبب الإمام الحسين صلوات الله عليه افتتان الاجتباء والاستخلاص.
الاجتباء يعني يجتبيهم ويقرّبهم إليه، أي إلى نفسه جلّ وعلا. ويستخلصهم، أي يمتحنهم امتحان الاستخلاص، حتى يكونوا أولياء الله بسبب الإمام الحسين صلوات الله عليه، خالصين من الشوائب.
الاجتباء والاستخلاص
كيف يكون امتحان الله تعالى وافتتانه لأوليائه افتتان اجتباء واستخلاص؟ ذلك يبيّنه الإمام الحسين صلوات الله عليه في دعائه بأن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يكون افتتان الأولياء بسلوك طريق الإمام واتّباع منهجه، حتى يوفّق أولياء الله بسبب الإمام صلوات الله عليه. ومنهج الإمام الحسين صلوات الله عليه، ولأنّه معصوم وعصمه الله سبحانه وتعالى من الزلل، هو منهج الله تعالى، وهو طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو منهج وطريقة العترة الطاهرة جميعاً صلوات الله عليهم أجمعين، وذلك في مقارعة الظلم ومحاربة الظالمين، والقيام ضدّ الظالمين، بأي ثمن كان، والتضحية من أجل الله تعالى، ومن أجل القيم الإسلامية الرفيعة، بأنواع التضحية، وعدم المبالاة والاكتراث في جنب الله سبحانه وتعالى، مهما كلّف الثمن، عندما تجتمع شرائط ذلك.
المنهج الحسيني
لقد عاش الإمام الحسين صلوات الله عليه، بعد أخيه الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، قرابة عشر سنوات في أيّام معاوية، وكان يكتب رسائل شديدة اللحن إلى معاوية ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر بشدّة. ولكن لم يقم ضدّ معاوية قياماً مسلّحاً لأنّ الشرائط لم تك مؤاتية في ذلك الزمان. ولكن وبمجرّد أن مات معاوية، قام الإمام الحسين صلوات الله عليه ضدّ يزيد بن معاوية، قياماً مسلّحاً دفاعياً، كجدّه رسول الله وكأبيه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، وكأخيه الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، حيث جرت العادة أن لا يرفعوا السلاح والسيف إلاّ دفاعاً، وأن لا يبتدؤوا بالحرب مع أيّة جهة، سواء كانت جهة كفر أو جهة نفاق. لكن عندما اجتمعت الشروط لمقارعة الظلم، والحرب الدفاعية مع الظلم، كانت التضحية طريقة الإمام الحسين صلوات الله عليه. فإنّ منهج الإمام الحسين صلوات الله عليه الذي يذكره في دعائه، هو منهج التضحية بكل غال ونفيس في سبيل الله تعالى، وفي سبيل القيم، وفي سبيل الفضيلة. وبكلمة واحدة، في سبيل الإسلام الذي هو جامع لكل القيم ولكل الفضائل.
السقوط والفوز
لكن افتتن بعضهم بالإمام الحسين صلوات الله عليه، افتتاناً سقطوا فيه، وبعضهم افتتنوا افتتان اجتباء لله تعالى، واستخلاص من الله سبحانه. وذلك يظهر في العديد من المواقف ومن الأدوار ومن الأفراد، ومنه الذين دخلوا مع الإمام الحسين صلوات الله عليه مدينة كربلاء المقدّسة، وجاؤوا معه من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، ومن مكّة ساروا مع الإمام إلى كربلاء المقدّسة، وفي الطريق لحقوا به ودخلوا معه صلوات الله عليه كربلاء. فكما تذكر بعض التواريخ، دخل مع الإمام الحسين صلوات الله عليه إلى كربلاء ألف وخمسمئة شخص. ولكن الذين شملتهم فتنة أسقطتهم وابتعدوا عن الإمام الحسين صلوات الله عليه في ليلة عاشوراء، كانوا أكثر من ألف وأربعمئة من العدد المذكور آنفاً، فذهبوا وتركوا الإمام الحسين صلوات الله عليه بين الأعداء. ولكن القلّة القليلة الموفّقة الذين اجتباهم الله سبحانه وتعالى واستخلصهم فتنة الاجتباء والاستخلاص، بقوا مع الإمام الحسين صلوات الله عليه، واستشهدوا معه يوم عاشوراء.
إنّ تلك الفتنة، بقسميها، أي القسم الذي يسقط الإنسان فيه والعياذ بالله، وبالقسم الذي يفوز فيه الإنسان بافتتانه فتنة الاجتباء والاستخلاص، هذه الفتنة بالمعنيين وبالقسمين، جارية إلى يوم اليوم، وتكون جارية في المستقبل أيضاً. ومن مصاديق ذلك، في زماننا وقبل هذا اليوم وبعده، هي الشعائر الحسينية المقدّسة. فشعائر الإمام الحسين صلوات الله عليه كلّها من شعائر الله سبحانه وتعالى الذي قد قال عزّ من قائل عنها: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)(2).
هكذا هي الشعائر
لقد سقط في الشعائر الحسينية المقدّسة كلّها، سواء التي تقام في أيّام عاشوراء، أو التي تقام في طول السنة باسم الإمام الحسين صلوات الله عليه، بأنواعها المختلفة، أقوام والعياذ بالله، وفاز أقوام آخرون. وهذه هي الفتنة التي ذكرها بشقّيها الإمام الحسين صلوات الله عليه، وهو يدعو الله تعالى في قنوته ويتضرّع إليه عزّ وجلّ ويطلب منه أن يعيذ أولياءه من الفتنة التي تسقط بعضهم، ويمدّ أولياءه بالفتنة التي تكون فتنة اجتباء واستخلاص في سلوك طريقة الإمام الحسين صلوات الله عليه واتّباع منهجه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وجميع المؤمنين والمؤمنات، من الذين يفتتنون بالإمام الحسين صلوات الله عليه، فتنة اجتباء واستخلاص، ويوفّقون في ذلك بسلوك طريقته واتّباع منهجه صلوات الله عليه. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٨٢، الصفحة ٢١٤.
(2)سورة الحجّ: الآية 32.