LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: الصفح والعزم
رمز 56261
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 26 جمادى الثانية 1447 - 18 ديسمبر 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

التأكيد القرآني

قال الله عزّ وجلّ في القرآن الحكيم: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)1 .

إنّ الموفقية في الحياة بحاجة الى أمور كثيرة في طليعتها أمران رئيسيان: أحدهما الصبر، والثاني الصفح والغفران لمن یسيء لنا.

يشير القرآن الكريم الى أنّ الأمرين (الصبر والصفح) بحاجة الى عزم وإرادة، ولعله من النادر التأکید في موضوع واحد وبهذا الشکل، فالمعنى البلاغي للآية (ولمن صبر وغفر) یشیر بعبارة لمن: اللام لام التأكيد واختزال للقَسَم، وعبارة (إنّ ذلك) إنّ للتأكيد و(ذلك) للتأكيد أيضاً کما یشار في علوم البلاغة، (لَمِن عزم الأمور). لمن: تكرار لام القسم أيضاً، فإذا عزم الانسان علی أمر فإنّه سيوفق للصبر (صبَر وغَفر) ویکون التوفیق بمقدار عزمه وبقدار مرتبته، لأنّ العزم له مراتب، والموفقية الكبيرة بحاجة الى عزم شديد، بینما الموفقية الأكبر بحاجة الى عزم أشدّ وأقوى.

لكن المهم في ذلك والأساس هو العزم، فقد ورد في الآثار المروية عن أهل البيت سلام الله عليهم ما نظّم في الشعر (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) بمعنى على قدر عزم أهل العزم تكون العزائم، والعبر في هذا المجال ليست قليلة في صفحات التأریخ.

تجاوز عنه فتعلّقت أموره بيده

يُنقل في تاريخ أحد العلماء الموفّقين، أنّه ذات مرّة وقعت بيده رسالة سهواً من أحد زملاءه التي أرسلها الى زميل آخر. وكانت الرسالة موجّهة ضدّ ذلك العالم ومتضمّنة لأكاذيب وتُهم تستهدف ذلك العالم. وعندما قرأ العالم تلك الرسالة لم يُظهر أنّه رآها لمن کتبها أو بعثها، بل أرسلها الى الشخص الذي‌ یجب أن یستلمها، الى أن مات الطرفان المُرسل والمُستلم. وقد ورد في مضمون تلك الرسالة تُهم وأکاذیب نُسبت الی ذلك العالم، ومرّت الأیّام وإذا بصاحب الرسالة ومن كتب الرسالة یمرّ بظروف حياتية صعبة، ‌وکان بإمکان ذلك العالم تحسینها، فقام العالم بقضاء حوائج ذلك الشخص وترتيب أموره من دون أن يبدي إليه أي شيء، فهل هذا بنظرکم ممكن؟ نعم ذلك ممكن لکنه یحتاج الى صبر ومسامحة وتجاوز عن ذنب مَن يفعل مثل الصنیع، فالله تعالى يمتحن ويختبر عباده، وبمقدار ما وُفقوا في الامتحان يوفّقهم في مراتب الدنيا والآخرة.

الانسان موجود عجيب، والله تعالى أعطاه قدرات ومواهب وإمکانات لتکون تحت تصرّفه ویرفعه بها الى أرفع الدرجات، لکنها دون درجات العصمة الخاصّة بأفراد محدّدین ومعيّنين. فهذه المواهب يمكن أن يحلّق بها الانسان الى درجات عالیة ومراتب رفيعة، ویمکن أن ينزل بها الی مستويات هابطة لا یصل إليها حتی الوحوش والحیوانات الوضیعة. وفي هذا الخصوص توجد أمثلة کثیرة لأناس حلّقوا في سماء الأخلاق والفضيلة وآخرین نزلوا الى أدنی درجات البشریة.

الانسان باختياره يسمو ويدنو

لو تصفّحنا ذُرّیات وسلالات من حولنا، نجد أنّ في ذریّة واحدة نموذجين نقیضین :

نموذج رفيع وعلی مستوى من الفضيلة والآداب، ونموذج آخر وضیع وعلی مستوی من الانحطاط، فتری مثلاً الجدّ والأب خیّرین بینما الإبن والحفيد عكس ذلك. فاذا دقّقنا النظر في الأنساب والسلالات نجد هاذین النموذجين موجودین في ذرّیات الناس وأنسابهم. وهنا نستعرض مثال لنموذجين من تلك النماذج:

نموذج رفیع (كشاجم)2 وهو أحد العلماء الأفاضل المعروفين بهذه الحروف (ك، ش، أ، ج، م) وهذه الحروف اختزال لفضائل هذا الشخص لأنّه كان کما تشیر الیه الحروف (الكاف) کاتباً و(الشين) شاعراً و(الألف) أدبياً و(الجيم) للجدل، و(الميم) للمنطق. وهذا العالم، هو حفيد السِنديّ بن شاهك (لعنه الله) الذي هو مثال للنموذج الوضيع، حیث كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام سجين عنده یرزح في أشدّ سجونه، وکان هذا السجن آخر معتقل سُجن فيه الإمام الكاظم سلام الله عليه حتی استشهد ولقي حتفه، بعد أن تعرّض فیه لأنواع التعذيب القاسي، بينما کان حفيد السندي عالماً من علماء المؤمنين وفاضلاً من فضلائهم. وأحياناً یکون العكس کما في قصّة النبي نوح علیه السلام مع ابنه كما وردت قصّته في القرآن الحكيم وفي التواريخ.

المهم العبرة

المهم أن یأخذ الانسان العِبرة من الطرفين (کشاجم) في مجال الموفقية ومن ابن نوح في مجال الرذیلة والسقوط الی الهاویة، فهذا یحتاج منّا الى درایة وصبر کما في العبارة (صبَر وغفر)، لأنّ الصبر وحده لا يكفي في هذا المجال بل یحتاج الی الغفران وكلاهما بحاجة الى عزم وإرادة في التنفیذ، فإذا عزم الانسان علی القیام بذلك سوف يوفّق أكيداً. وإذا لم یصل بعزیمته الی الرتبة الرفيعة ولم یبلغها، فسوف یبلغ ما دونها من المرتبة ویقترب من الهدف المنشود. والمهم أن يكون للإنسان عزم وإرادة في حياته، والتوفیق من الله تعالی (فالله وليّ التوفیق نِعم المولی ونعم الرفیق).

المصادر:

1. الشورى - الآية 43

2. محمود بن الحسين بن ابراهيم بن السندي بن شاهك، الملقب بـ (كشاجم) (ت 360 هـ).