LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: العتاب والعقاب
رمز 47935
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 22 ربيع الأول 1446 - 26 سبتمبر 2024

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

العتاب مفتاح المشاکل:

ورد في الحديث الشريف عن الإمام الهادي عليه السلام، أنه قال: (اَلْعِتَابُ مِفْتَاحُ اَلثِّقَالِ..)(1).

لم یترك المعصومون الأربعة عشر صلوات الله عليهم جانباً من الفضائل إلا ونبّهوا عليها، کما لم يتركوا جانباً من الرذائل إلا وحذروا منه ونهوا عنه. والسبب أنّهم أرادوا تنبیه الإنسان لیکون قریباً من الفضيلة وبعيداً عن الرذيلة.

فمن الأمور المهمة التي‌ قلّما نلتفت إلیها، هي مسألة (العتاب)!

وننوّه هنا إلی أن العتاب یختلف عن العقاب، لأن العقاب يكون في‌ إتیان المعاصي والأمور المحرّمة التي نهی عنها الشارع المقدّس نهیاً شديداً، ‌ویکون العقاب أیضاً في ترك الواجبات التي أمر الله بإتیانها.

بینما العتاب أقل مرتبة من العقاب ودونه، فالعتاب صفة أخلاقیة متعارفة بين الكثير من الناس.

لکن هذه الصفة الأخلاقیة حذّر منها الإمام الهادي صلوات الله عليه في الحديث الشريف، فلو کان صديقان حمیمان في سفر أو دراسة أو سوق فلا ينبغي أن يعمل أحدهما بحسب ذوقه الخاص في الأمور التي ترتبط بکلیهما، فإذا عمل بذلك ولم يرض عنه صدیقه، سیقوم بعتابه، وهذا العتاب يعتبر مفتاحاً إلی الرذائل.

یقول الإمام الهادي عليه الصلاة والسلام: (اَلْعِتَابُ مِفْتَاحُ اَلثِّقَالِ).

والثِقال جمع ثقيلة أو جمع ثَقيل، فالأمور الثقيلة والأمور الشديدة يكون مفتاحها العتاب، تبدأ هذه الأمور من العتاب ثم شيئاً فشيئاً حتّی تنتهي إلى أمر ثقيل على الشخص الذي يُعاتِب وثقيل على الشخص المُعاتب.

وستکون النتیجة قلّة المحبوبية بین الصديقين أو الزمیلین، لنفرض مثلاً أنهما تواعدا على أمر ما، فتأخر أحدهما عن الآخر،‌ فقبل أن يلتفت الآخر إلى سبب تأخره، سوف يُعاتبه أولاً علی التأخیر، ثم یبدأ معه في السؤال عن سبب تأخره.

لکن هذا العتاب ربما یکون في غیر محلّه لأن الطرف الآخر لو كان في نفس الظروف لتأخّر هو أیضاً.

لذا فکثرة العتاب هنا توجب قلّة المحبّة، لأن العتاب الثاني والثالث والرابع سیقضي علی  المحبة بین الصدیقین الحمیمین شيئاً فشيئاً..

من يحبّ لايُعاتب ولايعاقب:

هناك خطأ شائع بین الناس یقول:‌ (الذي يُحبّ يُعاتب)!!

وأری أن هذا المثال غير صحيح، لأن الذي يحبّ لا يعاقب ولا یعاتب؟

فليس من آداب المحبّة أن يعاتب صدیقان أحدهما الآخر، لأن الحديث الشريف یقول: (أَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ)(2).

فهل يحبّ الإنسان أن يعاتب أخاه في النسب أو أخاه في الدين أو الدراسة أو العمل؟!

في الواقع علی الطرفین أن لایستخدما لغة العتاب في معاشرتهما، لأن العتاب المستمر سیؤدي إلی نتائج معکوسة،‌ ولکي نتجنّب هذه النتیجة نحتاج إلى ترسيخ العزم والإرادة والوقوف ضد النزوات العدوانیة التي تصدر عن النفس الأمّارة.

فطبيعة الإنسان له نفس شريرة تهفو إلى أمور عدائیة تترجمها عن طریق اللسان أو عن طریق النظرة المتشائمة إلی أرض الواقع.

ثم إن الإنسان المُعاتِب، هل یحبّ أن یعاتبه أحد؟!

من لايحب ذلك لنفسه کیف یحبّه للآخرين؟!

ولعلّ في العتاب الأول لاتظهر النتائج المعکوسة، لکنه مع مرور الزمن سوف تتثاقل کلمات العتاب لتصبح کالجبل الثقیل علی صدر أخیه، وإلی هذا المعنی أشار الإمام الهادي سلام الله عليه، حیث ذكر أن هذا الأمر (العتاب) سيوصل الإنسان شیئاً فشیئاً إلى أمور ثقيلة لا يستسيغها القلب، ولا تريدها الروح، وربما تحدث عفوياً وبدون توجه، أو أن تکون مفتاحاً إلی الموبقات والرذائل.

فكما أن مفتاح الدار سبباً لدخول الإنسان إلى الدّار للأكل والنوم ولأداء الكثير من الأعمال الإيجابیة والسلبیة‌، کذلك صفة العتاب تکون مفتاحاً لتنامي حالة العداء حتی تتثاقل فتکون سبباً للرذائل والکبائر التي تعمل علی هدم العلاقات الإجتماعیة.

المجدّد الشيرازي كان لا يعتب ولا يعاتب:

رُوي عن الإمام السید حسن (المجدد الشيرازي) رضوان الله تعالی عليه، أنّ شخصاً قام بتزویر خطه المبارك عبر رسالة بعثها إلى شخص، أراد من خلالها الإساءة إلی المجدد الشیرازي رحمه الله.

لما عَلِمَ المُجدد بذلك التزوير، لم يتحدّث عنها لأحد إطلاقاً، لکنه بعد فترة طويلة وقعت قضیة..

یقول ذلك الرجل المزوّر: إلتقيت بالمجدد في ذات لیلة في مجموعة من الناس الحاضرین، فلما أردت أن أنصرف حتی أشار إليّ المجدّد أن أبقى في مکاني!!

وقد نسیت في الواقع عملیة التزویر ولم یبلغني أحد بأنه علِم بها.

لما إنصرف الجميع وبقینا لوحدنا، لم يعاتبني علی ذلك! بل قال لي إنّ هذا العمل الذي قُمت به (عملیة التزویر) لا تفعله مع غيري، فلن يرحمك ذلك الشخص إن فعلته).

أي أن السید أشفق عليه ونصحه، حتى لا یقع في الورطة مع الآخرین، فتقع عليه الويلات وتحدث له المشاكل.

ولذا كان المجدد رحمه الله محبوباً لدی الجمیع وقريباً منهم، حتى ذكر العلماء الذين كتبوا تأريخ المجدد أنه في تأريخ الإسلام بعد شهادة المعصومين صلوات الله عليهم لم يأتِ نظيراً له بین العلماء للمجدّد في مثل هذه الصفات الأخلاقیة.

وهذا ما ذکروه في الكتب المطبوعة وفي التراجم.

فمن الأمور التي کرّست هذه المحبة العظيمة للمجدد، أنه لم يعاتب أحداً كما يُنقل عنه، إذ قام بذلك بدءً من عائلته وأولاده وأقربائه، وإنتهاءً بتلاميذه وأصدقاءه.

إذن علمتنا هذه القصة أن یحفظ الإنسان لسانه من العتاب وأن یصونه من کثرة العتاب في الأمور المعاشیة والزيارات واللقاءات، فبالنتيجة كل إنسان له ذوق وله أسلوب، ويجب على الفرد إن رأى أمراً لايستسيغه من صديقه أو من أرحامه أن لا يُسارع إلى التصریح بالعتاب، لان هذا العتاب يكون مفتاحاً للثقال و سبباً في تضائل الصداقة، ومع مرور الزمن تنقلب الصداقة إلى العداوة، وكثيراً ماحدث ذلك..

اعزموا على ترك العتاب

سمعت ذات مرّة من أحد كبار المراجع وهو من تلامذة المجدد الشيرازي (رحمه الله) أنه  يقول: عزمت في حیاتي على أمرين:

الأمر الأول: أن لا أعاتب أحداً إطلاقاً.

والأمر الثاني: أن لا أتوقع من أحد أن یُنجز لي أعمالي.

لأنني فكرت أن هذا الإنسان كم سيعيش عيشة راضیة هنيئة إذا زالت عنه المشاکل القادمة من معاتبة الآخرین ومن التوقّع منهم في قضاء حوائجه وأداء أعماله.

فليس كل ما نتوقعه من الآخرين يتحقق، بل إنّ أكثر ما نتوقعه لا يتحقق لأسباب شتی، ومن طبیعة الإنسان أنه يتأذّی إذا لم یستجب للآخرین لتوقعاته، وتتحطم أعصابه. لکنه لو حاول ترك العتاب في نفسه وعدم ذکر ذلك علی لسانه، ولو حاول أن یقوم بأعماله بنفسه وأن لا یوکِلها للآخرین ـ سوف تزول إضطراباته النفسیة وأمراضه العصبية وإنزعاجاته الداخلية.

وفي المقابل إذا ترك العتاب وعمل بوظائفه ستكون له محبوبيّة تتنامی بین الناس لتتحوّل إلی صداقات وعلاقات طیّبة ناتجة عن عمق محبتهم له.

إذن لابد أن ننطلق في حیاتنا من الكلمات العظيمة التي بیّنها الإمام الهادي صلوات الله عليه، والكلمات والأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم السلام باعتبارها نور وحكمة وفضيلة ومنهج لحياة سعادة أبدیة، لأنها مفتاح کل هذه الأمور، بعکس العتاب وغیرها من الأمور التي تعتبر مفتاح الثقال إلی الأمور الرذیلة.

من هنا، فليعزم كل واحد منّا أن لايعاتب أحداً في أمر ما، فالزوج لايعاتب زوجته والزوجة لاتعاتب زوجها، والأبناء لايعاتبون بعضهم بعضا، والأرحام والجیران والزملاء في الدراسة والعمل والتجارة والسفر والذين يجتمعون في مجلس أو حسينية أو مأتم أو یذهبون للزيارة ـ یجب أن لايعاتبون بعضهم البعض، لأن في ذلك دوام المحبّة وبقائها مع الآخرين، ومن لا یرید الوقوع في المشاکل علیه أن یعلم أن العتاب مفتاحها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء75، الصفحة 369 ح4.

(2)الأمالي للشيخ الطوسي: الصفحة 508، 97.