عشية مناسبة ذكرى مولد مولانا سيّد الشهداء, قرّة عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسبطه, الإمام الحسين صلوات الله عليه, ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, كلمة قيّمة, بارك في مستهلّها هذه الذكرى العظيمة, وذكرى الأعياد الشعبانية المباركة, وسأل الله العليّ العظيم أن يمنّ بجوامع الخير والسعادة على المؤمنين والمؤمنات كافّة, وأن يمنّ عليهم وعلى البلاد الإسلامية, بالأمن والسلام والأمان من كل شرّ ومن سوء الظالمين والحاقدين ومثيري الفتن, وقال:
إنّ الإمام الحسين سلام الله عليه أقام دين جدّه صلى الله عليه وآله، ولولاه لما قامت للدين الإسلامي قائمة. وهذا ما سنبيّنه خلال حديثنا؛ عسى أن نكون قد وفيّنا بعض ما علينا تجاهه ولو بمقدار ما تحمله رأس الأبرة من بلل البحر!! ذلك أنّ الحديث عن الحسين سلام الله عليه حديث عن الله سبحانه والقرآن وعن الرسالة والحقّ وعن كلّ فضيلة.
لقد ذكر القرآن الكريم قصّة إسراء نبيّه صلى الله عليه وآله وعروجه إلى السماء في عدّة موارد منها قوله تعالى في سورة النجم: ?ثم دنا فتدلّى, فكان قاب قوسين أو أدنى? 1.
جاء عن ابن عباس: فلما بلغ صلى الله عليه وآله إلى سدرة المنتهى فانتهى إلى الحجب فقال جبرئيل: تقدّم يارسول الله, ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت2 .
وجاء في رواية أخرى أنه صلى الله عليه وآله قال: فلمّا انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدّم يا محمد! وتخلّفَ عني، فقلت: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟! فقال: يا محمد إن انتهاء حدّي الذي وضعني الله عزّ وجلّ فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدّي حدود ربي جلّ جلاله. فزجَّ بي في النور زجّة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علوّ ملكه3 .
وهنا عندما بلغ الله تعالى بحبيبه هذه المرتبة جعل يريه آياته الكبرى، وتحقّق قوله سبحانه: ?لقد رأى من آيات ربه الكبرى?4 , وكان مما رآه صلى الله عليه وآله من الآيات الكبرى مكانة حفيده الإمام الحسين سلام الله عليه وعظمته في السماوات.
عن الإمام الحسين سلام الله عليه قال: أتيت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله، فرأيت أُبَيّ بن كعب جالساً عنده، فقال جدّي: مرحباً بك يا زين السماوات والأرض فقال أُبيّ: يا رسول الله وهل أحد سواك زين السماوات والأرض؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وآله: يا أُبَي بن كعب! والذى بعثني بالحقّ نبيّاً، إنّ الحسين بن علي في السماوات أعظم مما هو في الأرض، واسمه مكتوب عن يمين العرش: إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة 5.
ومن هنا ينبغي لزائر الإمام الحسين عليه السلام أن يعرف أنّه بين يدي مَن، ويكلّم مَن، ولو كنّا كذلك ونحن في حرم الإمام الحسين سلام الله عليه وبين يديه عندما نزوره لما شغلنا شيء آخر أبداً. يقول الإمام الصادق سلام الله عليه: مَن أتى الحسين عليه السلام عارفاً بحقّه كتبه الله في أعلى علّيين 6.
إنّ الله سبحانه وتعالى دعا أشرف أنبيائه ورسله عليهم السلام ومن خاطبه بقوله: لولاك لما خلقت الأفلاك 7, دعاه في أعظم دعوة لأعظم وليمة يغذّيه فيها بالتعاليم الروحية وليريه آياته الكبرى، ومنها إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة. فهذا هو الحسين سلام الله عليه؛ فهل عرفناه حقّ معرفته؟
أنّى لطاقاتنا الفكرية المحدودة أن تدرك عظمة الإمام الحسين سلام الله عليه؟ والله سبحانه يعبّر عنه بآيته الكبرى، ويقول عنه: إنّه مصباح الهدى وسفينة النجاة. فهذا ليس قول الإمام الصادق أو أمير المؤمنين سلام الله عليهما أو جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله في حقّه، بل هو كلام الله مكتوب على ساق العرش وقبل أن يولد الإمام الحسين سلام الله عليه.
وهنا نسأل: لماذا يري الله أشرف أنبيائه هذه الكلمة عن سبطه ويعدّه آية كبرى؟ وما هو السرّ وراء ذلك؟
والجواب: هو أنّ الحسين سلام الله عليه خير مَن طبّق الآية الكريمة: (أن أقيموا الدين), وما وصّى الله به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد سلام الله عليه وآله وعليهم أجمعين.
إن الحسين سلام الله عليه أقام الدين وحفِظ الشريعة. فلولا الحسين لما كانت الصلاة اليوم ولا الصيام ولا حجَّ البيت أحدٌ؛ لأنّ بني أمية كانوا على وشك القضاء على الدين، ولكن الحسين سلام الله عليه حفظه وأقامه بدمه ودماء أهل بيته.
نماذج من محاولات بني أمية للقضاء على الدين:
حقد معاوية على الدين والرسالة
كان لمعاوية بن أبي سفيان صديق ونديم اسمه المغيرة بن شعبة، وكان يشبه معاوية - فإنّ الطيور على أشكالها تقع - .
يقول المطرف ابن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه، يتحدّث معه، ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتمّاً فانتظرته ساعة ظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال: يابنيّ جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم. قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سنّاً ياأمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإنّ ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي، واجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر.. وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات: (أشهد أنّ محمداً رسول الله) فأيّ عمل يبقى، وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك! لا والله إلاّ دفناً دفناً 8.
يزيد يثأر لقتلى بدر
أرأيت كيف كان يفكّر معاوية؟! أمّا ولده يزيد فقد أظهر ما كان يضمره بعد قتله سبط رسول الله صلى الله عليه وآله عندما قال:
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك ، فلا خبر جاء ولا وحي نزل 9
وقال في أبيات أخرى:
لمّا بدت تلك الحمول، وأشرقت تلك الرؤوس على ربـا جـيرون
نعب الغراب فقلت: قل أو لا تقل فقد قضيت من الرسول ديوني 10
يعني أنه اقتصّ من رسول الله صلى الله عليه وآله عندما قتل سبطه بمن قتلهم الإسلام من أجداده الكفرة في بدر. فالقضية عند يزيد تتلخّص في نزاع بين قبيلتين، فلا دين ولا نبوّة ولا وحي ولا جنّة ولا نار!
خليفة يشتهي أن يفجر فوق الكعبة!!
نموذج ثالث من خلفاء بني أمية: الوليد بن يزيد
ذكر ابن الأثير أنه: اتخذ له ندماء فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاّه الحجّ... فحمل معه كلاباً في صناديق، وعمل قبّة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة وحمل معه الخمور وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويشرب فيها الخمور 11.
ومن أخباره أنّه واقع جاريته وهو سكران وجاءه المؤذّنون بالصلاة فحلف لا يصلّي بالناس إلاّ هي، فلبست ثيابه وتنكّرت وصلّت بالمسلمين وهي سكرى متلطّخة بالنجاسات على الجنابة 12.
فهل عرفتم الآن كيف أنّ الإمام الحسين سلام الله عليه أنقذ دين جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله من براثن بني أميّة؟ وكيف أنّه حقّق وصيّة الله لأولي العزم من أنبيائه بإقامة الدين؟ ولهذا وجد رسول الله صلى الله عليه وآله مكتوباً على ساق العرش إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة.
أليس للإمام الحسين سلام الله عليه حقّ على كلّ صلاة تقام على وجه الأرض؟
أليس لدمه سلام الله عليه حقّ على الكعبة والبيت الحرام؟ فلولا جهاد الحسين سلام الله عليه وثورته ودمه لما كانت صلاة ولا صيام وما كانت تؤدَّى الزكاة ولا الخمس ولا سائر أحكام الإسلام.
وما نقلناه كان غيضاً من فيض، فاقرأوا التاريخ بأنفسكم لتعلموا ما أراد الأمويون فعله بالإسلام، وما هو دور الحسين سلام الله عليه؟ ولماذا قال الله تعالى عنه على لسان رسوله صلى الله عليه وآله: إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة!
حسين منّي وأنا من حسين
وهكذا أيضاً يفسّر معنى الحديث النبوي الشريف: حسين منّي وأنا من حسين 13.
أمّا أنّ الحسين من النبيّ فهذا لا خلاف فيه، ولكن كيف يمكن أن يكون الجدّ من الحفيد أو السبط؟
لاشكّ أنّ النبيّ يقصد بذلك استمرار رسالته صلى الله عليه وآله. وهذا الكلام النبوي الشريف مقتبس من ذاك التعبير المكتوب على ساق عرش ربّ العزّة! لأنّ بقاء اسم النبي صلى الله عليه وآله يُرفع من على المآذن (أشهد أنّ محمداً رسول الله) إنما كان بتضحيات الإمام الحسين سلام الله عليه. ولولا الإمام الحسين سلام الله عليه لمحا معاوية ويزيد وآل مروان من بعدهما هذا الذكرَ، ولعادت الجاهلية من جديد، فهكذا كان تخطيط معاوية، ولكن الله تعالى شاء أن يرى الإمام الحسين قتيلاً! لتعلّق إرادته تعالى بإنقاذ الدين بأساليب طبيعية غير غيبية. وهكذا كان إنقاذ دين الله متوقّفاً على دم الحسين سلام الله عليه، ولولا شهادة الحسين وأهل بيته لما بقي للإسلام من أثر، ومن شاء فليراجع التاريخ.
إذن كلّ مسجد تدخله اليوم فهو مدين للحسين، وكلّ صلاة وصيام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبرّ بالوالدين، وإخلاص لله، بل واسم رسول الله صلى الله عليه وآله عندما يُرفع في الأذان.. كلّه من الحسين سلام الله عليه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله: وأنا من حسين.
ولولا الحسين لكان اسم الرسول صلى الله عليه وآله - وكما تمنّى معاوية - حاله حال اسم أبي بكر وعمر، لا يزاد أن يُقال: كان محمد. أمّا رفعه في الأذان مقروناً بالرسالة كلّ يوم خمس مرّات، وامتداده في استمرار تعاليمه في الصلاة والصوم والمساجد والحجّ والدين كلّه فكلّ ذلك رهين دم الحسين سلام الله عليه.
وهذا معنى مخاطبتنا له سلام الله عليه في الزيارة: أشهدُ أنّك قد أقمت الصلاة لأنّه لولا الحسين لما صلّى أحد.
ينقل الشيخ محمد شريعت رحمه الله - أحد علماء الشيعة الذين عاصرتهم، أصله من كراجي، وكان يسكن في النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة - أنّه كانت تربطه صداقة بقسّ مسيحي فقال له يوماً:
أنتم الشيعة عندكم الحسين سلام الله عليه ولكنّكم لا تستفيدون منه كما ينبغي. ولو كان الحسين لنا لركزنا في كلّ شبر من الأرض منبراً باسم الحسين نجمع الناس حوله ونبلّغهم ديننا ولما تركنا إنساناً على وجه الأرض إلاّ دعوناه إليه.
ختاماً: ماذا نقدّم للحسين سلام الله عليه؟
أقترح ثلاث وصايا بسيطة يتمكّن كلّ منّا العمل بها عسى أن نرفع شيئاً من تقصيرنا تجاه الإمام الحسين سلام الله عليه:
أوّلاً: قبل أيام من ذكرى ميلاده المبارك سلام الله عليه أخبِر كلّ مَن تلقاه - سواء في محلّ عملك أو في طريقك إلى البيت أو صديقاً تلقاه - أنّ يوم الثالث من شعبان هو يوم ميلاد الحسين سلام الله عليه، ولا أبالغ إن قلت إنّ كثيراً من المسلمين الذين تعيش بينهم لا يعلمون بذلك!
ثانياً: لنتحف أولادنا وعوائلنا بفكرة ولو مبسّطة عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم لاسيّما صاحب الذكرى الإمام الحسين سلام الله عليه في يوم ميلاده؛ ليتربّوا على حبّهم سلام الله عليهم.
ثالثاً: لنظهِر علامات الفرح والتهنئة ولنوزّع الهدايا أو الحلويات على عوائلنا وزملائنا في محلّ عملنا وأهالي منطقتنا في يوم ميلاد الإمام الحسين سلام الله عليه.
إنّ العمل بهذه الوصايا الثلاث هو أقلّ ما يمكن أن نقدّمه وأقلّ ما يُراد منّا، لكي يصدق علينا أنّنا نحبّ الحسين سلام الله عليه ونواليه.
أمّا الأمور والمؤهّلات المطلوبة منا لكي نكون على طريق الإمام الحسين سلام الله عليه فقد لا نكون بمستواها فإنّ الحسين سلام الله عليه أقام الدين، ونحن نرى محيطنا مليئاً بالمحرّمات، وذوينا لا يؤدّون الواجبات ولكن مع ذلك ترى بعضنا – ومع الأسف - لا يكترث! إذا كنّا من الذين يهتمّون بمعالجة الأمراض الروحية في المجتمع كاهتمامنا بمعالجة الأمراض البدنية خاصة إذا أصيب بها أحد أبنائنا، فليكن سعينا من الآن أن نبدأ بنشر حبّ الحسين سلام الله عليه، وفكر الحسين، ثم السعي للعمل وفقه إن شاء الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن يوفّقنا لذلك، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
ــــــــــــــــــــــ
1/ سورة النجم: الآية 8 . والقوس: ما يُرمى به النبل، وهو خشبة مقوّسة، وقابه: ما بين طرفي الخشبة وهو بضعة أشبار. وهذا التعبير كناية عن القرب.
2 / بحار الأنوار: ج18، ص286.
3 / المصدر نفسه: ص346.
4 / سورة النجم: الآية 18 .
5 / مدينة المعاجز: للسيد هاشم البحراني، ج4، ص51.
6 / بحار الأنوار: ج98، ص70.
7 / المصدر نفسه: ج16، ص406.
8 / المسترشد لمحمد بن جرير الطبري: ص680.
9 / الاحتجاج: ج2، ص307.
10 / جواهر المطالب في مناقب الإمام علي عليه السلام لابن الدمشقي: 2/ 301.
11 / البداية والنهاية لابن كثير: ج1، ص3.
12 / شرح أصول الكافي: ج5، ص143.
13 / بحار الأنوار: ج43، ص261.