في مسائل صيد السمك:
سأل أحد الفضلاء: سمعنا بأنّ سماحتكم تقولون بالنّسبة إلى الأسماك التي يصطادها الصيّادون في البحر ثمّ يضعونها في حوض صغير، إذا مات السمك فيه، كان حلال اكله
قال سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: بالنّسبة إلى السمك هناك دليل: (ذَكَاتُهُ إِخْرَاجُهُ حَيّاً مِنَ الْمَاءِ).
وصيد السمك بإخراجه من ذلك الماء، ولذلك خروجه من الماء حياً لا يكفي، وإن مات خارج الماء.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: (سَأَلْتُهُ عَنْ سَمَكَةٍ وَثَبَتْ مِنْ نَهَرٍ، فَوَقَعَتْ عَلَى الْجُدِّ مِنَ النَّهَرِ فَمَاتَتْ، هَلْ يَصْلُحُ أَكْلُهَا؟
فَقَالَ عليه السلام: إِنْ أَخَذْتَهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ ثُمَّ مَاتَتْ فَكُلْهَا، وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْخُذَهَا فَلا تَأْكُلْهَا).
نعم، لا يلزم الوقوع على الأرض، بل يكفي إذا مات بيد الصيّاد، أو ألقي على سطح السّفينة.
ولكن إذا أخرج من الماء حياً وبعد ذلك وقع في الماء ومات، فإنّ أغلب الفقهاء على الاطلاق قالوا بالحرمة.
ولكن جماعة من الفقهاء استثنوا إحدى الحالات، وإن كان هذا الاستثناء محلّ خلاف، ففي السابق ـ وما زال ـ كان الصيّادون يصطادون الأسماك بالشباك، وفي بعض الأحيان يصنعون سلالاً من القصب ويصطادون الأسماك ويضعونها في تلك السّلال، وحينئذٍ فإنّ هذه الأسماك الموجودة في هذه السّلال أو في الشّباك وهي ما تزال في الماء، فإنّها في بعض الأحيان تنفق إثر الاختناق، وفي هذا الشأن وردت عدّة روايات تقول: إنّها حلال، وأفتى بعض الفقهاء أيضاً طبقاً لهذه الروايات بالحليّة، ورأيي المختار هو هذا تبعاً أو وفاقاً لهم.
ومع ذلك أيضاً فإنّ جماعة من الفقهاء لم يعملوا بهذه الروايات وقالوا بأنّ هذه الأسماك محرّمة.
ولا يخفى أن طبقاً للرأي المختار أنّ الإعراض المشهور عن السند أو الدلالة، يوجب سقوط الحجّية، ولكن بالنسبة لهذه الروايات فليس محرزاً أنّ المشهور قد أعرض، نعم بعض الفقهاء لديهم إعراض، ولكن ليس معلوماً أن يكون هذا الاعراض محققا للمشهور.
وما أصدرنا من الفتوى بالحلّية هي ما تتعلّق بهذه النّماذج من الأسماك أن تموت وهي في الشّباك وما أشبهها، ولكن النّموذج الذي قلتم به، فنحن لم نعط حكماً بالحلّية.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي الرَّجُلِ يَنْصِبُ شَبَكَةً فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، وَيَتْرُكُهَا مَنْصُوبَةً وَيَأْتِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا سَمَكٌ فَيَمُتْنَ، فَقَالَ: مَا عَمِلَتْ يَدُهُ فَلا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا وَقَعَ فِيهَا.
وعَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: إِذَا ضَرَبَ صَاحِبُ الشَّبَكَةِ بِالشَّبَكَةِ فَمَا أَصَابَ فِيهَا مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فَهُوَ حَلالٌ مَا خَلا مَا لَيْسَ لَهُ قِشْرٌ وَلا يُؤْكَلُ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ.
الروايات الناهية من نفوق السمك في الماء:
سئل احد الفضلاء: وماذا تقولون عن الروايات الناهية من أكل السمك النّافق في الماء؟ أليس هناك تعارض مع هذه الروايات؟
قال سماحته: للروايات الناهية ظهور، وأما الروايات المجوّزة فهي نص في جواز الأكل، لذلك تكون حمل الظاهر على النص، ولا يبقى مجال للتّعارض.
ففي الرواية عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَيَابَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ السَّمَكِ يُصَادُ ثُمَّ يُجْعَلُ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يُعَادُ إِلَى الْمَاءِ فَيَمُوتُ فِيهِ، فَقَالَ: لا تَأْكُلْهُ.
وفي رواية اخرى عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ اصْطَادَ سَمَكَةً فَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ وَأَرْسَلَهَا فِي الْمَاءِ فَمَاتَتْ أَتُؤْكَلُ؟ قَالَ: لا.
أكل صغار السمك:
سال احد الحاضرين: وبالنسبة إلى الأسماك الصغيرة، هل تجوز أكلها حيّة؟
قال سماحته: نعم يجوز، لأنّ فقط (إخراجه حياً من الماء) سوف تتحقّق التذكية، ولا يلزم موته خارج الماء، نعم ما هو اللازم ألا ينفق داخل الماء.
وطبعاً هذا واحد من الإشكالات العلمية، وقد أشار إليه أخي الرّاحل في (الفقه)، ولكنّه فقط في حدّ الإشكال العلمي والصناعة العلمية وليس في مجال الفتيا.
شرط موت السمك:
قيل: إذا كان الموت خارج الماء جزءاً من معنى تذكية السمك، ينبغي أن نقول لا يجوز أكل هذا السمك حياً، لأنه إذا لم يمت فإنّ التذكية لن تتحقق، والآية الشريفة تصرّح: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} .
فقال سماحته: التذكية هي (إخراجه حياً)، كما صرّحت روايات التذكية هكذا، والآية المذكورة لا تتعلّق بالسمك.
وكيف إذا قلنا: سواءً أماتت هذه السمكة خارج الماء أو في معدة الشخص بعد إخراجها حيةً، لا فرق بينهما، وتُعدّ أكله تذكية.
وإذا استشكل أحد بهذا الشأن، نستطيع أن ندّعي أنّ في أكل الأسماك الصغيرة حيّة توجد هناك السيرة.
بين المذكّي والميتة:
قيل: أليس المذكّى مقابل الميتة؟ أي: إذا لم تكن ميتة ألا يكفي هذا المقدار في جواز الأكل؟ وبناءً على هذا الاصل حلية أكل هذا السمك حياً؟
قال سماحته: لا تستظهر من الأدلّة أنّه كلّما لم تكن ميتة فإنّ الأصل حلية أكلها، بل ينبغي من التذكية أيضاً.
وظاهر الأدلة أنّ التذكية شرط وجودي، وليس صرف عدم الميتة، وإن لم تقطع الأوداج الأربعة.
أصالة الحرمة وأصالة الطهارة:
سال بعض الحاضرين: بالنسبة إلى اللحم أو الجلد المطروح والذي لا نعلم بتذكيته، فقد يُقال من جانب: الأصل حرمة اللحم ولا يجوز أكله، ومن جانب آخر: الأصل الطهارة فنحكم على الجلد بالطهارة؟
فقال سماحته: إذا كان في بلد إسلامي ورأى على الأرض لحماً أو جلداً، ورأى فيه علامات هجوم حيوان مفترس، فهو حرام، ولكن إذا لم تكن فيه علامات حيوان مفترس، ولكنه يجهل هل افترسه حيوان مفترس، أو أن مسلماً ذبحه ذبحاً شرعياً، فهنا نقاش وبحث هل أنّ (أرض الإسلام) كمثل (سوق المسلمين) و(يد المسلم) إمارة على الحلية او لا؟
ومثل هذه المسألة كمثل السفرة الممدودة في الصحراء، وقد وردت الرواية فيها، والبعض كالمرحوم الوالد قالوا لا يجوز الأكل منها، وأمّا البعض الآخر كالمرحوم أخي قالوا بالجواز.
وفي بعض الأحيان وفي بلد غير إسلامي، وهي ليست (أرض الإسلام) أو (سوق المسلمين) او(يد المسلم) يرى لحماً ملقىً على الأرض ويحتمل أنّ مسلماً قد ذبحه ذبحاً شرعياً.
(ومن الواضح انه يشترط في الذبح أن يكون الذّابح مسلماً، ولكن لا يلزم ذلك في صيد السمك أن يكون السمك مصطاداً من الماء من قبل المسلم).
فاذا لم تكن في ذلك علامات، هنا قال الفقهاء: الأصل الحرمة، لأنّ القاعدة في اللحم المشكوك الحرمة لأصالة عدم التذكية، على خلاف بقية الأشياء التي يكون الأصل فيها الحلية.
ولكن هذا اللحم هل هو نجس أم لا؟
فقال مشهور الفقهاء شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعاً: نعم، إنّه نجس أيضاً، لأننا نستفيد من مجموعة الأدلّة الشرعيّة أنّ الحرمة والنجاسة متلازمتان إلا ما خرج بالدليل.
أي أنهم قالوا: كلّ لحم حكم الشارع بحرمته ولو بالأصل العملي، فهو محكوم بالنجاسة.
ولكن الشهيد الثاني (رحمه الله) هو أوّل شخص خالف المشهور، وقال في كتابه (شرح اللمعة) بالنسبة بهذا اللحم المشكوك: للأصل فيهما.
يقول (رحمه الله): لنا أصلان بالنسبة إلى هذا اللحم، أحدهما أصل الحرمة للشك في التذكية الموجودة في الحرمة، للشكّ في التذكية، والآخر أصل الطهارة لأن حرمتها غير معلومة، فإذاً يكون الموضوع أصالة الطهارة.
ولكن بعد الشهيد، لم يقل أحد بهذا القول إلا نادراً، من جهة ذلك التلازم بين الحرمة والنجاسة المستفاد عن المشهور من مجموعة الأدلّة، وليس وجود دليل خاص.
كراهة النذر وتعبّده:
سأل أحد الفضلاء: نظراً إلى كراهة أصل النّذر بملاحظة الروايات الناهية عنها، فكيف إذا نذر الشخص أمراً غير تعبّدي يكون نذراً تعبدياً بواسطة ما؟ وكيف نستطيع لشيء يكون مكروهاً ومبغوضاً ومبعِّداً أن نتقرّب به إلى المولى؟ أي كلّما هو مبعِّد يكون مقرّباً؟
فأجاب سماحته قائلاً: ماذا يُقال في العبادات المكروهة (كمثل: الصلاة المكروهة، الصوم المكروه، الغسل والوضوء المكروهين؟).
فكل حلٍ تقول به هناك، يرد هنا أيضاً، لأن الإشكال هو الجمع بين المبغوض والمحبوب.
ومن جانب آخر لا يلزم المكروه أن يكون على الدوام بمعنى المبغوض، وعلى سبيل المثال يقول الشارع المقدس: الصلاة في الحمام مكروهة، هل هذا بمعنى المبغوض؟ كلا، بل إنّ الصلاة مطلوبة، ولكن مرتبة المطلوبية والمحبوبية هي أقل مما لو لم تكن في الحمام.
النهي عن الظرف والنهي عن الأصل:
قيل: الصلاة في الحمام تفرق عن النّذر، لأن النهي عن الصلاة في الحمام ليس نهياً عن أصل الصلاة بل نهي عن الظرف، وهذا غير ما في النذر فإنّ النهي يكون عن أصل النذر؟
قال سماحته: صحيح، ولكن هذا الفرق ليس فارقاً لأن الخلاصة والنتيجة هي الإشكال في الجمع بين المبغوض والمحبوب، ومن هذه النّاحية ليس هناك فرق بين أن يكون النهي بأصل العمل أو بمقتضياته الخارجية.
مبغوضية النذر:
ذكر احد الحاضرين: هل للنذر مبغوضية؟
قال سماحته: كلا، وذلك بدليل ({يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، لأن الله سبحانه وتعالى في مقام المدح بأنّ المعصومين (عليهم السلام) يوفون بنذرهم، ومن هنا نعلم بأنّ للنذر فضيلة، ولهذا يحمل النهي في الروايات.
ومن هنا نستطيع أن نقول: الروايات الناهية عن النذر، لا تدلّ على مبغوضية النذر في نفسه، بل إنّ المبغوضية حيثية، لأنّ في هذه الرواية عُلّلت: (لا تتعرّضوا للحقوق)، أي: الواجبات في أعناقكم فلا تُضيفوا عليها بواسطة النذر.
ووردت في الرواية:
عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام)، قَالَ: (لا تُوجِبْ عَلَى نَفْسِكَ الْحُقُوق،َ وَاصْبِرْ عَلَى النَّوَائِبِ). الْحَدِيثَ.
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): (إِنِّي جَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي شُكْراً لِلَّهِ رَكْعَتَيْنِ أُصَلِّيهِمَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، أَفَأُصَلِّيهِمَا فِي السَّفَرِ بِالنَّهَارِ؟
فَقَالَ: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لأَكْرَهُ الإِيجَابَ أَنْ يُوجِبَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ.
قُلْتُ: إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُمَا لِلَّهِ عَلَيَّ إِنَّمَا جَعَلْتُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي أُصَلِّيهِمَا شُكْراً لِلَّهِ، وَلَمْ أُوجِبْهُمَا عَلَى نَفْسِي، أَفَأَدَعُهُمَا إِذَا شِئْتُ؟
قَالَ: نَعَمْ).
والخلاصة: النذر عمل عبادي إجماعاً، ونفس الاجماع كالآيات والروايات دليل شرعي.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.