LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سلسلة توجيهات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله"
نبراس المعرفة: نظام الغاب ونظام الإنسانية والرحمة
رمز 53997
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 26 صفر الأحزان 1447 - 21 أغسطس 2025

سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

جلوس الرئيس مع العبيد على التراب

روي في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: (خَمسٌ لا أدَعُهُنَّ حَتَّى المَماتِ: الأكلُ عَلَى الحَضيضِ مَعَ العَبيدِ)(1).

على الحضيض يعني على الأرض وعلى التراب. وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله يوم كان يرأس الحكومة الإسلامية وهو في المدينة المنوّرة. بالإضافة إلى كونه رسول الله عزّ وجلّ وأشرف الأولين والآخرين، وسيّد الأنبياء والمرسلين، وكانت الأمور كلّها تحت قدرته وتحت يده، وكانت الأموال كلّها تجتمع إليه ويوزّعها وهو الحاكم، في الحروب الدفاعية وفي أيّام السلم وفي كل شيء. والمراد من قوله صلى الله عليه وآله أنّه إذا كان يجد مجموعة من العبيد جالسين على الارض يأكلون كان صلى الله عليه وآله يجلس معهم. علماً بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله لا يأكل الصدقة، ولذا كان يجلس معهم ويحدّثهم ولكن لا يأكل من أكلهم، ربما يأخذ أكله معه ويأكل معهم ويجلس معهم ويحدّثهم ويستمع إليهم وإلى حاجاتهم ويقضي حوائجهم، فيجعل نفسه كأحدهم، لا أنّه يدعوهم إلى داره.

نظام الغاب

إنّ نظام العبيد في الإسلام أشبه ما يكون بالمدينة الفاضلة. وبالعكس نظام العبيد في غير الإسلام أشبه ما يكون بشريعة الغاب. ففي الغابات تكون الحيوانات الكاسرة والسباع الضارية هي الأقوى وهي التي تحكم، ويسيطر الأقوى على الأضعف، ويسيطر القوي على الضعيف. فهكذا يكون التعامل بين الوحوش في الغابات وبين السباع، وهكذا يكون نظام العبيد في غير الإسلام، أي أشبه ما يكون بنظام السباع الضارية في الغابات، وهذه هي شريعة الغاب.

هكذا وصفتهم الزهراء عليها السلام

تقول سيّدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله عليها في خطبتها العظيمة وهي تخاطب المسلمين وتذكّرهم بحالهم قبل الإسلام وتنقل جانباً من نظام العبيد في غير الإسلام قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله: (كنتم تخافون أن يتخطفّكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالي بأبي محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد اللتيا والتي)(2). ويعني أنّه هكذا كان الناس في أيّام الكفر، قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله في الحجاز وحتى في العرب والعشائر والقبائل العربية، أي كان الناس وهم في بيوتهم وفي قراهم ومدنهم لا يأمنون طول تاريخهم من أن يحمل عليهم الأقوى ويقتلهم ويأسرهم ويظلمهم. فلم يك الناس، من الرجال والنساء والأطفال والعشائر والقبائل والأقرباء، وهم في قرية وفي مدينة وفي ريف، يأمنوا أن يحمل عليهم مجموعة أقوى منهم ويغنمون منهم كل شيء، رجالهم ونساءهم وأطفالهم وأموالهم، وكان خوف الاختطاف موجوداً عند الجميع. أليس هذا شريعة الغاب؟ فممارسات الوحوش في شريعة الغاب نفسها كانت موجودة عند البشر قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله، فكانت القبيلة الأقوى تحمل على قبيلة أضعف، ليلاً أو نهاراً، فتقتل رجالهم وتأسر صبيانهم ونساءهم. وهذا كان نظام العبيد قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان يستعبدون الناس وهم أحرار جالسون في بيوتهم وقراهم ومدنهم آمنين، ولكن ليسوا بآمنين. وهكذا هو نظام العبيد في دنيا اليوم. فالعبيد الذين يتواجدون في أطراف العالم ويطلق عليهم العبيد، قد استعبدوا وصاروا عبيداً بالقوّة وبالاختطاف. أي الشخص الأقوى يختطلف مجموعة من الناس بالقوّة وبالضرب وبالقتل وبالتعذيب فيستعبدهم ويكونوا عبيداً للأقوى. وهكذا الحكومة الأقوى تستعبد الناس الذين يعيشون في حكومة أضعف.

من هم العبيد في الإسلام؟

أمّا في حكومة الإسلام ونظام الإسلام، فلا يستعبد أحد بأي وجه كان. فنظام العبيد في الإسلام غير نظام العبيد الذي يوجد في العالم، أو كان قبل الإسلام، فهو غير ذلك وهو هكذا: بأنّ الأفراد الذين اشتركوا في الحروب وفشلوا في الحروب ووقعوا في الأسر، فهؤلاهم هم العبيد، من الرجال والنساء الذين جاؤوا إلى حرب ظالمة فرضوها على رسول الله صلى الله عليه وآله، سواء من مكّة المكرّمة أو من أطراف المدينة المنوّرة، أو من العشائر والقبائل، من المشركين ومن اليهود ومن النصارى، ومن غير أن يكون ابتداء حرب من رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا ابتداء أيّة بادرة غير إنسانية من الإسلام بالنسبة إليهم، فهؤلاء الذين يفرضون الحرب ويعبرون مئات الكيلو مترات إلى المدينة المنوّرة ويعلنون أنّهم يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وآله لأنّه جاء بالإسلام ولأنّه بعث بالرسالة الإلهية ولأنّه يدعو إلى الفضيلة وإلى نبذ الرذيلة، ويريدون قتل المسلمين وهم في المدينة المنوّرة آمنين مطمئنّين، وليس لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله تعدّى على أحد، أو سبّ أحداً أو قتل أحداً، فكلا وكلا.

لما أراد المشركون أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله في مكّة المكرّمة، أمره الله عزّ وجلّ بالخروج من مكّة مهاجراً إلى المدينة المنوّرة، فتبعه المشركون وجيّشوا الجيوش وفرضوا عليه الحرب، وحاول رسول الله صلى الله عليه وآله وبمحاولات عديدة، كرّات ومرّات بأن لا تقع حرب، ولكن بالنتيجة وقعت الحرب وانتهت بانتصار رسول الله صلى الله عليه وآله وانكسار المشركين وفشلهم. فالذين اشتركوا في الحرب واشتركوا في ساحاتها وكانوا يمدّون المحاربين بالسلاح وغيره، في داخل الجبهة أو خلفها، من الرجال والنساء، ووقعوا في الأسر، فهؤلاء هم العبيد.

هكذا أمر النبي صلى الله عليه وآله

في التاريخ، بالمئات من القضايا قبل الإسلام وبعده في تاريخ غير الإسلام، كانوا يقتلون الأسرى ويعذّبونهم ويجوّعونهم ويميتونهم جوعاً وعطشاً، ويقتلونهم بالتعذيب. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما انتصر في الحروب المفروضة عليه وأسر الذين كانوا في الجبهة من الرجال والنساء، صاروا عبيداً وإماء في منطق الإسلام. ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعاملهم معاملة المدينة الفاضلة بكل دقّة، وكان يوصي بهم ويوزّع الأسرى على العوائل الإسلامية فيعيشون معهم ويتزوّجون منهم ويزوّجونهم. ولذا نجد من الغرائب في التاريخ، ومما يدلّ على أنّ العبيد في الإسلام أشبه ما يكون بالمدينة الفاضلة أنّ معظم العبيد والإماء كانوا عندما يلقون المعاملة الحسنة والأخلاق والفضيلة من المسلمين تجاههم بوصايا رسول الله صلى الله عليه وآله، كانوا سرعان ما يسلمون، رجالاً ونساء، ثم كان رسول الله صلى الله عليه وآله يوصي بمراعاتهم، بأن لا يضرب أحد عبده، وأن لا يقول أحد لعبده كلمة العبد، ولا يقول للأَمَة كلمة أَمَة. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: (ولا يقل أحدكم: عبدي وأَمَتي، وليقل: فتاي، وفتاتي)(3). وكان رسول الله صلى الله عليه وآله هو يعامل العبيد معاملة حسنة، وهم الذين كانو جناة وهم جاؤوا لحرب ظالمة ضدّ رسول الله صلى الله عليه وآله ولكنهم فشلوا في الحرب وانكسروا فيها.

يعامل الظالم بالإنسانية والرفق!

في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه ذات مرّة في إحدى الحروب، لما انتهت الحرب وقتل من قتل من المسلمين ومن المشركين، واُسر من اُسر من المشركين، جاؤوا بهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان قبل الغروب، وجعلوهم في دار حتى ينقضي الليل ويحكم رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة الفاضلة في أحكامه بالنسبة إلى العبيد والإماء. ولما أصبح الصباح قال رسول الله صلى الله عليه وآله، كما ورد في التاريخ وفي كتب الحديث الشريف، أنّه لم ينم الليلة البارحة، مع أنّه كان هو يدير الجبهة في الحرب، وكان في شدّة الإرهاق والتعب، ويقتضي أن ينام نومة عميقة. فقالوا لماذا يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله إنّ واحداً من العبيد كان يئنّ ولم يدعني أنينه أن أنم، حتى ذهبوا وعالجوا أنينه(4). فالعبيد الذين جاؤوا لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله ولقتل المسلمين ولإبادة الإسلام ولكنهم فشلوا ولم ينتصرواً، تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله اليوم معهم بالرفق والإنسانية، وهم الظالمين الذين قبل يوم كانوا يرمون رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمين بالنبال وبالرماح وبالحجارة ونحو ذلك وقتلوا من المسلمين، ولكن رفق رسول الله صلى الله عليه وآله وعطفه ورحمته ورأفته، تعامل معهم بالإنسانية وبالرفق.

نظام الإنسانية والرحمة

بلى، إنّ نظام العبيد في الإسلام أشبه ما يكون بالمدينة الفاضلة. وأمّا إذا يكون موقف العالم سلبياً مع العبيد فإنّما هو نظام العبيد الذي كان قبل الإسلام، وحتى بعد الإسلام لغير المسلمين. فقد ورد في التاريخ أنّ الصليبيّين في الحروب الثمان خلال قرابة قرنين، من سنة 1095 إلى سنة 1291 ميلادية، قاموا بالحروب الظالمة ضدّ المسلمين، وكما جاء في التاريخ، إنّهم كانوا يقتلون الأسرى ويحرقون الشيوخ والنساء والأطفال وهم أحياء، ويمثّلون بجثث المقتولين وينبشون القبور، سواء في أوروبا وآسيا. وهذا هو نظام العبيد في غير الإسلام، أي نظام الوحشية والغاب والخشونة. وأمّا نظام العبيد في الإسلام فهو نظام إنساني بما في الكلمة من معنى.

إنّنا ندعوا العالم إلى دراسة القرآن الحكيم بالنسبة إلى نظام العبيد، ودراسة تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله بالنسبة إلى العبيد، ودراسة كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وممارساته بالنسبة إلى العبيد، حتى أنّه صلى الله عليه وآله قال: (خَمسٌ لا أدَعُهُنَّ حَتَّى المَماتِ: الأكلُ عَلَى الحَضيضِ مَعَ العَبيدِ). وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــ

(1)الخصال للشيخ الصدوق: الصفحة 271، الحديث 12. وعيون أخبار الرضا للصدوق: الجزء 2، الصفحة 81، الحديث 14.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: الجزء 16، الصفحة 211-213 و249و252. والسقيفة وفدك للجوهري. وابن طيفور في كتابه بلاغات النساء.

(3)الأذكار النووية للنووي: الجزء الأول، الصفحة 363.

(4)الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله للسيّد جعفر مرتضى: الجزء ٥، الصفحة ١٢٠.