LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"النصّ الكامل لكلمة سماحة المرجع الشيرازي دام ظله ليلة 11 محرم الحرام 1438هـ :"
مصيبة الإمام الحسين تصغر عندها مصائب الأنبياء والأولياء والخلائق كلها
رمز 18285
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 22 محرّم الحرام 1438 - 24 أكتوبر 2016
 
تعريب: علاء الكاظمي
في ليلة الحادي عشر من شهر محرّم الحرام 1438 للهجرة (12/10/2016م)، ليلة الغربة والوحشة على آل الرسول الأطهار صلوات الله عليهم في كربلاء الملحمة والفداء والإباء، وكالسنوات السابقة، ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، كلمة قيّمة بجموع المعزّين، من العلماء والفضلاء، والطلبة، وعامّة شيعة أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين ومواليهم، تطرّق فيها إلى بيان بعض خصائص القضية والشعائر الحسينيتين المقدستين، إليكم نصّها:
هكذا نعزّي
أمر الإمام الباقر صلوات الله عليه، وبعد مرور سنين عديدة على واقعة كربلاء المفجعة، أمر أصحابه، في رواية، أن يعزّي بعضهم بعضاً بهذه العبارة: «عظّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف من آل محمد صلى الله عليه وآله» . وفي هذه التعزية، كأنه تصريح بأن مولانا صاحب الأمر الإمام المهديّ الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف هو الذي سيأخذ بثأر دم الإمام الحسين صلوات الله عليه، فقط.
التصرّف التكويني للإمام الحسين عليه السلام
إنّ الله تبارك وتعالى بيده التكوين والتشريع. والتكوين هو كخلق القمر والسماوات والأرضين، وخلق الجنّة وجهنّم. والتشريع هو الصلاة والصيام والعبادات والواجبات والمحرّمات والمستحبّات والمكروهات والمباحات. والعزاء على الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه، له خصائص تشريعية، وكذلك له خصائص خاصّة في عالم التكوين، وهي خصائص لم تكن حتى لأبيه وأمّه وأخيه وجدّه صلوات الله عليهم أجمعين. فالأمور التكوينية الخاصّة بالإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه، نراها في مجموعة عظيمة من الروايات، إذا جُمعت فستكون سفراً ضخماً.
إنّ مصيبة الإمام الحسين صلوات الله عليه هي مفجعة بحيث ذكرت رواية توبة آدم على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، ان الله تعالى أمر جبرئيل عليه السلام بأن ينزل إلى آدم ويعلّمه أسماء الخمسة الأطهار صلوات الله عليهم.
من التصرّفات التكوينية للإمام أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه، أو بعبارة أخرى: تأثير عزاء الإمام صلوات الله عليه، هو تأثّر آدم عليه السلام من سماعه اسم الإمام صلوات الله عليه. فبعد ترْك آدم عليه السلام للأوْلى، وتوبته وتضرّعه إلى الله تعالى وبكائه، أرشده الله تعالى إلى أنوار الخمسة الأطهار صلوات الله عليهم، وطلب منه أن يقسم عليه بأسمائهم. وكان الواسطة في ذلك هو جبرئيل عليه السلام، وعلّمه أسماء الخمسة صلوات الله عليهم. وعندما ذكر جبرئيل عليه السلام اسم الإمام الحسين صلوات الله عليه حزن آدم عليه السلام، لا إرادياً، حزناً شديداً، بحيث ذكرت الرواية الشريفة: «فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه وقال ياأخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي. قال جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب» .
بعض مصطلحات هذه الرواية لها أهمية، نشير إليها باختصار:
عين الإنسان فيها القليل من الماء. وهي ليست قِربة مليئة ويسيل منها الماء. ولذا فإنّ تعبير آدم عليه السلام عن حزنه على الإمام الحسين صلوات الله عليه يبعث على التعجّب، وهذا التعبير لا نظير له في لسان العرب ولا في اللغة العربية. فقول (جرت دموعي) يحكي عن الإغراق في البكاء، وهو أقصاه وغايته. وأما تعبير سيدنا آدم عليه السلام، وحزنه على الإمام الحسين صلوات الله عليه الذي انتاب وجوده، فهو غريب ونادر. فقد قال سيدنا آدم عليه السلام: (سالت دموعي). أي كأنها عين تدفّقت أو نهر سال على الخدّ.
في خلف عين الإنسان، توجد عدّة غدد، وعندما يتأثّر الإنسان روحياً أو يتألّم تقوم هذه الغدد بتبديل الدم إلى دمع. وهذا الأمر يتمّ عبر مقدار من القطرات، وهو ليس بمستوى الماء المسيل والجاري، أو كماء السيل المتتابع. فما هو السرّ في الحروف الأربعة لاسم الحسين، أي الحاء والسين والياء والنون، التي بمجرّد أن سمعها سيدنا آدم عليه السلام انكسر قلبه وسالت عبرته؟ وما هي الحكمة التكوينية المتضمنة في هذه الحروف، التي لا توجد حتى في الأسماء المباركة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرة السيدة فاطمة الزهراء والإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليهم أجمعين؟ فسيدنا آدم عليه السلام لم يتأثّر من سماعه لأسماء الأربعة الأطهار قبل الإمام الحسين صلوات الله عليهم، بل أحزنه وأثّر عليه الاسم النور للحسين صلوات الله عليه، وكسر قلبه.
مصيبة ما أعظمها
انتبه سيدنا آدم عليه السلام لبكائه غير المسبوق، ولهذا سأل عن دليله من جبرئيل عليه السلام. وكما نعلم ان الله تعالى يصف جبرئيل عليه السلام في القرآن بـ(الأمين)، وذلك لأمانته في نقل الأوامر الإلهية. علماً ان كل الملائكة هم في طاعة محضة لأمر الله تعالى، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، كما في قوله عزّ من قائل: «وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» . ويواصل جبرئيل عليه السلام في ذكره لمصائب الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه لآدم عليه السلام، ووصفها بقوله: (تصغر عندها المصائب). وكأن (الألف واللام) في (المصائب) لها عمومية. وبما ان جبرئيل عليه السلام هو الأمين في نقل الأوامر الإلهية، فلا شكّ وبدون ريب أن هذا الوصف هو من الله تعالى، لعِظَم مصيبة الإمام الحسين صلوات الله عليه. وهي مصيبة لا تضاهيها أيّة مصيبة أخرى. وبما ان الله سبحانه هو القائل بذلك، ندرك جيدّاً ان مصيبة الإمام الحسين صلوات الله عليه هي مصيبة فريدة ولا نظير لها في التاريخ الإلهي الذي لا أول له ولا آخر، لأن الله تعالى أزلي وأبدي وسرمدي. وهي مصيبة تصغر وتتضاءل أمامها كل المصائب.
لم تكن قليلة هي المصائب التي تحمّلها الأنبياء في سبيل تبليغ رسالاتهم. وقد تحمّل مولانا خاتم الأنبياء سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وآله مصائب أكثر من جميع الأنبياء . وكذلك كانت عظيمة ومفجعة مصائب وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله مولانا الإمام أمير المؤمنين وكذلك بضعته صلى الله عليه وآله السيدة الزهراء الطهر، وحفيده صلى الله عليه وآله الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليهم أجمعين. وإضافة إلى ذلك، إنّ مصائب الإمام صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف في عصرنا هي صعبة جدّاً ومفجعة، ولكن وكما قال الله تبارك وتعالى، فإنّ كل تلك المصائب هي ضئيلة أمام مصيبة مولانا سيد الشهداء صلوات الله عليه. فتألّم المجروحة يده هي أقلّ من تألّم المكسورة يده. ويقال بالعربية عن ذلك بـ(تصغر). ولا شكّ، لو كان هناك وصف لعظمة مصيبة الإمام الحسين صلوات الله عليه أفضل من وصف (تصغر) لاستعمله الله تعالى. فهذا الوصف يحكي عمق فاجعة كربلاء وتأثيره البالغ على مستقبل البشرية. وهي فاجعة لا يمكن للبشر أن يجبرها، سوى عند الظهور الشريف لمولانا الإمام وليّ الله الأعظم عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وعلى يده الشريفة الكفؤ لذلك.
كما علّمنا الإمام الباقر صلوات الله عليه (الذي صدّرنا به الكلام) نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أتباع الإمام وليّ العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ومن أصحابه، ومن السائرين في ركابه لأخذ ثأر الدم الطاهر لمولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه، وأن يجعلنا من (الطالبين بثاره مع وليّه الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف من آل محمد صلى الله عليه وآله). وهذا هو السبيل الوحيد للمطالبة وأخذ ثار دم الإمام الحسين صلوات الله عليه، لا غيره. فكل ما يقام به في إحياء الشعائر الحسينية المقدّسة، لا يجبر دم الإمام صلوات الله عليه ولا يجبر مصيبته، حتى تحمّل التعذيب والقتل في سبيل الشعائر.
شكر ودعاء للمعزّين الحسينيين
بناء على التكليف الشرعي، أشكر جميع من أقام العزاء على الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه، في هذه السنة، بأي نحو كان، أشكرهم جزيلاً مع تقديري لهم. فحسب الأدلّة الشرعية، من تكليف كل فرد هو الدعاء بحقّ الذين أقاموا الشعائر الحسينية المقدّسة. فقد ذكرت الروايات الشريفة ان الإمام الصادق صلوات الله عليه سجد بعد الصلاة وبكى كثيراً, بحيث ابتلّت لحيته الشريفة من دموعه. ويقول الراوي ان الإمام صلوات الله عليه دعا في سجوده لمن أحيا وأقام الشعائر الحسينية المقدّسة فقط، وذكر بعض الصعوبات والمشاكل والمصائب التي يتحمّلونها في سبيل إقامة الشعائر.
كذلك، أنا، وتأسّياً بالإمام الصادق صلوات الله عليه، أشكر جميع المقيمين للعزاء الحسيني، في كل نقطة من نقاط العالم، بالأخصّ الشيعة في العراق وإيران. وكذلك أشكر كل الذين لم يقصّروا في هذا السبيل، وشجّعوا وحثّوا على الشعائر الحسينية وأبدوا حمايتهم للمعزيّن الحسينيين وللعزاء الحسيني بلسانهم وأقلامهم وأموالهم. ولا ننسى الشيعة الذين تركوا بلادهم بسبب الأوضاع السياسية والاجتماعية المضطربة فيها، ولجؤوا إلى البلدان غير الإسلامية، وأقاموا فيها الشعائر الحسينية المقدّسة. فشهر محرم وصفر هما شهري العزاء، ولكن العزاء على الإمام الحسين صلوات الله عليه لا يختصّ بهذين الشهرين فقط، بل هو قائم على طول السنة. فأشكر جميع المعزّين الحسينيين، في كل مكان وفي كل زمان.
سعة الصدر للمعزّين الحسينيين
على خدّام ومحبّي الإمام الحسين صلوات الله عليه أن ينتبهوا إلى بعض الأمور، منها، على سبيل المثال: المرأة التي يشارك زوجها في إقامة الشعائر الحسينية، ليس من اللائق أن تلوم زوجها أو تعاتبه إذا انشغل عنها قليلاً أو قلّت رعايته لها، حتى لا تكون يوم القيامة خجلة أمام السيدة الزهراء صلوات الله عليه. وربما هذا النوع من التعامل مع زوجها قد يؤثّر على تعامل وتصرّفات الزوج بالمستقبل أيضاً.
كذلك على الرجال، أن لا يلوموا زوجاتهم اللاتي ربما يقلّ اهتمامهنّ بهم أو لا يقمن بواجبهنّ كسائر الأيام، بسبب مشاركتهنّ في العزاء الحسيني. فلا يصدر منكم ما يحرمكم، والعياذ بالله، من أن تكونوا ممن يلي الإمام الحسين صلوات الله عليه حسابهم يوم القيامة، كما هو مصرّح به في الروايات الشريفة.
نيل رضا الوالدين لإقامة الشعائر
إنّ قضية العزاء الحسيني له قواعد تشريعية، ويحظى بكثير من الخصائص التكوينية أيضاً. وقد رأت البشرية، عبر طول التاريخ، الكثير من الكرامات والأمور التكوينية في هذا المجال. وهي وقائع نادرة وخارقة، يعجز العقل البشري عن الإلمام بها، ولا نجدها إلاّ في المنظومة الحسينية. فالتضامن مع القضية الحسينية المقدّسة، ومساندة المعزّين الحسينيين، هي فرصة واجبة على الجميع.
في هذا المجال نشاهد مخالفة بعض الآباء والأمهات لإقامة بعض الشعائر. وهذا الأمر يسبّب المشاكل للشباب الملزم عليه إطاعة الوالدين، وربما يسبّب للشباب الحيرة أيضاً. فالكثير من الشباب يأتون إليّ ويذكرون لي مثل هذه المشاكل، وأنهم يواجهون المخالفة من آبائهم وأمهاتهم تجاه إحدى الشعائر الحسينية المقدّسة. فعلى الوالدين أن لا يشكلوا على أولادهم إشكالاً ليس بمحلّه، يمنع أولادهم من إقامة العزاء الحسيني. فالإمام الحسين صلوات الله عليه والعزاء عليه هي من استثناءات عالم الوجود. فضلاً عن ان الكثير من الآباء والأمهات يجهلون مسائلهم الشرعية.
المشهور بين العلماء الشيعة، من زمن الشيخ المفيد قدّس سرّه، وإلى يومك هذا، أن (تأذّي الوالدين ليس بحرام، بل الإيذاء هو الحرام). وهذا ما هو موجود في كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه وبالكثير في الشروح والحواشي المكتوبة عليه، وهذا ما يعرفه أهل العلم. فهل إذا أراد الابن أن يصلّي نافلة الليل، أو يصوم المستحبّ أو يحجّ المستحبّ، ولا يرضى الوالدين عن ذلك أو يتأذّيان له، هل يجب عدم القيام بذلك؟ فلا ريب إن الله تعالى لم يأمر بطاعة الوالدين طاعة مطلقة. فالطاعة التي لا تكون مغايرة لطاعة الله تعالى، هي طاعة واجبة وموصى بها.
علماً إنّ الله تبارك وتعالى قد أمر بشكر الوالدين وطاعتهما، حيث قال عزّ من قائل: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ» . ولا يمكن القول بخلاف حكم الله تعالى، لأنه تعالى قد أكّد على هذه المسألة كثيراً، ومن لا يعمل بحكم الله تعالى فهو عند الله تعالى سيكون كافراً تارة، وظالماً وفاسقاً تارة أخرى.
يقول عزّ وجلّ: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» .
«وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .
«وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» .
مع كل ذلك، أوصي الشباب دوماً باحترام الوالدين وبنيل رضاهما. فقد حدث كثيراً ان فلان الشاب له رغبة في دراسة العلوم الدينية ولكنه يواجه بعدم رضا الأب والأم. علماً أنه لا نقاش فيمن وجب عليه، وجوباً عينياً، وتوفّرت له الشروط لدراسة العلوم الدينية. ولكن في ظرف الواجب الكفائي، ليس من الضروري رضا الوالدين، لكن نقول الأفضل هو السعي إلى نيل رضاهما للدراسة الدينية، حتى لو تطلّب ذلك، تقبيل يداهما، والتذلّل أمامها إلى مستوى التشبّث برجليهما.
كما يلزم على الآباء والأمهات أن يكونا على علم بالمسألة الشرعية ويعرفا الفرق بين التأذّي والإيذاء. فإذا أراد الابن أن يسافر وكان هذا السفر يصاحبه عدم رضا الوالدين، إن كانت نيّته إيذاء الوالدين، فهذا العمل يسمّى (إيذاء)، وهو عمل حرام. وإن لم يكن قصده من هذا السفر إيذاء الوالدين فيسمّى (تأذّياً) وليس بحرام.
كم هو حسن أن يشكر الأب والأم نعمة الأولاد، وأن لا يتعدّيا حدودهما بما يشكلون إشكالاً ليس بمحلّه على إقامة العزاء على الإمام الحسين صلوات الله عليه، وعليهما أن لا يكفرا هذه النعمة بنحو ما. فمن اليقين ان التقصير في إقامة الشعائر الحسينية يوجب الندم والحظ السيئ في الدنيا والآخرة.
بلى، إنّ احترام مكانة الوالدين وحفظ حرمتهما، هو أمر ضروري ومهمّ على الأولاد. وعلى الشباب الذين يواجهون مخالفة آبائهم وأمهاتهم مع بعض الشعائر الحسينية المقدّسة، عليهم أن يسعوا إلى نيل رضاهما، حتى إن تعرّضوا للصفع على الوجه من قبلهما، فمثل هذه الأمور مباحة وجديرة في سبيل إقامة العزاء على الإمام الحسين صلوات الله عليه. ولعلهما يتراجعا عن رأيهما، ويتهيّأ لهما أسباب نجاتهما.
المنّ يمحق الأعمال
إنّ أصحاب المواكب لهم دور حسّاس في إقامة الشعائر الحسينية. فإدارة المئات من كبار السن والشباب مع اختلاف أذواقهم وروحياتهم هو عمل ليس بالهيّن. فلا يستبعد حضور شاب سيئ الخلق وعديم التحمّل بين الكثير من الشباب ذوي الأخلاق الحسنة. فيجب عدم طرد مثل الشاب المذكور من الحسينية أو الموكب إن تعامل بخلق سيئ أو صدر منه ما يؤذي. بل يجب التعامل معه بالمداراة وبالخلق الحسن وتحمّله، لكي لا يُحرم من مواهب النجاة والسعادة.
كما لا شكّ في أن الإخوة الكرام الذين يأخذون على عاتقهم توفير مصاريف وتكاليف المواكب، لهم الأجر والثواب الكبيرين عند المولى سيد الشهداء صلوات الله عليه. ولكن بشرط أن لا يقعوا في مصيدة الشيطان، وأن لا يمحقوا أعمالهم الحسنة بالمنّ. فالشيطان أقسم بعدائه للإنسان وهو مترصّد للإنسان دوماً. ومن الآفات التي تترصّد بأصحاب ومدراء المواكب الحسينية هو التكبّر والمنّ. فمن الظنون الخطيرة هو أن يظنّ المرء بأنه لولاه، ولولا ما يصرفه، لما تيسّر إقامة العزاء على الإمام الحسين صلوات الله عليه، وهذه الظنون من إلقاءات الشيطان على الإنسان. فخير للإنسان أن يصفع وجه أو يضرب رأسه بالجدار لكي يبتعد عن هكذا ظنون، وأفضل له من هكذا تفكير فارغ ومغرور.
يقول مولانا الإمام زين العابدين صلوات الله عليه، وهو المعصوم، في الصحيفة السجادية الشريفة، مخاطباً الباري تعالى: «وأجرِ للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمنِّ» . و(المحق) يعني فناء الأعمال إثر المنّ على الآخرين، وزوالها وانعدامها. وهذا التعبير ورد كثيراً في الروايات والأدعية الشريفة عن أهل البيت صلوات الله عليهم. فيجب على الذين يأخذون على عاتقهم توفير تكاليف إقامة الشعائر أن يحذروا من هذه الخدع الشيطانية، لكي لا يقعوا فريسة له.
مسؤولية الحكومات المهمّة تجاه الشعائر الحسينية
كما يقول الإمام المعصوم صلوات الله عليه، توجد طائفتان في المجتمع يتحمّلان مسؤولية أكثر من غيرهما، وهما: العلماء والحكّام. فالحكومات وبجنب مسؤولياتهم الحكومية، وبتمتعهم بالسيف والسوط يتمكّنون من إرعاب الناس. ولذا عليهم أن يراعوا الشعائر الحسينية وعواطف شعوبهم. وليحذروا من منع أحد من إقامة الشعائر الحسينية بإرعابه عبر تصرّفاتهم. فعرقلة الشعائر الحسينية المقدّسة، لا يمكن جبرها، ويتبعها الشقاء في الدنيا والآخرة. وهذه الوصيّة لا تخصّ الحكومات الإسلامية فقط، بل على الحكومات غير الإسلامية التي هاجر إليها المسلمون ونالوا نعمة إقامة الشعائر الحسينية وتأسيس الحسينيات فييها، عليهم أن يعرفوا قدر هذه النعمة، وهي نعمة لم تكن موجودة في تلك البلدان إلى ما قبل قرابة مائة سنة.
في الهند، يشكّل عبّاد الأوثان نسبة تسعين بالمائة من نفوسه، وهم الأغلبية، ولا يشكّل الشيعة فيه سوى انهم أقليّة بنسبة عشرة بالمائة من نفوس الهند. ولكن مع ذلك، ومع قلّة الشيعة، وبسبب وجود الحريّة للطوائف والأديان المتنوّعة بالهند، جعلوا الحريات مطلقة للشيعة، حتى يتمكّن من كان من الشيعة مسؤولاً في دائرة ما، من عدم الحضور في وظيفته للمشاركة في مراسيم عاشوراء. وقد قرأت قبل عشرات السنين، في مجلة (ثقافة الهند) التي كانت توزّعها السفارة الهندية في العراق، وكان يرسل نسخة منها إلى المرحومين والدي وأخي، قرأت فيها أن يوم عاشوراء في الهند هو يوم عطلة رسمية. وهذا يحدث في الهند الذي لا يعتقد قرابة تسعين بالمائة من شعبه بعاشوراء، لأنهم بالأصل ليسوا بمسلمين، ولكنهم ملتزمون باحترام الإمام الحسين صلوات الله عليه.
تقدّم الكفّار وإهمال المسلمون
من المؤسف حقّاً ان ترى بلداً أغلب شعبه عبّاد الأوثان وحتى على أوراقهم النقدية تجد الأوثان، تراهم يحترمون مناسبة عاشوراء ويجعلونها يوم عطلة رسمية، ولكن معظم البلدان الإسلامية لا يهتمون لهذه المناسبة العظيمة أبداً، ولا يعيرون لها أيّة قيمة. فهل يليق بالدول الإسلامية التي ترفع شعار الإسلام أن لا تجعل عاشوراء يوم عطلة؟ أليس الإمام الحسين صلوات الله عليه هو حفيد رسول الإسلام صلى الله عليه وآله؟ فالإمام الحسين صلوات الله عليه ليس من أحفاد سيدنا المسيح عليه السلام أو سيدنا موسى الكليم عليه السلام، ولكن في بعض الأماكن ترى اهتمام أتباع المسيح والكليم عليهما السلام واحترامهم ليوم استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه، ويقيمون العزاء عليه أكثر من بعض الدول الإسلامية. وقد نقلت الكثير من كتب المسلمين، ومنهم العامة، الكثير من أقوال النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله حول منزلة ومكانة السبطين الإمام الحسن والإمام الحسين صلوات الله عليهما، ولكن تراهم لا يهتمون لمناسبة عاشوراء ولا لعزاء الإمام الحسين صلوات الله عليه. وقبال ذلك ترى الهند بشعبه غير المسلم، يكرمون عاشوراء، ويجعلون هذا اليوم لعامّة الناس بالهند، من المسلمين وغيرهم، يوم عطلة رسمية.
إذن يجدر بالحكومات والحكّام أن يحترموا معتقدات شعوبهم، ولا يجرحون مشاعرهم بإهمالهم للشعائر الحسينية المقدّسة.
إحياء سيرة الرسول والأمير صلوات الله عليهما
لقد قالوا الكثير من الكلام حول الدليل والهدف من استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه، ومنه القول المشهور التالي: «أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة». فهل كان هذا هو هدف الإمام؟ وهل كان الناس في زمن الإمام الحسين صلوات الله عليه لا يصلّون؟
لوا راجعنا الغدير للعلاّمة الأميني فقط، نجد أنه ذكر فيه بأن في أرجاء الدولة الإسلامية في زمن الإمام الحسين صلوات الله عليه كانت تقام أكثر من سبعين ألف صلاة جمعة. وهذا يعني ان الناس في ذلك الزمان كانوا يصلّون وكانوا يمتثلون للواجبات الدينية كالحجّ والصيام والزكاة وغيرها.
كتب العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار نقلاً عن تفسير الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه انه في سنة من سنين زمن الإمام زين العابدين صلوات الله عليه حجّ إلى بيت الله الحرام، وكما ينقل الراوي: «أربعة آلاف ألف وخمسمائة ألف» . وأنا شخصياً وحسب ما تسعفني ذاكرتي، انه خلال سبيعن سنة الماضية، لا أتذكّر انه حجّ إلى بيت الله الحرام هذا الكمّ من الحجاجّ. وقبل زمن الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه بكثير، كانت قد أقيمت مناسك الحجّ بهذا الكمّ أيضاً. وهذا يدلّ بوضوح ان الناس في زمن الإمام الحسين صلوات الله عليه كانوا يصلّون ويصومون ويحجّون.
يقول الإمام الحسين صلوات الله عليه في تبيين سبب استشهاده وخروجه: «وأسير بسيرة جدّي وأبي» . وبالتمعّن في هذه العبارة القصيرة تتضح لنا الكثير من الحقائق عن عصر الإمام الحسين صلوات الله عليه وأهداف نهضته الحرّة. فالشواهد والقرائن التاريخية والروائية تقول بأن في ذلك الزمان كانت أحكام الإسلام كالصلاة والصيام وغيرها مقامة على الظاهر. ولا يخفى ان الصلاة في ذلك الزمان كانت صلاة بلا ولاية، وكذلك هو حجّ معظم الناس. فيتبيّن لنا ان هدف وقصد الإمام الحسين صلوات الله عليه من خروجه الذي أدّى إلى استشهاده هو وأصحابه وأهل بيته، ليس لإحياء الصلاة والصيام.
بعد النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله، وبعد حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه التي لم تطول كثيراً، غيّر وبدّل حكّام الجور الكثير من الحقائق والشرائط التي كانت في زمن النبيّ والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. حيث بدّلوها إلى ما يصبّ في صالحهم ومنافعهم. واستمر هذا التبديل والتغيير في حكومات بني أمية وبني العباس، وكان كل ذلك مغايراً لظاهر الأحكام الإلهية. ولاتّضاح بعض التبديل والتغيير في حياة الناس، أذكر لكم جانب من بعض هذه التصرّفات غير المشروعة.
نحن الآن نعيش زمناً تم فيه القبول بظاهرة العيش بإيجار واستئجار السكن. ولكن هذه الظاهرة لم تُرى في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله ولا في زمن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، إلاّ نادراً وعند الضرورة. فمثلاً كانت مختصّة بالمسافر الذي يسافر إلى مكّة مثلاً أو الكوفة أو البصرة، وكان يقصد الإقامة في تلك المدن لأيام معدودة، حيث كان يحتاج إلى استئجار مكان للسكن. ولم تجد في ذلك الزمان إنساناً يعيش الكثير من سنين عمره أو كلّه مستأجراً، أبداً. فلا تجد مثل هذه الظاهرة في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله ولا في حكومته التي كانت محدودة بالحجاز واليمن والبحرين وبأطراف هذه البلدان، ولا في تاريخ حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه التي امتدّت إلى أوروبا وأفريقيا. ولم يذكر مثل هذه الظاهرة حتى المحبّين للإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولا المعادين له. ولكن كثرت وكثرت هذه الظاهرة في الحكومات التي تلت حكومة الرسول والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، بسبب الجور والفساد الاقتصادي.
هذا الأمر تم التطرّق إليه نوعاً ما في الفقه. ففي العراق، قبل قرابة خمسين سنة ونيّف كتبت كرّاساً حول هذا الموضوع وطُبع. وكانت طباعة الكتب في العراق حينها لا تحتاج إلى إذن. وبعد أن نزل الكرّاس للسوق، أمر وزير تلك الفترة، في جريدة رسمية، بمنع الكتاب دون أن يعطي دليلاً مقنعاً. في حين كان المفروض عليه أن يتأمّل في الكراس، وأن يقبل بما فيه من المطالب النافعة.
وفي تلك الفترة كان الكثير من أهل العراق من المستأجرين، حتى أبي رحمه الله عاش مستأجراً إلى آخر عمره في بيت كان محلّ ولادة المرحوم أخي وأنا، وعشنا فيه سنين عديدة.
إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه هو السائر والمواصل لسيرة رسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما. ومن هذه السيرة الأحكام العبادية كالصلاة والصوم والحجّ. وكذلك تتضمّن الكثير من شؤون الحياة في الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ففي تاريخ حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه لم يسرق الحاكم، ولهذا لا تجد في ذلك الزمان بقاء الفتى أعزباً أو الفتاة عزبة بسبب فقرهما المالي. وبالمقابل وعند مطالعة التاريخ، تتعرّف على حكّام اتّخذوا الظلم والخيانة جلباباً لهم وتركوا سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله، وأوصلوا المجتمع إلى الفساد والفناء. فمعاوية ويزيد والمتوكّل وأمثالهم كانوا يسرقون أطناناً من الذهب.
حسب التاريخ الذي أرّخه أبناء العامّة، مات بسبب الجوع الألوف والألوف من الناس من الرجال والنساء والأطفال في الحكومات المتظاهرة بالإسلام، حتى كتب التاريخ أن بعض الناس (أكل الكلاب والسنانير والجرذان). فلماذا لم نجد مثل هذه الظواهر في زمن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه؟ ولماذا عاش الناس المأساة في زمن يزيد؟ واستمرّت هذه المآسي في زمن حكومة مروان وبني مروان وبعدهم في زمن بني العباس.
إنّ مطالعة التاريخ تعطينا صورة جيّدة في تحليل الوقائع والأحداث، وتعطينا رؤية أفضل يمكننا بها معرفة واقعة كربلاء وأهداف النهضة الحسينية المقدّسة ودراستها، ومنها المختصر التاريخي الذي مرّ ذكره، حيث يعطينا فهماً مناسباً لأهداف نهضة الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه.
نحن أتباع رسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما، ونفتخر أن سمّانا النبيّ (شيعة)، عندما قال صلى الله عليه وآله: (هذا وشيعته) . فالإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه هو السائر على نهج رسول الله صلى الله عليه وآله، ونحن نفتخر بأننا من أتباع الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ولذا علينا أن نتبع سيرة الإمام صلوات الله عليه عملياً.
من مسؤولياتنا التي هي في حدود الواجب الكفائي وتصبّ في تهيئة مقدّمات هداية البشرية إلى الإسلام ومدرسة أهل البيت صلوات الله عليهم، هي إرشاد الناس إلى قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه ومدرسة عاشوراء. فالله تعالى جعل للدنيا كلّها حسيناً واحداً صلوات الله عليه، له خصائص تكوينية خاصّة به.
نظرة على محاربة الشعائر
بنى المنصور العباسي سجناً عُرف بـ(المطبق). وبقي هذا السجن في زمن الحكّام العباسيين من بعده أي زمن هارون والمأمون والمتوكّل والواثق. وقد بُني هذا السجن في مكان بالصحراء بعيداً عن الماء. وكان عبارة عن آبار عميقة، كان عمقها من عشرين إلى خمسين متراً، وحفروا في يمين ويسار طول عمق هذه الآبار وبفواصل، حُفر تسع لشخص واحد أو اثنين فقط. وكتب التاريخ عن أوصاف هذا السجن والتعذيب فيه مفصّلاً. ونقلوا ان معظم السجناء في هذا السجن صار أمرهم إلى الموت بالأخصّ الشباب. وكان الحبس في هذا السجن مقروناً بالتعذيب الشديد. ونجا أحد السجناء من هذا السجن، فذكر لأحد أصدقائه أنهم طرحوه على الأرض على بطنه، وشدّوا رجليه ويديه، ووضعوا على ظهره ثلاثمائة رطل من الحديد. ومن الطبيعي ان الإنسان لا يتحمّل مثل هذا التعذيب سوى يوم أو يومين، أو اسبوع أو اسبوعين كأقصى فترة. وذكر التاريخ أن هذا النوع من التعذيب الشديد والمرعب كان خاصّاً بمن يقيم الشعائر الحسينية. فمعظم الذين كانوا يذهبون لزيارة قبر الإمام الحسين صلوات الله عليه، إن وقعوا في قبضة جلاوزة الحاكم كان مصيرهم السجن في المطبق. وكانوا يقطعون أيدي وأرجل بعضهم. وكانوا يبقرون بطون النساء الحوامل ويقتلوهنّ .
بعض الأحيان كان الحكّام يُبتلون بمشاكل، فكانوا يغفلون عن الزائرين الحسينيين، فكان الناس يغتنمون الفرصة ويذهبون خفية إلى زيارة مرقد الإمام الحسين صلوات الله عليه. وكان من المتعارف في ذلك الزمان ان الزائر والقاصد لكربلاء كان يودّع أهله وأقاربه، لأن الكثير منهم لم يرجع إلى أهله بعد الزيارة. وفي ذلك الزمان لم ينهى الإمام الهادي صلوات الله عليه أيّ أحد على عدم الذهاب إلى كربلاء حتى إن علم الزائر ان الزيارة فيها خطر يهدّد حياته، بل كان يشجّعهم. بينما بالنسبة للحجّ، فإنّه يجب الحجّ على المستطيع، ولكن يُحرم عليه الذهاب إلى الحجّ إن احتمل وجود الخطر على نفسه؟ وهذا ما تمّ بحثه مفصّلاً في كتب الفقه كالعروة الوثقى. وقال جماعة من الفقهاء إنْ حجّ الشخص مع وجود الخطر، فحجّه غير صحيح، وعليه أن يحجّ مرّة أخرى.
لم يذكر التاريخ أن الحجّاج قد تعرّضوا للعقوبة أو للسجن في المطبق. فالمطبق كان خاصّاً بالزائرين الحسينيين وبمحبّي الإمام الحسين صلوات الله عليه، وبمن كان يريد إقامة الشعائر الحسينية. ومع كل المخاطر التي كانت تحفّ بزيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه، لم ينهى الأئمة صلوات الله عليهم أي أحد عنها. بل ذكرت العديد من الروايات، وأشهرها عن الإمام الهادي صلوات الله عليه الذي كان معاصراً للحاكم العباسي الظالم المتوكّل، سنة 236 للهجرة، أنه صلوات الله عليه قال (مامضمونه): من يذهب لزيارة قبر الحسين صلوات الله عليه، يأتيه في طريق رجوعه مَلَك من الملائكة ويبلّغه سلام رسول الله صلى الله عليه وآله. ومثل هذه الرواية صدرت في زمن كان العقوبة فيه لزوّار الإمام الحسين صلوات الله عليه هو سجن المطبق.
عاقبة المحاربين للشعائر
لقد استقام الشيعة قبال المشاكل في القرن الأخير من التاريخ، وبالتحديد في عصر البهلوي الأول في إيران، وعصر ياسين الهاشمي في العراق. وأنا لأ أريد أن أدخل في السياسة، لأني أتجنّب الخوض في السياسة وبالذات سياسة معاوية وبني العباس. بلى قد كَتبت كتاباً عن السياسة مسبقاً، ولكن كان قصدي من السياسة في ذلك الكتاب هي سياسة الأئمة صلوات الله عليهم، الذين نقرأ عنهم صلوات الله عليهم في الزيارة الجامعة الكبيرة انهم(ساسة العباد) ليس إلاّ.
قبل أكثر من مائة وثلاثين سنة، كانت بريطانيا هي أقوى دول العالم. وحينها قصم الإنجليز ظهر إيران بقضية التبغ، وسيّروا أربعمائة ألف من الخبراء الإنجليز إلى مدن إيران. وأسّس هؤلاء الخبراء مراكز في العديد من المدن الإيرانية كشيراز وطهران وتبريز ومشهد، واستمروا بفعالياتهم قرابة سنتين أو ثلاث، حتى أصدر المرحوم الميرزا الشيرازي الكبير قدّس سرّه فتواه المشهورة سنة 1308 للهجرة، ونهى فيها عن استعمال التبغ. ولا يخفى ان لفظ (اليوم) في فتوى الشيرازي الكبير لها أهمية خاصّة، حيث دلّت على الحرمة في تلك الفترة فقط، فاستعمال التبغ لم يكن محرّماً حينها، بل كان مغايراً لمصالح المسلمين في تلك الفترة.
واجهت هذه الفتوى معارضة وتوتراً كثيراً وخلّفت المئات من القتلى. ولكن وكما جاء في كتاب (تاريخ إيران المعاصر) أدّى تحريم استعمال التبغ بواسطة الميرزا الشيرازي الكبير إلى ضرب الاستعمار الإنجليزي العجوز وضرب مصالحه في إيران، ضربة قويّة. وقد كتبوا عن بريطانيا التي كانت يرزخ تحت استعمارها الهند ثلاثمائة سنة، كتبوا عنها حينها في بعض الكتب العربية أن: «بريطانيا العظمي التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها». وهذا القول يحكي عن سعة وامتداد المستعمرات وانتشارها على الكرة الأرضية. ومع ذلك، رأت هذه القوّة العالمية، وبعد تواجدها في ايران والعراق لمدّة عشرين سنة وبضع سنين، أنها لا يمكنها مواجهة الخصم. فدخلت الحرب العلنية مع العراق. ويرجع تاريخ هذه الوقائع إلى الفترة من 1335 إلى 1337 للهجرة، أي قبل قرابة قرن وسنتين.
يوجد في العراق، بين كربلاء والنجف، في غير الطريق المعروف بينهما، مكاناً يقال له (رارنجية). حيث ان العراقيين يتلفّظون النارنج بالرارنج. والرارنجية مقتبس من قنبلة الرمّانة التي استخدمها الإنجليز في حربه مع العراق على أهالي تلك المدينة، ولهذا اشتهر هذا المكان بالرارنجية. وأصدر المرحوم الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي قدّس سرّه، فتوى مقارعة الاستعمار البريطاني، فوقعت حرباً دامية بين العراق والإنجليز، خلّفت آلاف القتلى من العراقيين والإنجليزين، ولكن كانت نتيجة هذه الحرب سنة 1338للهجرة، أي قبل قرن تقريباً، هي طرد الاستعمار البريطاني ودحره من العراق.
إثر وعي ويقظة المرجعية في ذلك الزمان، واتّحاد الناس في العراق وإيران، انكسر الإنجليز إنكساراً موجعاً. فصمّموا على جبر إنكسارهم، فضربوا إيران والعراق ضربتين، كانت الأولى تسليط البهلوي الأول على الحكم في إيران، وياسين الهاشمي في العراق. وكان البهلوي والهاشمي من عملاء بريطانيا، وقد أجريا ونفّذا خطط وسياسات الإنجليز في هذين البلدين. وذُكرت صحيفة أعمال هذين الشخصين في كتابي (تاريخ إيران والعراق المعاصرين). فالبهلوي الأول قام بمحاربة الشعائر الحسينية في الخمس سنين الأخيرة من حكمه. وكان ياسين الهاشمي رئيس وزراء العراق الذي كانت تحكمه الملكية، وكان هو يدير زمام الحكم، فشرع بمحاربة الإسلام وأهل البيت صلوات الله عليهم، بالأخصّ الشعائر الحسينية، من أول استلامه لرئاسة الوزراء.
كان مرجع الطائفة في ذلك الوقت بالعراق المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني قدّس سرّه. وكان السيد قويّاً ومقتدراً، وكانت العشائر العراقية وفية معه. فكان من موجبات تلك الخصلتين، وبعد تحمّل حكم الهاشمي لسنة ونصف السنة، طُرد ياسين الهاشمي من العراق، وقُتل بشكل غامض خارج العراق.
أما في إيران، وبسبب عدم وجود تلك الخصلتين، حَكَم البهلوي لفترة أطول، وأوجد الرعب والاضطهاد في إيران بقوّة الهراوة والقمع. وكان المرجع في إيران حينها المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري، وكان قدّس سرّه غير حاظ بما حاظ به السيد أبو الحسن الأصفهاني في العراق. ونقل لي نجل الشيخ الحائري أن والده كان يحظى بدعم وحماية ضعيفين، بحيث كان قدّس سرّه يقول: (أنا بحاجة إلى دَين وقرض ولكن لا أحد يقرضني). ومن الطبيعي إذا كانت يد المرجع غير مبسوطة، فسيصول ويجول البهلوي في البلاد ويقمع الشعائر الحسينية المقدّسة.
في الأيام الأولى من وزراة ياسين الهاشمي، قام المرحوم آية الله السيد أبو الحسن الأصفهاني قدّس سرّه باعتصام كبير في صحن الروضة العلوية المطهّرة بالنجف الأشرف، واستدعى العشائر العراقية، وكان هذا الاستدعاء هو الأول والأخير. وكما تعلمون ان نسيج المجتمع العراقي يغلب عليه العشائر. وبسبب كثرة الأفراد والمنتسبين للعشائر، تشكّل العشائر قوّة متّحدة كبيرة. والعشائر هم الذين حاموا المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي قدّس سرّه وساندوه في ثورة العشرين. فتمكّنوا من الوقوف بوجه حكومة ياسين الهاشمي ومعارضتها. وقام المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدّس سرّه ونيابة عن السيد أبي الحسن الأصفهاني بمخاطبة الناس، وأرسل رجال الدين من الحوزة إلى كل مدن العراق لتعبئة الناس، مما أدّى إلى فرار ياسين الهاشمي بعد سنة ونصف السنة من حكمه. ولا يمكن نسيان الدور الرئيسي والمؤثّر لعشائر العراق في هذا النصر والانتصار أو التغافل عنه. وإلى يومك هذا، إنّ السند والمحامي للعشائر وللمذهب هو أغلب العشائر العراقية الغيورة.
مع مرور الكثير من السنين على واقعة كربلاء، وكثرة محاربتها وعرقلتها من أمثال المتوكّل، لا زال نبراس الشعائر الحسينية ونورها الوهّاج مرشداً وهادياً لطلاّب الحقيقة. فأين المتوكّل وأمثاله، وأين البهلوي وأمثاله، وأين ياسين الهاشمي وأمثاله؟
لا شكّ، إنّ الله عزّ وجلّ يأبى إلاّ أن يتمّ نور الشعائر الحسينية المقدّسة، وهو تعالى الداعم لها. بلى قد يمهل الله تعالى، ولكنه جلّ وعلا لا يهمل. فقد أمهل تعالى، البهلوي الأول خمس سنوات، وأمهل ياسين الهاشمي سنة ونصف السنة، وكم قام البهلوي والهاشمي خلال السنوات القليلة من حكمهما بتعذيب المقيمين والمحيين للشعائر الحسينية وإيذائهم؟ ولكن كانت عاقبتهما الزوال، وفناء حتى اسمهما من عالم الدنيا، وبقيت الشعائر الحسينية المقدّسة شامخة وخالدة وأكثر تجلّياً وظهوراً.
جانب من معاداة الشعائر في التاريخ
لقد عُذّب الكثير من الناس في سبيل إقامة الشعائر الحسينية، وحُرم الكثير منهم من كثير من الحقوق المشروعة، وتعرّضوا لمصائب، عبر طول التاريخ. على سبيل المثال: كان عطية ممن رافق الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري في زيارته لقبر الإمام الحسين صلوات الله عليه في أربعينية استشهاده. وكان الناس يعدّون عطية من خدم جابر، في حين أنه كان من تلامذة جابر، ومن العلماء المرموقين، ومفسّراً للقرآن الكريم، ونال شرف صحبة عدد من الأئمة، أي الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى والإمام الحسين والإمام زين العابدين والإمام الباقر صلوات الله عليهم أجمعين.
عاش عطية أكثر من قرن، وعندما كان عمره أكثر من ثمانين سنة تعرّض له الحجّاج الثقفي وطلبه، ففرّ عطية إلى إيران. وبعد سنوات من هجرته ونزوحه إلى بلاد الغربة، ألقى جلاوزة الحجّاج القبض عليه في أطراف مدينة شيراز، فأمر الحجّاج بجلده بالسوط أربعمائة جلدة. وكان من المحتمل أن يموت عطية بسبب الجلد، لأنهم كانوا يجلدون الضحية بعد خلع ثيابه، بقوة، وعلى وجهه وبطنه ويديه ورجليه، ولكن لم يحن أجَلَ عطية، فأمر بعدها الحجّاج بنتف شعر لحيته كلّه، وكان شعر لحية عطية أبيضاً كلّه.
بلى، هكذا تعاملوا مع الشعائر الحسينية ومع المقيمين لها، ولكن لم ينفعهم ذلك، ولم يجنوا من تعاملهم سوى الذكر السيّئ.
لقد تحمّل عطية، على كبر سنّه، وصمد في سبيل إقامة الشعائر الحسينية، ولذلك يجب علينا أن لا ننغرّ أو نعجب بأنفسنا إن تعرّضنا لقليل من الحرمان أو لقليل من المصاعب. ولا شكّ إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليهم يجازي ويثيب كل من يضحّي في سبيل إقامة الشعائر.
آخر الكلام
قبل أيام، جاؤوا لي بمقطع مرئي عن أحد المؤمنين من القاطنين في الدول غير الإسلامية. ويصوّر هذا المقطع المرئي أحد بائعي الفاكهة، وهو يصيح بصوت عال (تعالوا وخذوا الفاكهة بثواب الإمام الحسين صلوات الله عليه مجاناً، تعالوا خذوا التفاح والبطيخ، والبرتقال، والموز مجاناً بثواب الإمام الحسين صلوات الله عليه). والناس من المسلمين وغير المسلمين يأتون إليه ويأخذون منه. فحقّاً يستحقّ من قام بهذا العمل أن نقول له: بارك الله بك، بارك الله بك.
كذلك في العراق وإيران، باع بعض الناس بيوتهم ومحالّهم التجارية ليصرفوا أموالها في سبيل إقامة الشعائر الحسينية المقدّسة. فيجب الاهتمام بهكذا أشخاص وبهكذا أعمال ورعايتهم. فبعض الناس استدان لأجل الشعائر الحسينية، وهم الآن لا يتمكّنون من تسديد ديونهم، فيجب إعانتهم، حتى لو يتم ذلك عبر جمع التبرّعات لهم، لإعانتهم وتسديد ديونهم. وبعضهم باع بيته في سبيل الشعائر.
أنا هنا أقول: يجوز لكم ولجميع المؤمنين التصرّف بسهم الإمام صلوات الله عليه من الخمس لأجل إعانة من باع بيته لأجل الشعائر الحسينية، لشراء بيت له، وكذلك لأجل إعانة من استدان ولم يتمكّن من تسديد ديونه، حتى يقضي ديونه. فيجب أن لا نهمل مثل هذه الأمور أو نكون غير مبالين لها، بل يجب الإعانة قدر المستطاع.
كما أذكّر بإنّ مراسيم الأربعين الحسيني، هي من الشعائر الحسينية الفريدة والمليونية التي لا نظير لها في العالم، حيث يشارك فيها عشرين إلى ثلاثين مليون إنساناً. فيجب أن نسعى إلى إقامة هذه الشعيرة بأبهى صورة، وأن نسعى إلى تهيئة وتوفير الإمكانات لها، كقضايا الإقامة والسفر للزائرين، حتى يزداد عدد المشاركين فيها، وحتى نكون ممن يخطو في سبيل توسعة الشعائر الحسينية المقدّسة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.