حجية العُرف في المفاهيم والمصاديق:
في بداية الجلسة، قال المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله:
من إحدى المسائل المهمّة السيّالة وهي مطروحة في مختلف الأبواب الفقهية، من الوضوء، الغسل، الصلاة، الصيام، الاعتكاف، الحج، وغيرها، ولها فروع كثيرة، وقد طُرحت في (العروة) أيضاً، وقد قبل بها بعض المتأخرين بعنوان إحدى الأصول المسلّمة وهي لا تحتاج إلى الدليل، ويذكرونها في كتبهم الاستدلالية وهي:
الألفاظ التي يستخدمها الشارع المقدس، لها مفهوم ومصداق، ومفهومها مأخوذة من العُرف ومتسالم عليها، إلا إذا كانت من الموضوعات المستنبطة.
ولكن في المصداق كيف؟
فهل في المصاديق العُرف أيضاً مرجع كمرجعيتها في المفاهيم؟ أم لا؟
وعلى سبيل المثال: يقول الشارع: الزكاة واجبة على الذي يكون بالغاً عاقلاً، ففي الغلات الأربعة أو الأنعام الثلاثة أو الذهب والفضة، مشروطة بوصولها إلى حدّ النصاب.
وقد عيّن الشارع نفسه موضوع البلوغ، ولكنه لم يعيّن العاقل، ولذلك نأخذ معنى العاقل والعقل من العُرف، وتشخيص العرف هذا في المفاهيم.
ومن جانب آخر قال الشارع: على طول السنة يجب أن يكون عاقلاً حتى يجب عليه الزكاة، سواءً أكانت سنة شمسية أو قمرية، بحثها في مكانها، نقول للعرف: ما هي السنة؟ يقول: يعني 365 يوماً مثلاً، من طلوع الشمس وحتى طلوع الشمس.
والآن إذا كان الشخص طوال السنة بالغاً عاقلاً وكان له إحدى الموارد المتعلّقة بالزكاة على حدّ النصاب، ولكنه جُنّ ساعة واحدة ثم اُعطي له دواءً فشوفي.
هل يصدق على هذا الشخص بأنّه عاقل طوال السنة؟
وكيف إذا استطعنا أن نقول: في العرف كان في سنة واحدة عاقلاً وله شرط وجوب الزكاة.
ولكن بعض الفقهاء صرّحوا: لم تكتمل السنة الواحدة، بل نقصت ساعة واحدة، وبناءً على هذا فإنّ الزكاة لا تجب عليه، لأنّ الشارع يقول: مشروط أن يكون طوال السنة عاقلاً.
وحتّى أنّ البعض صرّحوا: إذا كان طوال السنة عاقلاً وفقط جُنّ في آنٍ ما، فالزكاة لا تجب عليه.
ومثال هذه المسألة، أيضاً جارية في بقيّة الأبواب الفقهية، فكبرى مرجعية العرف في المصاديق، وهل أن تشخيص العرف حجّة أم لا؟
ولا إشكال أنّ العرف في المفاهيم مرجع، ولكن كيف في المصاديق؟ فيقول المشهور: كلا.
والبحث هنا: لماذا العرف في المفاهيم مرجع ولكنه ليس مرجعاً في المصاديق؟
وليست لهذه المسألة دليلاً خاصاً، وحجية العرف في المفاهيم ومرجعيتها بسبب أنّ الشارع ألقى خطاباته إلى العرف، ولذلك فإنّ ما يعرفه ويفهمه العُرف ملاك، ولكن لماذا لا يكون مرجعاً في المصاديق؟ وكلّ دليل توضّح من أجلها فهو تسامح العُرف.
يقول صاحب (العروة) في كتاب الزكاة:
(الثاني: فلا زكاة في مال المجنون في تمام الحول أو بعضه ولو أدواراً، بل قيل: إنّ عروض الجنون آناً ما يقطع الحول).
والبعض قوّى هذا (القيل)، أو قالوا: لا تخلو من قوّة، كمثل المرحوم حفيد صاحب (الجواهر)، والمرحوم آل ياسين، والمرحوم السيّد صدر الدين الصدر (رضوان الله عليهم).
والبعض أيضاً قالوا بالاحتياط الوجوبي.
ولكن صاحب (العروة) نفسه لم يقبل وقال: (لكنّه مشكل، بل لابدّ من صدق اسم المجنون وأنّه لم يكن في تمام الحول عاقلاً، والجنون آناً ما بل ساعة أزيد لا يضرّ، لصدق كونه عاقلاً).
وما يقوله: (لصدق كونه عاقلاً) فهذا الصدق عرفي والرجوع إلى العرف في المصداق، وإلا هو ليس صدق دقّي، وبناءً على هذا وفي هذا المورد: العُرف مرجعٌ في المصاديق أيضاً.
والكبار أيضاً قبلوا بأقوال صاحب (العروة)، كمثل: المرحوم النائيني، المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري، المرحوم الوالد، المرحوم الأخ، المرحوم السيد أبو الحسن، المرحوم البروجردي، المرحوم كاشف الغطاء، المرحوم الميلاني، والمرحوم السبزواري (رحمة الله عليهم أجمعين).
والمسألة هي أنّ الشارع حينما يقول كلاماً: مثلاً شخص إذا كان في السنة عاقلاً فعليه زكاة مع اجتماع سائر الشروط، و(السنة) بالدقّة العقلية إذا نقصت منها ثانية واحدة فهي ليست سنة بعد ذلك، والآن إذا كانت أكثر من ثانية فهذا واضح تماماً، ولكن العُرف مع نقصها نقول عنها السنة، يعني: عند العُرف يصدق السنة، والظّواهر جحّة.
الدقّة في المفاهيم والتسامح في المصاديق:
وقال بعض الحاضرين: العرف يدقّق في تعيين المفهوم، ويختلف في تطبيق المفاهيم على المصاديق، فهو يدقّق في الموارد المهمّة، ولا يدقّق في الموارد التي ليست لها أهمية لديه، بل يتسامح فيها.
والآن إذا قلنا للعُرف إنّ في الأحكام الشرعية، الأمر دقيق جداً، وأحكامها مهمّة للشارع حتّى لا تقلّ أو تكثر، وهنا العرف لن يتسامح أبداً، ولكن في غير هذه الصورة يتسامح وتسامحه غير معتبر.
فقال سماحته: الحديث عن المسامحات ليس كثيراً، بل الحديث عنها قليل كمثل آناً ما، فهل العُرف في المسامحات المصداقية القليلة وهي في مقابل الدقّة العقلية حجّة أم لا؟
نعم، أحكام الشارع مهم والشارع دقيق في أحكامه، ولكن الشارع ألقى هذه الأحكام إلى هذا العُرف وهو يعرف أنّه سوف يتسامح في المصاديق.
وإذا في مورد يقول العرف فيه فلا يصدق هنا، ولكنه تعامل تسامحاً، فهذا التسامح غير معتبر، ولكن في المكان الذي لا يتسامح فيه العرف ولا يتساهل معه بل يراه حقيقة، أي: أنّ الحقيقة عرفية ولكن المسامحة عقلية، ففي هذا المكان كيف يكون؟
وفي النتيجة ما هو الأصل العام والظهور؟
هل الدقّة العقلية ملاك إلا ما خرج؟ أم أنّ العُرف مع مسامحته ملاك إلا ما خرج؟
ولدينا دليل في موارد أنّه حتّى أقلّ مسامحة عرفية ليست حجّة، كمثل الوضوء والغسل فإذا بقي عضو بحدّ رأس الإبرة جافاً تبطل مع أنّ عرفاً في مثل هذا تسامح.
جاء شخص في كربلاء المقدسة عند المرحوم الوالد، وقال له: مياه الشطّ (النهر) ملوّث بالتراب، فهل الوضوء، أو الغسل صحيح بها؟
فقال المرحوم الوالد: لا مانع منها.
ثمّ ذهب ذلك الشخص وجاء بكأس ماء من النهر ملوّث بالتراب والطين، فحرّك الكأس أمامه وقال: أقصد هذا الماء؟
ومرّة أخرى قال له: لا مانع منها.
يقول الشارع: توضأ بالماء المطلق، والعرف يقول عن هذا الماء ماءاً وإن كانت بالدقّة العقلية أنّه ماء غير مطلق.
وكان المرحوم الوالد من الدقّيين وقد ذُكرت مواردها نسبةً ما في الحاشية على (العروة)، ولكن مع ذلك قال: وضوؤه صحيح.
والخلاصة: أنّ صاحب (العروة) وغيره قال مراراً: (لصدقه عرفاً) أو مثل هذا، أي أنهم قالوا بأن العرف في المصاديق أيضاً في الجملة حجّة.
وفي الختام: من المستحسن أن يلاحظ السّادة الفضلاء موارد متعدّدة في الفقه ويختاروا مبناهم حتّى لا يقعوا في الحيرة عند كلّ مورد، أو يختلفوا في الحكم مع أنّه لا يوجد دليل خاص.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.