LOGIN
المقالات
alshirazi.org
بوصلة الربيع العربي إلى أين تتّجه؟
رمز 117
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 13 فبراير 2013
كتب: علي حسين
يخبرنا التأريخ بتبادل الأمكنة بين القامع والمقموع، من دون أن يعترف القامع بما فعلته يداه وعقله، وعندما يتسلّم المقموع زمام السلطة ويتربّع على كرسي العرش، سرعان ما تصيبهُ لعنة السلطة وسحرها وامتيازاتها، فيتحول إلى قامع لا يختلف عمَّن كان يقمعه سابقاً.

هكذا تستمر دورة التأريخ السياسي العربي عبر قرون وعقود متتابعة، لتؤكّد للمراقب والمختصّ، أن الاستفادة من التجارب والوقائع هي آخر ما يفكّر فيها المقموع الذي أزاح القامع، فتحوّل بدوره إلى قامع جديد, وهكذا دواليك، إذ تؤكّد وقائع الراهن العربي بعدما تمخضّ عنه الربيع العربي المزعوم، حيث الفوضى تعمّ كل شيء، وحيث تضيع بوصلة التوجيه الصحيح في خضّم الصراع الشرس بين مقموع الأمس ومناوئيه بعد أن تحوّل إلى قامع من طراز جديد، يستخدم جميع السبل المتاحة له من أجل إقصاء الآخرين.

مبتعداً في هذا عن جذوره وتأريخه وتجاربه ودينه أيضاً، داخلاً في صراع متجدّد مع الصوت المعارض، ضارباً عرض الحائط حرية الناس وخياراتهم، هذا ما يحدث الآن في مصر وتونس وغيرهما، حيث تسير قيادات الإخوان المسلمين والقوى المنضوية تحت مسمّى الإسلام السياسي في دول عربية اخرى، في طريق الإقصاء والطغيان، دونما مراعاة لتجربة الماضي القريب عندما كانوا مكمّمين ومقصيين، وهكذا تحوّل الإخوان المقصيّون سابقاً إلى قامعين، بعد أن أصبحت السلطة رهن أيديهم وإرادتهم، ودونما محاولة تفهّم الأسوة الحسنة الممثّلة بقائد الدولة الإسلامية النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله.

يقول المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, في إحدى كلماته القيّمة: إن (النبيّ صلى الله عليه وآله، مع غض النظر عن عصمته التي نعتقد نحن بواقعيتها، لن يمكن أن تنسب إليه صلى الله عليه وآله حتى حالة واحدة من الطغيان ولو قيد شعرة، وذلك لأنه كان كما وصفه القرآن الكريم: فبما رحمة من الله لنت لهم).

لماذا القمع والتسلّط؟
هذا التساؤل يثيره المعنيون والمفكّرون بالسياسة والثقافة والفن، بل يتداوله أغلب الناس، حتى البسطاء منهم، وهم غالباً يتساءلون: لماذا يتحوّل الثائر المعارض للسلطة، إلى طاغية عندما يصل إلى العرش؟ ولماذا ينسى المعارضون المعذّبون المطارَدون ما فعل بهم طاغية الأمس، ثم كيف ينسون عذاب السجون والتشريد والملاحقة والتكميم والقهر الذي تعرّضوا له، وبعد كل هذا عندما تصبح السلطة بأيديهم، يبدؤون جولة قمع جديدة ضد المعارضين لهم؟!

أين تكمن الأسباب؟ هل العرب والمسلمين أمة تجهل التعامل مع الحريّة، وهل الديمقراطية منهج حياة لا يتسق مع الشخصية العربية، وهل هناك جذور لا تزال عالقة في العقلية العربية تمنعها من التعامل السليم مع الفرص الثمينة التي تتاح لها، لبدء حياة سياسية معاصرة تليق بكرامة الإنسان العربي؟؟

ثم هل هناك قسوة من طراز خاص في الشخصية العربية تدفعها إلى القمع عندما تكون قادرة على فعل ذلك من موقع السلطة؟

لاشكّ أن طبيعة الصحراء القاسية وسَمَتْ الشخصية العربية بشيء من القسوة، كما يرى البعض، ولكن ثمة في المقابل أسلوب اللّين الذي كان المرتكَز الأقوى لسياسة قائد الدولة الإسلامية محمد صلى الله عليه وآله، تُرى ما هو مصدر هذا الأسلوب المتحضّر الذي كان يراعي جميع الناس بمختلف أهواءهم وأفكارهم ورغباتهم، ألم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله ابن الصحراء القاسية؟

يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إنّ لين النبيّ صلى الله عليه وآله في تعامله، في أيام حكومته، هي من معاجزه الكبرى. والقرآن يقول: *لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة*. وهذا خطاب موجّه للبشرية كافّة وليس للمسلمين فقط، وبالأخصّ للحكّام).

إذن ثمّة حاجة قصوى لأسلوب اللين، فلماذا يصرّ قادة (بعض الحركات الإسلامية) على استخدام العنف والإقصاء ضد مناوئيهم؟

ثم ماذا يتوقعون من نتائج سوى الفوضى التي عمَّت بلدانهم؟ والسؤال الأكثر حضوراً هنا، ألم يدّعوا التمسّك بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله؟ فأين هو تمسّكهم، ولماذا تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى طغاة يسعون إلى تثبيت أنفسهم في السلطة وقمع الآخرين ورفض الأفكار والآراء التي لا تلتقي مع أفكارهم ومعتقداتهم؟

يقول أحد الكتّاب حول حاجة العرب لمنهج ديني مستنير ينسجم مع المرحلة الراهنة: (في خضم الأزمة المعقّدة التي تمرّ بها الأقطار العربية بعد الربيع العربي، وإقحام السياسة على الدين، والتخوّف من بوادر الانقسام الطائفي والمذهبي، بل الفئوي على خلفيات دينية، يصبح الفكر الديني المستنير مطلباً ملحّاً، وضرورة قصوى، للخروج من أزمة تغذيها إسرائيل وقوى أخرى، وينمّيها الجهل وغياب الديموقراطية، وينشرها ضعف الأحزاب والقوى المدنية. لتعمل هذه الحالة على تفتيت الوحدة الداخلية للشعوب العربية).

لكن من الواضح أن مشكلة القمع والطغيان تظهر في الشخصية العربية، كلما أتيحت لها فرصة الجلوس على العرش وتسلّم مقاليد السلطة، مع التحوّل الفوري من دور المقموع إلى قامع، والثائر إلى طاغية، والمعارض إلى حاكم متغطرس، مع تفضيل الحكم على الأخلاق، الأمر الذي يقود الحاكم ومعيته إلى الاستبداد.

في هذا الجانب يقول سماحة المرجع الشيرازي: إنّ (تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله يدلّ على العقل الكبير للنبيّ صلى الله عليه وآله. وهذه هي أخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله، أي الأخلاق ثم الحكومة. وليس كما يقال: الحكومة ثم الأخلاق، أو الحكومة مطلقاً وبلا أخلاق. فنبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله جعل الأخلاق هي أساس الحكومة).

هكذا ينبغي أن تتقدّم الأخلاق على الحكم، وأن يثبت الحاكم انه أهل للعفو كونه مصدر القوة دائماً، وهنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي قائلاً: (إنظروا إلى التاريخ وإلى دنيا اليوم، هل تجدون، ولو حاكماً واحداً، يتعرّض لمحاولة اغتيال ويقوم بالعفو عن صاحب المحاولة؟)، ويضيف سماحته قائلاً: (إنّ هذا التعامل من النبيّ صلى الله عليه وآله هو (اللين) الإلهي, بل إنّ عدم العفو هو السيّئ).

بوصلة الشورى متى تحضر؟
في ظل الفوضى التي تجتاح دول الربيع العربي، نتفق على غياب بوصلة التوجيه، التي تتضح بالخصوص في محاولات الحركات المسمّاة بالإسلامية في مصر وتونس وليبيا وسوريا وبلدان اخرى، والمستميتة لتكريس السلطة بأيديهم، وعلى مجافاتهم لمنهج التعاطف والتعاون واللين، وهي عناصر مهمة لإثبات منهجية متحرّرة تؤكّد أن الحكم مع الشعب وليس بالضدّ منه كما يحدث الآن.

إذن هناك حاجة لإعادة بوصلة التوجيه للعمل وتحديد المسارات الصحيحة، إنها بوصلة الشورى والمنهج الديمقراطي الذي لا تُصادَر في ظله حريّات الناس، وآراؤهم مهما اختلفت مع آراء الحزب الحاكم وحكومته.

يقول الإمام الشيرازي آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي قدّس سرّه في كتابه القيّم (الفقه: الشورى)، بهذا الخصوص: (كل شيء يرتبط بشؤون الأمّة لابدّ من الاستشارة فيه).

ومن المفارقات التي أفرزتها الوقائع، أن بعض الإسلاميين يتحدّثون عن توحيد المسلمين، في الوقت الذي تعمّ بلدانهم فوضى لم تعشها من قبل، ولعل التناقض الحادّ بين الأقوال والأفعال، يكفي لبيان الأهداف الحقيقية التي يسعون لها، من أجل تكريس السلطة بأيديهم، لأن قضية (وحدة المسلمين) تبدو مجرّد شعاراً لا أكثر، في ظل الوقائع التي تدينهم ومن معهم، بعدم تطابق القول مع الفعل.

في هذا الصدد يتساءل سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (أنا شخصياً ومنذ خمسين سنة أسمع بالوحدة الإسلامية وإلى يومنا هذا. ولكن لماذا لم تتحقّق ولم تتقدّم حتى خطوة واحدة؟).

من هنا على من يحاول أن يفرض القمع من جديد، أن يتذكّر أوضاعه عندما كان مقموعاً، وينبغي أن تُستثمر الفرصة المتاحة الآن لتوحيد المجتمعات العربية أكثر، وعدم تمزيقها لصالح أعدائها الذين يسعون إلى تحقيق هذا الهدف، وليس هناك سوى الشورى بوصلة ومساراً للعرب، من أجل بناء الدولة الدستورية المدنية، القادرة على حماية حقوق وحريّات الجميع دونما استثناء، لأن الناس بأشدّ الحاجة لتحقيق هذا الهدف. كما يؤكّد الإمام الشيرازي قدّس سرّه, ذلك في قوله: (إنّ الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية ـ مما تسمى بالديمقراطيةـ أو في الحكومة الإسلامية هي صمام الأمان).

المصدر: مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام