شبكة النبأ: (يجب أن تسنّ قوانين وتشريعات لا تسمح للحاكم بالظلم) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
المفكرون السياسيون والاجتماعيون وحتى علماء النفس، يتفقون على أهمية وجود الحكومة التي تدير شؤون الشعب، ومن غير الممكن أن تكون هناك دولة بلا حكومة، بل تعدّ الحكومة من أهم أركان تكوين الدولة بالإضافة إلى وجود الشعب والأرض وبقية الأركان الأخرى، فحتى مع المشكلات الكبيرة التي تصنعها الحكومات في شعوبها، إلا أنها تبقى مهمة من حيث إدارة شؤون الناس ومصالحهم المختلفة.
ومع الأهمية القصوى لوجود الحكومة في حياة الناس، إلا أنها يجب أن تتصف بصفات معروفة، وتتقيد بحدود ثابتة ومعرَّفة، كما أنها يجب أن تلتزم بأركان وتشريعات محددة، حتى لا تتحول إلى حكومة مستبدة، وكي لا يكون الحاكم فيها (سبعا ضاريا) يفترس الشعب بأسلوبه في الحكم وبقراراته القمعية المؤذية.
فقد أثبت التاريخ وكل الوقائع السياسية في الماضي والحاضر، أن الحكومة لا يمكن أن تحقق النجاح في مهامها الحكومية ما لم تكن حكومة عادلة، فالعدل أساس النجاح والتوفيق في كل شيء، وهذا يشمل الحكومات والأفراد معا، فلا توفيق يحققه الفرد ما لم يكن عادلا في حياته وفي تعاملاته المختلفة مع الآخرين، وهذا الشرط يشمل الجماعات والحكومات أيضا.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كلمة توجيهية قيمة، ضمن سلسلة محاضراته في نبراس المعرفة:
إنَّ (أساس كل موفقية هو العدل في كل شيء وكل مكان)
التوفيق الذي يطمح له الناس فرادى وجماعات، حكام وحكومات، لا يمكن أن يتحقق لهم من دون التحلي بسمة وخصلة وملَكة العدل، فقد يكون العدل سمة يتّسم بها الفرد، وهي درجة من درجات العدل، وقد يكون العدل خصلة (أخلاقية) تقع ضمن سلوكيات هذا الفرد أو ذاك، وهناك من يكون العدل عنده ملَكة يتحلى بها مثل الأئمة المعصومين عليهم السلام.
فالإمام المعصوم لا يمكن أن يظلم أحدا، لأن العدل موجود في تكوينه وخلقه، مما يجعل بينه وبين الظلم حواجز عالية، ولكن الإنسان العادي والحاكم غير المعصوم، قد يظلم الناس، وقد يتحول إلى حاكم ظالم لأنه ليس معصوما، مما يجعله عرضة للانزلاق في طريق الظلم والاستبداد، فيصبح حاكما مفترسا لشعبه بشتى الأساليب كما نجد ذلك في التاريخ والواقع.
لا تكن عليهم سبعا ضاريا
هذا بالضبط ما دفع بالإمام علي عليه السلام، بأن يوصى والي مصر الصحابي (مالك الأشتر) بأن لا يتحول إلى (سبع ضارٍ) مع الشعب، وأن يتسم بالعدل كونه الأساس في تحقيق الموفقية والنجاح، ولهذا يحذره الإمام علي من أن يرتكب خطأ التعامل غير العادل مع الناس، وأن لا يتحول إلى أسلوب التوحش الذي يتسم به الحكام غير العادلين.
لذا يذكر سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(في رسالة بعثها أمير المؤمنين عليه السلام لواليه في مصر الصحابي مالك الأشتر رضوان الله عليه قال فيها مخاطباً إيّاه: (وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً) فالسبُع هو الأسد الذي من صفاته أنه يقطـّع وينهش، ومعنى ذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام أوصى الأشتر بأن لا يكون على الرعية سبُعاً ضارياً).
كذلك لابد أن تحذر الحكومات أيضا من الانجراف في طريق الظلم والقمع والابتعاد عن ركن العدل، فالمعروف والمتوقَّع أيضا أن الحكومة تنزلق نحو الظلم، كونها تتمتع بالسلطة وعندها صلاحيات كبيرة، وهناك تشريعات تجيز لها مراقبة ومحاسبة الناس، ولكن حكوماتنا كما قرأنا في التاريخ المنظور، تمارس القسوة والسطوة على الناس.
المشكلة أيضا غالبا ما تتواجد السطوة والقسوة في وجود الحكومة، وهذا يجعل منها سيفا مسلطا على رقاب الناس، ولذلك يجب أن تتمك مراقبة أفعال وقرارات الحكومة، وأن تكون هناك مؤسسات دستورية مهمتها كبح قرارات الحكومة وتصرفاتها غير العادلة، أو تلك القرارات القاسية التي تلحق ضرارا بمصالح الشعب.
لذا يجب وضع تشريعات تحد من صلاحيات الحكومات، ولا تجعلها منفلتة، وتتصرف كما تشاء، وتصدر القرارات القمعية التي لا تخضع للرقابة والمراجعة والتمحيص، لذا يجب أن تكون هناك تشريعات جادة ورصينة لوضع حد للتنمّر الحكومي في حال حصوله، وأن تقوم الجهات التشريعية المخوَّلة بإصدار تشريعات تحد من الصلاحيات المفتوحة للحكومات.
غلق الأبواب أمام التعسف الحكومي
على الجهات التشريعية غلق طرق وسبل التعسف أمام الحكومة، وأن يكون العدل رفيقا لتصرفاتها وقراراتها، فبالعدل وحده ترتقي الحكومات، وتنمو الشعوب، وتتطور الدول، وفي غياب العدل يسود الظلم والبغضاء والصراعات، مما يحد من فرص تقدم الشعب والدولة معا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
)الحكومة لها حالة من القسوة والسطوة، مما يستدعي أن توضع قوانين تجعل الحكومة مكتوفة اليدين ولا طريق لها سوى التصرّف بعدل في كل الأمور).
ينطبق الشيء نفسه على الحاكم، فلا يجوز له ما لا يجوز لحكومته، وإذا كانت الحكومة مقيدة بتشريعات دستورية تطالبها بالعدل في إصدار القرارات، فإن الحاكم أيضا يجب أن يكون عادلا في تصرفاته وقراراته، لدرجة أنه يجب أن لا يرى لنفسه أكبر من المواطنين العاديين، بل هو بنفس مستواهم ولا يفرق عنهم بشيء.
هذا ما يجب أن يتحلى به الحاكم، وأن يكون عادلا مع الجميع، ويساوي نفسه معهم في معيار الحقوق والواجبات، ولا يفضّل نفسه عليه في أي شيء، حتى وإن كان هناك مواطنون من غير ملّته، فهذا الاختلاف لا يبيح له التمييز في التعامل معهم، بل عليه أن يتخذ من المنهج العادل في التعامل سبيلا له مع الجميع.
هذا النوع من الحكام سوف ينجح في قيادته للدولة والشعب، كونه يتخذ من العدل أسلوبا لحكمه، كما أنه يتقبل الأحكام حتى لو صدرت ضده، وهذه صفة الحكام الكبار الناجحين الموفقين، لهذا كان العدل وسيبقى سبيلا لنجاح القادة العظماء المتميزين.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الحاكم الحق هو الذي يساوي نفسه مع الرعية حتى وإن كان من غير أهل ملّته، وهذا هو الحاكم، يتقبّل الحُكم حتى وإن كان عليه وضدّه).
كمثال على العدل الذي يجب أن يلتزم به الجميع، تلك الوقفة التاريخية للسيدة الزهراء عليها السلام، في المخاض السياسي الذي استجد بعد الرسول صلى الله عليه وآله، فقد أبدت عليها السلام قبولا بالعدل كمعيار للتحكيم بينها وبين الحكومة، بمعنى أنها احتكمت إلى سبل العدل في إدارة هذه المشكلة بينها كمواطنية من الشعب وبين الحكومة آنذاك.
كما أنها عليها السلام قدمت درسا لجميع الناس في أحمية الاحتكام مع الآخرين بالعدل، كي تكون هذه ثقافة ومنهج حياة يسير عليه الناس في تنظيم حياتهم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة:
(السيدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها عندما واجهت الأمة مخاض سياسي شديد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله خاطبت الحكومة واحتكمت معهم بالعدل، لأن العدل في الحكومة مسألة في غاية الأهمية).
وهكذا يجب أن نفهم جميعا بأن الحكومات لها سطوة وقدرات وصلاحيات، وهي قادرة على إلحاق الظلم بالشعب، ما لم تقف في وجهها مؤسسات دستورية، وتشريعات تجعل من العدل لصيقا بجميع تصرفاتها وقراراتها، كذلك يجب تطوير المراقبة الشعبية ومنظمات الرقابة الدستورية لكي تُمنَع الحكومات من تغييب العدل في إدارتها لمصالح الناس.