LOGIN
المقالات
alshirazi.org
رمضان... شهر السياحة النفسية
رمز 149
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 25 يوليو 2013
شبكة النبأ: طيلة الأحد عشر شهراً، يعيش الإنسان سجين نفسه وذاته، فهو يبحث عن مصالحه وما يحقّق ذاته في الحياة، وربما هي مشروعة بل ومطلوبة، فهو يكدّ على عياله بالعمل في ميادين اختصاصه، كأن يكون عامل بناء أو خبّاز أو حدّاد، أو تاجر، أو سائق أو غير ذلك. فيجهد نفسه في تحصيل الرزق والربح الأكثر لتوفير أكبر قدر ممكن من الرفاهية لأسرته. وأكثر من ذلك، فهو ربما يفكّر في توفير الراحة النفسية، حيث يخطّط للذهاب بهم إلى رحلة استجمام هنا أو هناك، أو إلى لزيارة العتبات المقدّسة لإجراء نوع من التجديد المعنوي والروحي. كل ذلك يُعدّ من الأمور الحسنة والمطلوبة. لكن يبقى أمر واحد على الإنسان الالتفات إليه، وعدم التغافل عنه، وهو نفسه التي بين جنبيه.. فلها حقٌ عليه. فما هي سياحتها؟ وما هي فرصة التجديد؟

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, يؤكد أن: (شهر رمضان المبارك تعدّ مناسبة جيّدة جدّاً للتغيير..). وسماحته ينبّه إلى نقطة مهمة في هذا السياق، وهي ان فرصة التغيير في شهر رمضان، لا تقتصر على المتديّنين الذين يعيشون الأجواء الإيمانية، أو بالقرب من مراقد الأئمة المعصومين، بل انها - الفرصة- تمثّل باباً واسعاً يسع الجميع دون استثناء، حتى الذين يصفهم سماحته بــ(البعيدين عن الخير والصلاح والتقوى، فيمكنهم الاستفادة من أجواء هذا الشهر الكريم لتغيير أنفسهم، فقد أودع الله تعالى هذ القدرة في الإنسان).

لكن السؤال هنا؛ كيف؟

إذا كان الإنسان في حياته العادية، وخلال الأحد عشر شهراً، يحرص على ترتيب حساباته وعلاقاته ومواعيده مع هذا وذاك، وكم أخذ من هذا، وأخذ من ذاك..؟ وكيف سيحقّق ذلك العمل ويصل إلى ذاك الهدف..؟ وهكذا، عليه أن يحرص على ترتيب حساباته بينه وبين نفسه، بما لا يسمعه أو يراه أحد، وبشكل صامت تماماً، فكيف كانت ردود أفعاله على هذا الموقف أو ذاك؟ وكم مرّة كان صادقاً مع نفسه، وكم مرّة آثر الآخرين على نفسه؟ وكم مرّة تواضع وتسامح وتعاون؟

هذه العملية الحسابية بحاجة إلى هدوء مطلق، واسترخاء نفسي وبدني، وهو ما يوفّره لنا شهر رمضان المبارك، في نهاره وليله. وهذا ما يشير إليه المرجع الشيرازي في حديثه الرمضاني إلى ضرورة التوجّه في هذا الشهر الكريم، (إلى محاسبة النفس كل يوم ولو لدقائق يستعرّض الإنسان فيها ما قال وعمل، وما سكت عنه وترك.. فنحن، جميعاً بحاجة إلى ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه، يكون قد تغيّر ولو قليلاً، وملاك التغيير هو العمل بالمستحبّات وترك المكروهات، وهي السُور الثاني أو القَنطرة الثانية التي ينبغي اجتيازها إذا اعتبرنا الواجبات والمحرّمات السُور أو القنطرة الأولى).

وهنا تستوقفنا مسألة؛ فقد يقول البعض: إن الشياطين مقيّدين مغلولي الأيدي في هذا الشهر الكريم، وأنه (تغلق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان) كما في خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله. لذا فإنّ جموع الصائمين لن يكونوا على خطر عظيم، فهم من المرحومين على كل حال، ما داموا ملتزمون بفريضة الصيام، ولم يقدموا على مفطر، إلاّ ان هذا يعني أن نلغي إرادة الإنسان وقدرته المستمرة على فعل ما يريد، حتى وإن كان في ظهيرة شهر رمضان. هذه الإرادة هي التي ربما تكون عاملاً لفتح أغلال وقيود الشياطين، لتعود وتهيمن على نفس الإنسان وتسوقه إلى حيث المعصية والانحراف. ولهذا جاء في الحديث الشريف: (من صام صامت جوارحه). فالجوارح بإمكانها أن تحلّ محلّ الأكل والشرب في التسبّب في الإفطار المتعمّد نهار شهر رمضان، عندما تخور عزيمة الإنسان وتضعف إرادته وإيمانه أمام نظرة حرام، أو كلام حرام، يشوبه الكذب والغيبة والتهمة والنميمة.

إلى ذلك يوصينا سماحة المرجع الشيرازي في أن نكون من أصحاب (الصوم الخاص، وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه)، ويوضّح في حديثه الرمضاني؛ (إنّ هناك فريقاً من الناس لا يتورعون عن المعصية ويكفّون عنها وعن المحرّمات فحسب، بل يتورّعون عن التفكير فيها أيضاً، فهم يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جوارحهم عن التفكير فيها).

هذه المرتبة والمنزلة العالية من الصوم التي تسمو بالإنسان إلى مراقي التقوى والصلاح والأخلاق، تكون منطلقاً ليوسّع الإنسان شعاع تأثيره الإصلاحي على الآخرين، بعد نجاحه الباهر في تغيير نفسه وتطويرها.

سماحة المرجع يستلهم من خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، لشهر رمضان المبارك؛ (ياأيها الناس من حسَّن منكم خلقه في هذا الشهر كان له جواز على الصراط يوم تزلّ في ا?قدام). حيث أوضح: بان (من لا يحافظ على نفسه ولا يسيّطر على أفعالها فستزلّ قدماه في ا?خرة، وهذا ينطبق على الجميع دون استثناء، فكلمة (الأقدام) يعني لعامة الناس، سواء كانوا رجالاً أم نساء، وشيوخاً أو شباباً، وعلماء أو من العوام).

فكيف تزل قدم الإنسان يا ترى وهو صائم..؟

من عوامل الزلل والانحراف؛ سوء الخلق، فهي أسهل وأقرب عوامل الانحراف على الإنسان، لذا نرى سرعة ردود الأفعال العنيفة، والمواقف السيّئة والسلبية في موارد عديدة في حياتنا. بينما حسن الخلق والتعامل بالحسنى – يقول المرجع الشيرازي- فإنّه (يثبّت قدم الإنسان على الصراط المستقيم).

وبما أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وجّه حديثه إلى (الناس) فهذا يعني (أننا مكلّفون بأن نبيّن ونوصل لجميع الناس كلام رسول الله صلى الله عليه وآله). وهو الالتزام بالتقوى والعمل الصالح والأخلاق الحسنة.

من هنا يتّضح لنا أن سياحة الإنسان النفسية والروحية في شهر رمضان المبارك، تأخذه إلى عالم فسيح مخضوضر بالأخلاق والفضائل والمكارم التي تنبعث من نفسه بعد أن عرضها لعملية تجديد وتنقيح، فهو لن يكون صالحاً ومؤمناً لنفسه وحسب، وهذا بالحقيقة، ما يهتم به البعض، ويعدّه الشغل الشاغل له، فيوصينا الإسلام وعلى لسان المعصومين عليهم السلام، على أن ننشر الفضيلة والخلق الحسن بين الناس. وهذا ما يوصينا به المرجع الشيرازي في شهر رمضان بأن نعمل على تغيير الخلق السيئ عند البعض واصفاً هذا العمل بأنه (حقّاً عملاً ثميناً جدّاً، فأفراد المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالأذى).