محمد علي جواد تقي
شبكة النبأ: بالرغم من أن الزراعة، كمهنة وعمل، وما تغدقه الأرض من خيرات وفيرة، في مقدّمة المصادر التي اعتمد عليها الإنسان في توفير الغذاء والكساء والاستمرار في الحياة، نلاحظ أن هذا القطّاع يتعرّض اليوم لتجاهل كبير ومؤلم من هذا الإنسان، لأسباب عديدة أهمها الحروب والسياسات الخاطئة للأنظمة الحاكمة، بل حتى التآمر من جهات دولية أو إقليمية طامعة، تبغي التسيّد والتفرّد بأحد أهم أسباب القوّة الاقتصادية، وهي الزراعة. الأمر الذي يستدعي التفكير ملياً في استثمار أيّ فرصة لإعادة الحياة أو إنعاش هذا القطاع وجعله أحد محوري الاقتصاد إلى جانب الصناعة، كما هو موجود في البلاد المتقدّمة.
وقبل الحديث عن كيفية التوصّل إلى الرؤية الإسلامية المتكاملة في التنمية الزراعية، يجدر بنا التذكير بحقيقة مرّة عاشتها الأمة خلال القرون الماضية. فالمعروف عن الزراعة أنها كانت المصدر الأول لعيش الإنسان في العالم، حيث كانت الأرض الخصبة ملتقى المحاصيل الزراعية المتنوّعة، من خضار وفاكهة وبقوليات وغيرها، مع الرعي والتربية الحيوانية. ففي الغرب، وقبل الثورة الصناعية، كانت الزراعة محور العملية الاقتصادية والسياسية في آن واحد، إذ كانت طبقة النبلاء والحكّام، هم من ينظّم ويهيمن على الزراعة. وفي مرحلة لاحقة من التطوّر الاقتصادي والسياسي، لم تتخلّف الزراعة عن المسيرة، بل شملها التطوّر بإدخال المكننة وتحسين التربة والبذور والاستثمارات وتنظيم سياسة محكمة ومثمرة، لذا نجد الزراعة في الغرب، وتحديداً في أوروبا وأمريكا محوراً فاعلاً إلى جانب الصناعة. وقد التحقت دول من عالمنا الثالث بهذا الركب، مثل الهند والصين، بفضل السياسات الحكيمة في القطاع الزراعي. أما في البلاد الاسلامية، فبعد الغنى الهائل في الأراضي الزراعية في عديد البلاد الإسلامية، مثل العراق ومصر، نلاحظ أن الزراعة تكاد تنفصل عن عجلة الاقتصاد، بل إن توفير الغذاء للناس من خلال الاستيراد من الدول الأجنبية، بات يشكّل هاجساً كبيراً للمسؤولين الحكوميين، حيث ينشغلون بالجري هنا وهناك في أسواق العالم للحصول على الحنطة والسكر وزيت الطعام بأسعار رخيصة.
هذا الواقع المزري يشير إليه سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في كتابه (السياسة من واقع الإسلام)، حيث يشير إلى التقدّم الهائل والكبير في الزراعة في البلاد الإسلامية، رغم عدم وجود المكننة والأسمدة وغيرها من العوامل المساعدة. ويقول: (كانت الزراعة هائلة ومنقطعة النظير، حتى بالنسبة إلى هذه الأيام التي توفّرت فيها الآلات الزراعية، و تيسّر استخراج المياه والري وورشّ البذور وغيرها..) ويضيف عن مصادر اعتمدها: (أن ارض العراق كانت تخلو من الأرض غير المزروعة. وكان في مدينة البصرة وحدها في عهد الحاكم الإسلامي (بلال بن أبي بردة)، (100) ألف نهر ورافد يجري في هذه المدينة العريقة، وكانت الزوارق تسير بين المناطق والأحياء العامرة آنذاك).
ومثال آخر على التراجع الفظيع في مستوى الزراعة لدينا، يستشهد سماحته بما نقله (المقريزي)، وهو أحد أشهر المؤرخين، (أن هشام بن عبد الملك، أمر سنة 107 هجرية، عبد الله بن الحجّاب عامله على خراج مصر أن يمسحها ـ أي، يستعلم مساحتها ـ فمسحها بنفسه، فوجد مساحة أرضها الزراعية، مما يركبه النيل 30,000,000 فدان (ثلاثين مليون فداناً). بينما يقول الكاتب والمؤرخ اللبناني جرجي زيدان: مع أنّ مساحة الأرض الزراعية في وادي النيل سنة 1914 مع ما تبذله الحكومة من العناية في إخصابها وتعميرها لم تتجاوز ستّة ملايين فدان..).
هذا النمو الزراعي العظيم، هو الذي استصحب التطور العمراني في البلاد الاسلامية، حيث كانت تشهد البلاد والأمصار، نهوضاً متواصلاً في البناء والإعمار بفضل توفّر السيولة النقدية الناشئة من العمل المثمر والمنتج في الزراعة وتربية الدواجن والماشية. وهذا ما يشير إليه سماحة المرجع الشيرازي، في إشارته إلى حواضر إسلامية بارزة من البصرة وبغداد وبلاد الشام وبلاد الأندلس وغيرها. لذا يؤكد على أن (تراجع واقع الزراعة انعكس سريعاً على واقع الإعمار وإنشاء البنى التحتية، إلى جانب نسيان وجود شيء اسمه التصنيع والتكنولوجيا في بلادنا).
فما السبب في هذا التراجع والخسارة الفادحة التي مُنيت بها بلادنا الإسلامية، وفي مقدّمتها العراق، في قطاع الزراعة؟
هناك أسباب عديدة ومتداخلة، لاسيما وان التطوّر الحاصل في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتى الفكر والثقافة، أوجد نوعاً من التشابك والتأثيرات المتبادلة، حتى بات من الصعب حلّ مشكلة سياسية من دون مساعدة الجانب الاقتصادي، أو حلّ مشكلة اقتصادية مثل الفقر والبطالة والاستهلاك، من دون حلّ مشاكل اجتماعية ونفسية. والزراعة التي نرجوا أن تسهم في نمو اقتصادياتنا وتكون عامل مساعد على النهوض والتقدّم والتعويض عن سنوات التخلّف والحرمان، لابد أن تكون الحلول فيها شمولية ومتكاملة، لا جزئية أو ترقيعية ومؤقتة.
وقد انبرى العديد من الخبراء في مجال الزراعة إلى تقديم الحلول والمقترحات في هذا الشأن، كان منها ما قدّمه الخبير الاقتصادي الزراعي الدكتور محمد ابراهيم منهل العقيدي، حيث أشار في مقال له نشرته صحيفة (الصباح) بتاريخ (18-10-2009) إلى خمسة عشر مقترحاً للنهوض بالواقع الزراعي في العراقي، أبرزها: القضاء على الفساد الإداري والمالي بكل أشكاله. وزيادة نسبة الاستثمارات الوطنية، والاهتمام بالجانب الأكاديمي، بإنشاء المعاهد والمؤسسات العلمية والبحثية المعنية بالزراعة. واتّباع سياسة دعم المنتجات الزراعية المحلية في مقابل المستورد، من خلال تقديم القروض والميسّرة للمزارعين وتوفير مستلزمات الزراعة والري والحصاد وغيرها. والانسحاب التدريجي للدولة من الأنشطة الزراعية التي بإمكان القطاع الخاص من تنفيذها، وتبقى الدولة مسؤولة عن الأنشطة ذات النفع العام.
هذه الباقة من المقترحات وغيرها كثير، بحاجة إلى روح تجعلها تقف على قدميها على أرض الواقع، وإلاّ فإنّ واقع بلادنا حالياً، هو الفوضى السياسية والتبعية الاقتصادية والأزمات الاجتماعية، من قبيل البطالة والفقر والإحباط واليأس، فالكلمات والنصائح، ربما تكون صحيحة ـ والحال كذلك ـ بل وجميلة في ظاهرها، لكن تبقى نظريات مكتوبة لا يتمكّن إنسان اليوم في العراق أو في مصر وسائر بلادنا المنكوبة اقتصادياً وزراعياً، من أن يترجمها على أرض الواقع، ويحيلها برنامجاً عملياً.
من هنا، يتقدّم سماحة المرجع الشيرازي بحلول جذرية، عندما يضع يده على الجرح، وهو التدخّل الدائم والمستبّد للدولة في قطّاع الزراعة، كما هو في الصناعة وفي مجالات أخرى.. ولنفترض ونتفق مع القائل بالدور الأساس للدولة في هذا الجانب، فمن يضمن سلامة أداء هذه الدولة أو النظام السياسي الحاكم من الأخطاء التي تدفعها نحو هاوية الحروب والأزمات السياسية الداخلية أو الخارجية والتي تترك أثرها سريعاً على الزراعة؟
لذا نفهم تأكيد سماحته على ما يصفه بـ(السياسة الحكيمة للإسلام) في تحقيق العمران والزراعة، التي بهما تكون رفعة الدولة أو سقوطها ـ يقول سماحته ـ وذلك (بإباحة الأراضي لمن عمّرها بالبناء، أو الزراعة، أو فتح قناة، أو شقّ عين، أو تشييد المصانع والمعامل، أو غير ذلك. وبالحثّ على العمل والزراعة، واتّخاذ دور وسيعة، وغيرها. فعن النبي صلى الله عليه و آله: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق»، وعنه، صلى الله عليه وآله: «من أحاط حائطاً على أرض، فهي له». وعنه، صلى الله عليه و آله: «من سبق إلى ما لا يسبقه إليه المسلم، هو أحقّ به»).
ويشير إلى مسألة نفسية واضحة، وهي (أن الشخص، الذي يحصل على الأراضي المباحة، دون أي ثمن، وهو حرّ في أن يختار ما يريد أن يصنع، أو ما يشاء أن يبني، ولا ضريبة عليه، ولا إجازة ولا روتين وتعقيدات إدارية، فمن الطبيعي أنه يبدع ويقدّم وينتج، لأنه يعمل بطيب خاطر، غير مغبون ولا مجبر، ولا مشحون بتوترات نفسية تسببها الضرائب والقروض بفوائد عالية، وشحّة الأسمدة والبذور والمياه).
ولمن يلقي نظرة على الواقع الزراعي في العراق، وحتى سائر البلاد العربية والإسلامية، يجد أن المزارع في هذه الظروف الراهنة، إنما يتملّكه شعور بأنه مجرّد عتلة صغيرة في الماكنة الاقتصادية الكبيرة للدولة، حيث يعلوه كبار المستثمرين وأصحاب الأسهم ومالكي المصانع والأراضي إلى جانب المتنفذين في أجهزة الدولة. لذا فإنّه يجهد نفسه أن يقدّم المحصول الذي يضمن شيئاً من مدخوله اليومي مع تحاشي الخسارة، وخلال هذه المعمعة يكون الضغط دائماً على المستهلك، وهو المواطن العادي الذي يتفاجأ بأسعار عالية جدّاً لمحاصيل زراعية بسيطة مثل الخضار والفاكهة، وأيضاً مواد أساسية مثل السكّر والزيت واللحوم وغيرها.
من هنا يدعو سماحة المرجع الشيرازي على إعادة النظام الزراعي إلى ما كانت تتبناه الدولة الإسلامية في العهود الأولى، حيث كانت (الأرض لله ولمن عمّرها وأحياها)، بمعنى إفساح الحرية وتقديم الفرص المتكافئة للجميع لإحياء الأرض بالزارعة والرعي، والتخلّي عن سياسة الاحتكار والهيمنة على هذا القطاع الحيوي والمهم والمعطاء ليستنشق الهواء الطلق من جديد ويسهم في تقدّم البلاد وازدهارها.