LOGIN
المقالات
alshirazi.org
عاشوراء.. فنار الهداية وطريق السلام
رمز 167
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 11 نوفمبر 2013
علي حسين
من بديهيات الفعل البشري، وضمن تركيبته التكوينية والنفسية، أنه يسعى نحو الأفضل، لاسيما في الجانب المادي، بمعنى دقيق أن هناك دافعاً نفسياً يزجّ الإنسان في مسارات الطمع وتضخيم الذات وتمجيد الفعل الشخصي، لذلك غالباً ما يسعى الإنسان إلى جلب الأنظار له، (لأفكاره وأفعاله وشخصيته)، فهو يعشق ذاته، ويتمنى أن ينظر له الناس جميعاً على انه الأفضل والأقوى والأذكى والأكثر حضوراً وتميّزاً من غيره!، كل هذه الأهداف قد تكون سليمة ولا غبار عليها، عندما يتمّ تحقيقها بمساعٍ فردية خالصة، لا تتكئ على حقوق الآخرين وجهودهم، بمعنى، كن متميّزاً بجهدك ومسعاك وذكائك، ولا تجعل من حقوق الآخرين طريقاً لتمجيد الذات على حسابهم.

إنّ مشكلة الإنسان تتركز في قضية حفاظه على حقوق غيره وعدم التجاوز عليها، أثناء رحلته الشاقّة لبناء نفسه، نعم من حقّ كل إنسان أن يبني نفسه وشخصيته وتكونيه الفردي والعائلي أيضاً، لكن من الأهمية بمكان أن لا يتم هذا البناء بعيداً عن الضوابط الدينية والأخلاقية والعرفية التي تثبّت حقوق الجميع، وتمنع التمجيد والتضخيم على حساب الغير، فإذا تمكّن الإنسان من تحقيق النجاح في حياته مع الحفاظ على علاقات صحيحة مع الآخرين، فإنه يكون من أكثر الناس أحقّية للإشادة والإعجاب، لأن السائد أو الغالب في المجتمعات المتأخّرة أن الإنسان يبني نفسه على حساب الآخرين، لاسيما إذا كان ذا منصب مهم في الدولة، أو مسؤول، أو موظّف كبير في الدولة، بسبب حجم مسؤوليته، وتأثير إدارته وقراراته في حياة الآخرين، لذلك سوف يواجه الإنسان صعوبة كبيرة وعقبات كثيرة عندما يحاول أن يبني نفسه وذاته من دون التجاوز على الآخرين، وهنا يكمن الاختبار العسير!

ولعل الاختبار الأصعب في حياة الإنسان كلها، قدرته على ضبط نفسه وأهوائه ورغباته، وكبح جماحها، للحدّ من التجاوز على حقوق غيره، لأن الصراع الإنساني الجمعي والفردي برمته، يقوم على قضية حماية حقوق الآخر، والقدرة على التحكّم بالنفس ومنعها من التجاوز، فإذا تمكّن الإنسان من تحقيق هذا الهدف العظيم، عند ذاك، سنجد انه عثر على النموذج الأمثل الذي ساعده على أن يبلغ هذا الهدف العظيم، الذي يشترك في بناء الذات والمجتمع في وقت واحد، لذلك فإنّ السعي نحو الفنار الحسيني العالي هو من أجل تحقيق الهداية، وتحصين النفس من الانزلاق في المحرّمات، وهو أمر يصعب على الإنسان تحقيقه إلاّ إذا كان من ذوي الإرادات القوية، ساعياً إلى الفكر والمبدأ الذي يحصّنه من الخضوع للنفس ورغباتها.

الإنسان بحاجة للنموذج
لكي يتمكّن الإنسان من تجاوز محنة تحقيق الذات، لابد أن يخطّط بصورة سليمة لإيجاد النموذج الأمثل الذي يهتدي به، كي يصل إلى أهدافه الصعبة، إذ تعد قضية بناء الذات وتحقيق التوازن النفسي، من أصعب القضايا الشخصية التي يسعى إلى تحقيقها الإنسان، إن تاريخنا ينطوي على تجارب عظيمة يمكنها أن تكون دليلاً لنا في عملية البناء الصعب للذات والنفس، لذلك فإننا نجد في عاشوراء، بما تنطوي عليه من مبادئ وأهداف إنسانية عظيمة، فنار عالياً كي نهتدي به إلى ضالّتنا في البناء الذاتي والنفسي.

لذا يؤكّد سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في مناسبات عديدة، على أن: (ذكرى عاشوراء مافتئت مشعلاً يهتدي به الأنام، منذ استشهاد سيد الشهداء الإمام الحسين سلام الله عليه إلى يومنا هذا). هذه النظرة من لدن المصلحين والعلماء والمفكّرين، لم تأت جزافاً، فقد قدّمت لنا واقعة الطف دروساً إنسانية لا يمكن لنا غضّ الطرف عنها، فيما لو أردنا أن نحقّق السلام الروحي الفردي والجماعي في نفس الوقت، إذ من الصعوبة بمكان أن تجد بيننا من يعيش السلام الروحي وهو لا يحتمي بالإشعاع الحسيني فكراً وإيماناً ومبادئ إنسانية تجعل من كرامة الإنسان القيّمة الأهم والأكبر من كل شيء.

إنّ مجرد الاطلاع على الأهداف التي ابتغاها الإمام الحسين عليه السلام، سوف يجعلنا على إيمان راسخ بعظمة تلك الأهداف كونها ترفع الحواجز بين الحاكم والمحكوم، وتضع الحريّة في المقام الأول، وتدعو إلى المساواة والعدالة، وترفض الطغيان الفردي والجماعي الحكومي والأهلي، وتشجع على روح الإبداع، وترفض وضع العوائق أمام طاقات الإنسان ومواهبه، تلك هي عاشوراء، وهذه هي البنود التي ينطوي عليها منهجها.

لذلك يدعونا سماحة المرجع الشيرازي إلى أهمية وحتمية استثمار الفكر الحسيني على الوجه الأمثل، حينما يحثّنا سماحته قائلاً: (لنستثمر كل طاقاتنا، من أجل أن يكون الحسين صلوات الله عليه، علماً وهادياً لكل البشر). ومن الواضح والمتفق عليه أن الأحداث تتغيّر لأنها طارئة بمواصفاتها الفردية المحدودة بالزمان والمكان، والمبادئ لا تتغير بمواصفاتها العامة غير المحدودة بالزمان والمكان، فإذا تجَّسد مبدأُ في حدثٍ حتى ذوِّب مواصفاته الفردية، يكون ذلك الحدث مستمراً يتبلور ولا يتغير، لأنه تلاشى في المبدأ ذاته. وعاشوراء حدث جسَّد مبدأً، فهي ثورة الحقّ المكبوت على الباطل الطاغي، وتلاشت المواصفات الفردية فيه، لإن الإمام الحسين عليه السلام صاغه صياغة بعيدة عن أية شخصية وأنانية، بشكلٍ يبدو مبدءاً محضاً لا حدث فيه، فأصبح مستمراً في كل مظهر من مظاهر ثورة الحقّ المكبوت على الباطل الطاغي، إذاً فعاشوراء مستمر لا يمكن مسحه من ذاكرة الحياة مع بقية مبادئ الكون التي لا تنمحي من ذاكرة الحياة، بل عاشوراء روح الحياة والمبدأ وأساس الانبعاث الإنساني نحو العدالة والحياة الكريمة، أي الحياة التي يسعى إليها الإنسان من خلال الفنار الإيماني الخالد للفكر الحسيني.

ما هي مسؤوليتنا؟؟
عندما نتساءل هل الجميع يعرفون مبادئ عاشوراء، وهل وصل الفكر الحسيني إلى الجميع، هل عرفوا طبيعة المبادئ الإنسانية الخالدة لهذا الفكر؟، وإذا كانت الإجابة المأخوذة من واقع الحال تؤكّد على أن هناك من لا يعرف هذا الفكر، وهناك أناس في ربوع الأرض لم تصلهم مبادئ الحسين عليه السلام، لأسباب كثيرة، إذاً ما هي مسؤوليتنا في هذا الجانب؟؟

لقد أكّد سماحة المرجع الشيرازي في كثير من خطبه وكلماته وتوجيهاته، قائلاً في هذا الشأن: (ما أكثر الناس الذين لا يعرفون الحسين سلام الله عليه، وقضيته وأهداف نهضته، وما أثقل مسؤولياتنا). وهذا أمر واقع فعلاً، إذ أن هناك أناساً محرومون من نبع الدوحة المحمدية، وإشعاع الفكر الحسيني، بسبب الحواجز الرسمية التي تضعها بعض الأنظمة السياسية، كي تحدّ من هذا الإشعاع الإنساني الخالد، فضلاً عن الأساليب الغريبة التي تحاول بل تستميت من أجل حجب النور الحسيني المتدفق على مدى الحياة، ولكن هذا يرتب علينا مسؤوليات جسيمة، تتلخص بتوفير الإرادة الجبّارة التي تشترك وتتعاون وتعمل على إيصال الفكر الحسيني إلى الجميع، كونه طريق الهداية وفنارها، وطريق السلام الإنساني على ربوع الأرض برمّتها.

ولكن لابد أن نتفق على أن مثل هذه الأهداف الكبرى، يصعب تحقيقها بل يستحيل تفعيلها وتوصيلها إلى المحيط المستهدّف، من دون التخطيط والتنظيم والسعي المنظّم والمنضبط والمتواصل لتحقيق الهدف، لذلك عندما يحثّنا المرجع الشيرازي، ويشير سماحته إلى ضخامة مسؤوليتنا في هذا الجانب، إنما لإدراكه عظمة هذه الأهداف وتخمينه للعقبات الكبيرة والكثيرة التي تقف بوجه الساعين إلى تثبيت الفكر الحسيني ونشره في أرجاء المعمورة، حتى يكون متاحاً للجميع، ومفتاحاً لولوج أبواب الرخاء والاستقرار والتوازن، من خلال تحقيق المساواة والعدالة والاحترام المتبادل لرأي والفكر والتعايش، وبثّ روح التسامح، والوقوف صفّاً واحداً ضد الظلم أيّاً كان منشأه أو مصدره.

هكذا هي عاشوراء قيمة فكرية عظيمة تجسّدها أفعال وأعمال الإنسان تجاه إخوانه في الدين والخلق، إنها فنار الهداية الذي لا ينطفئ ما بقيت الحياة، والفكر الحسيني يسعى لبث روح السلام والانسجام بين جميع الناس، بغض النظر عن الانتماء، لذا تتجدّد مسؤوليتنا دائماً في نشر هذا الفكر العظيم الخالد، وجعله متاحاً لكل من يرتجي أملاً بالعيش بسلام وأمان.

وخلاصة القول، إنّ ذكرى عاشوراء تتجدّد، وآفاقها تتسع وتتعاظم، وفي نفس الوقت، مسؤولياتنا تكبر وتتجدّد أيضاً، والإشعاع الحسيني يعلو ويتسامى فناراً للهداية والسلام، وتتسع آفاقه أكثر فأكثر، على اننا سنبقى بحاجة دائمة إلى السعي الجاد المنظّم الدقيق، لكي نسهم في جعل هذا الفكر المتوقّد، متاحاً لكل من يقيم على هذه البسيطة.

* مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام