LOGIN
المقالات
alshirazi.org
حماية السلم الأهلي مسؤولية الجميع
رمز 322
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 23 أغسطس 2016
شبكة النبأ: السلم الأهلي غاية أساسية لدى المجتمعات الذكية، فهي تفهم أهمية هذا الشرط في تحقيق الوئام والانسجام بين مكوّنات المجتمع، ومن ثم التفرّغ للإبداع والتطوّر، علماً أن السلم الأهلي يؤثّر في جميع المجالات الأخرى، فإذا تحقّق هذا الاشتراط الهام، أصبح بالإمكان تحقيق كافّة أشكال الأمن في جميع المجالات الأخرى لحياة المجتمع، لهذا يعدّ السلم الأهلي بمثابة الدعامة الحقيقية للمجتمع ومتانة نسيجه وتناغمه وانسجامه، وهذا يقود إلى تحقيق ميزة مهمّة من مزايا المجتمعات المتطوّرة، ونعني بها عدم الانشغال بالفتن والصراعات الجانبية الفارغة، بل الانشغال بما هو أهمّ وأرقى ونعني به صناعة سبل التطوّر والتقدّم إلى أمام دائماً.
لذلك ركّزت القيم الإسلامية على أساسيات مهمّة من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع، منها على سبيل المثال التأكيد على تعميق العلاقات بالجوار وصنع أواصر إنسانية قائمة على التكافؤ والتعاون، وقد أعطى الإسلام أهمية قصوى لهذا النوع من أنواع الأمن، كونه يتعلّق بصورة مباشرة بحياة الناس، وأن أيّ خلل أو إهمال يتعرّض له الأمن الاجتماعي من لدن الحكّام والجهات المعنية، يؤدّي إلى كوارث حقيقية تصيب المجتمع، وتجعل حياته مشوّهة ومشلولة، بحيث يصبح مجتمعاً مشلولاً وخالياً من أدنى القدرات، والمواهب والطاقات التي يمكن أن تجعله مجتمعاً قويّاً متوازناً، وهذا يستعصي على التحقّق ما لم تبذل الجهود الجماعية في تحقيق السلم الأهلي، فالكل تقع عليه مسؤولية الانشغال بهذا الهدف الجوهري.
من بين الخطوات التي تسهم في تدعيم السلم الأهلي وتثبيت أركانه في أرض الواقع، اهتمام القادة والحكّام وحكوماتهم بمبدأ العدالة والمساواة وتطبيق ذلك بين جميع المكوّنات بغضّ النظر عن اختلافها أو تشابهها مع الحاكم من حيث الانتماء بأنواعه كافّة حيث تؤكّد الدلائل الملموسة أن الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، استطاعت أن تحقّق أعظم نظام لتقارب مكوّنات المجتمع وتماسكها.
حيث تحوّل المجتمع في الجزيرة العربية من جماعة يسودها الاضطراب واهتزاز القيم وسيطرة القوي على الضعيف إلى مجتمع تحكمه العدالة والقيم الإنسانية الراقية، وهذا ساعد على نحو كبير في ترسيخ السلم بين المكوّنات المجتمعية ما جعلها تندمج في مكون واحد له ثقافة واحدة تساعده على التعامل بحنكة مع النظرة إلى الحاضر والمستقبل والعمل على ترسيخ القيم الاجتماعية المتحضّرة، ومن بين القيم الجديدة في المجتمع آنذاك ما ذكره سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم، الموسوم بـ(السياسة من واقع الإسلام)، عندما ذكر قولاً لقائد الأمّة الإسلامية في هذا المجال: (فمن ترك مالاً فلورثته ومن ترك دَيناً فعليَّ).
قيم جديدة بعد الإسلام
مثل هذه القيم فاجأت الناس بسبب وقوفها إلى جانب الفقراء والضعفاء، وهذا هو المطلوب في مجتمعاتنا اليوم، بعد أن تراجعت القيم وبات القوي يعتدي على حقوق الفقراء بلا رادع ذاتي أو خارجي، أما في عهد الرسالة ودولة المسلمين الأولى، فكانت الحكومة الإسلامية في حينها، هي التي تقوم بسداد ديون المواطنين بعد موتهم إذا كان أهلهم غير قادرين على سدادها، ومن يموت ويترك وراءه أموالاً، فإنّ الدولة لا تقرب منها، والحكومة لا تأخذ منها شيئاً، إنما تترك تلك الأموال لورثة الميت، هذه الخطوة الحكومية آنذاك ساعدت على تماسك المجتمع مع بعضه من جهة ومع الحكومة من جهة أخرى، فتحقّقت تلك الانتصارات الكبرى وتسارع بناء الدولة والمجتمع بصورة قصوى.
وقد أكّد سماحة المرجع الشيرازي على أهمية هذه الركيزة الأساسية وأعطى الأولوية لتدعيم الأمن السلمي من خلال تحقيق الضمان الاجتماعي، حيث يقول سماحته: إنّ (الضمان الاجتماعي في الإسلام صبابة الإنسانية في قمّتها، ولذا فإنّ الإسلام حيث ينطلق من زاوية الإنسانية، يصب هذا الضمان بما يتوافق مع الإنسانية في أعمق أبعادها الفضيلة)، ويضيف سماحته: (إنّ كل من يموت وعليه ديون، فعلى إمام المسلمين أداء ديونه، وكل من يموت وله مال، فالمال كلّه لورثته، ليس لإمام المسلمين منه شيء).
هذا ما يحتاجه المسلمون اليوم، فعلى الرغم من قلّة الموارد في الماضي قياساً إلى موارد الدول الإسلامية اليوم، لكن الحكومة كانت تتبنّى مثل هذه القرارات الداعمة للأمن السلمي وتماسك المجتمع، وحتى يضمن الإسلام هذه الأهداف الاجتماعية الكبرى قام بسنّ التشريعات اللازمة لهذا الأمر، فقد وردت نصوص كثيرة في الشريعة الإسلامية تعالج هذا الجانب، وتحثّ على إعطائه الأهمية القصوى، كي يعيش المسلمون حياتهم بكرامة وأمن وتوادّ وانسجام.
من هنا يبيّن سماحة المرجع الشيرازي لنا بعض النقاط التي تؤكّد اهتمام الحكومة بتماسك مكوّنات المجتمع. يقول سماحته: (في نصوص الشريعة الإسلامية زخم كبير يدلّ على مدى اهتمام الإسلام بالتأكيد على هذا الجانب الاجتماعي المهم، حيث تكرّر نقل ذلك عن نبي الإسلام صلي الله عليه وآله والأئمة من العترة الطاهرة عليهم السلام).
سبل التقدّم والنجاح والاستقرار
وعن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه يذكر سماحة المرجع الشيرازي: (ما كان رسول الله صلي الله عليه وآله ينزل من منبره، إلاّ قال - من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً، فعليّ). وعن الإمام الصادق صلوات الله عليه أنّه قال: من مات وترك دَيناً، فعلينا دَينه، وإلينا عياله، ومن مات وترك مالاً، فلورثته). والحقيقة أن مثل هذه التشريعات تفتقر لها جميع الدول المعاصرة وليس المسلمين فقط، ما يعني أن نموذج دولة الرسول صلى الله عليه وآله تعدّ من أعظم نماذج الحكم وتدعيم السلم الأهلي وتمتين النسيج الاجتماعي وتماسكه.
بهذه السياسة العادلة والذكية، تمكّن الرسول صلى الله عليه وآله ومن بعده الإمام علي صلوات الله عليه من بناء دولة عظمى شهد لها أعداؤها قبل حلفائها، كما أن بناء المجتمع المتناغم والمنسجم والمتعاون كان من أهم ما سعت إليه الحكومة الإسلامية آنذاك ونجحت بالفعل في تحقيق الأهداف الاجتماعية المهمّة، خاصة تلك التي تتعلّق بالحفاظ على السلم الأهلي والمساواة من خلال تكافؤ الفرص بين الجميع، بعيداً عن تفضيل الذات مهما كانت دواعي ذلك.
بهذه الطريقة وهذا الأسلوب المتمدّن كانت الحكومة تزرع قيم التآخي والعدالة بين مكوّنات المجتمع الإسلامي من أجل الحفاظ على كرامة الإنسان، وعدم احتياجه للآخرين، علماً اننا لو أجرينا مقارنة مع أكثر الدول تقدّماً واهتماماً بالتعامل الإنساني مع مواطنيها، فإننا لا يمكن أن نجد نظاماً حكومياً يتعامل وفق هذه النظرة الإنسانية التي كانت تعتمدها الدولة الإسلامية آنذاك، بسبب إيمانها بقيم العدالة والمساواة التي ترى فيه سبيلاً إلى الحياة الحرّة التي تصنع حالة التوازن المهمة بين الشرائح والطبقات المختلفة للمجتمع فضلاً عن المكوّنات المتباينة من حيث الانتماء العرقي أو الديني أو المناطقي وما شابه.
هكذا نجحت حكومة الرسول صلى الله عليه وآله في التعامل مع القيم الإيجابية، ومنها تدعيم السلم الأهلي، وزرع الثقة بين مكوّنات المجتمع بعضها مع بعض من جهة، وبينها وبين الحكومة من جهة أخرى، وقد نجحت في ذلك، الأمر الذي شكّل نموذجاً رائعاً للتعامل مع الحكم وممارسة السلطة، وهذا درس لا ينبغي أن يهمله قادة المسلمين في الحاضر، فالحقيقة التي لا تحتاج إلى إثبات، ان من يضمن ثبات السلم الأهلي سوف يضمن سبيله نحو التقدّم والنجاح والاستقرار.