شبكة النبأ: ثمة طرائق وأساليب إنسانية المنحى والسلوك، يمكنها أن تقرّب الحاكم من شعب، ويمكنها أن تبعده، وتصنع بينهما قطيعة قد تصل خطورتها إلى الإطاحة بالحاكم، لذلك لابد للحاكم أن يبحث دائما عن العوامل التي تخدم الشعب وتأخذ بيده صوب التقدم والازدهار، ويبتعد كل البعد عن القمع والفردية والطغيان، ويستخدم أسلوب الرحمة والرعاية التي ينبغي أن يحظى بها أي شعب من قبل الحاكم وحكومته.
وكل المؤشرات تؤكد أن الحاكم الناجح والحكومة المتميزة تراعي حقوق الشعب وتفتح له آفاق التقدم، ولعل من أبرز الأساليب التي تعضّد العلاقة بين الحاكم والشعب، هو منهج اللّين كونه منهج حياة، اتخذ منه الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، أسلوبا أخلاقيا وعمليا في إدارة الدولة، وفي التعامل مع المقربين والأعداء على حد سواء، وقد أثبت هذا المنهج سلامته، وقدرته على البناء، وإمكانية كسب الجميع بما في ذلك الأفراد والجماعات المعادية، إنه منهج التوازن والعقل الراجح، وهو منهج إنساني عظيم، يتّسم بالرفعة والسموّ ونبذ الصغائر والعلو بكرامة الإنسان، لذلك فإن الجميع معنيون بهذا المنهج، بدءا من أبسط الناس وأقلهم مسؤولية، وصولا الى أكبر الناس كرئيس الدولة والوزير والمدير العام وغيره، والجميع أيضا معنيون بتطبيق منهج اللين في مفاصل الحياة كافة، العائلية والاجتماعية والعملية والسياسية وسواها، لكي نضمن نوعا من الاستقرار المجتمعي والسياسي، يسهمان في تطور وتقدم الدولة والمجتمع.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في درسه في الفقه بحث الخارج، كتاب الحجّ:
(لنحاول ونصمّم على أن نكون الأشبه برسول الله صلى الله عليه وآله، في وسط من نعيش معهم، مع العائلة، والزملاء، والأقارب، والمعارف. وكذلك على الحاكم والوزير والمحافظ ومرجع التقليد وأستاذ الجامعة وأستاذ الحوزة، أن يصمّموا على ذلك أيضاً).
الخوف يصنع شخصية مهزوزة
يعتبر الخوف من الأمراض التي تؤثر على الإنسان، وقد ينتج عنه الكثير من المشاكل التي تؤثر على سلوكياته، وتضعف من قدرته على التعامل مع الواقع بشكل سليم وطبيعي، ولهذا الشعور انعكاسات على شخصية الإنسان أيضا، وقد لا يتمكن من تأدية التزاماته تجاه المجتمع، وهكذا يمكن أن تكون الرهبة غير المبررة، أو أسلوب الترهيب في التعامل بين الآخرين، سببا في تراجع قدرات الإنسان، فينعكس ذلك على المجتمع عموما، لهذا يدعو المصلحون دائما الى أهمية تجنب الخوف والترهيب غير المبرر، بمعنى هناك خوف يجب أن يعرفه ويعيشه الإنسان حتى يتجنب الخطر، ولكن الخوف الذي ينتج عن التعامل بين الناس، مثلا بين السلطة والفرد او الشعب، هو خوف غير مقبول وهو مرفوض تماما، كونه يشل حياة الفرد والمجتمع معا.
لذلك اتخذ الرسول محمد صلى الله عليه وآله، من اللين طريقا وأسلوبا للتعامل مع الأفراد والجماعات، ومنهجا لقيادة الدولة، فكانت النتائج باهرة على مستوى الواقع، حيث أثمرت هذه السياسة عن تنامي كبير لقدرات الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الذي ازداد تماسكا وتطورت قدراته على المستويات كافة، بفضل منهج اللين الذي انتهجته حكومة الدولة مع الجميع، لذا نحن جميعا مطالبين بانتهاج اللين في ادارة حياتنا اليومية، والمرحلية والإستراتيجية أيضا، فيما يتعلق بسياسة الدولة.
لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي بكلمته ودرسه المذكور آنفا: (علينا أن نسعى إلى أن نكون أكثر لينا من أصحاب اللين الذين حولنا. وأن نكون بشكل لا يوجب خوف الطرف المقابل وخشيته منّا. والشخص الألين كنفاً، يعني الذي لا يخافه الناس ولا يهابونه ولا يخافون ولا يخشون ما يصدر منه من تعامل وقول وعمل. واللين له مراتب، ولعلّها بالآلاف، ولكن الأشبه برسول الله صلى الله عليه وآله، هو الأكثر ليناً ـ مرتبة ـ من سائر الناس).
ويضيف سماحته أيضا: (لنتعلّم من النبيّ صلى الله عليه وآله، كل حسب مقامه ومستواه ومكانته، من فضائل أخلاقية. وخطابي هذا هو للمسلمين جميعاً، وللمستضعفين جميعاً، وللضعفاء جميعاً، ولأهل الدنيا كافّة. فهذه الفضائل تصلحنا نحن أولاً، وتصلح المجتمع ثانياً).
وكما قرأنا في كتب التاريخ السياسي، فإن هنالك حكام يذهب بهم التعالي والتضخم الذاتي إلى الانتحار، إذ أن الحاكم يتعالى على الأدنى، وينظر للشعب كأنهم عبيد مخلقون لطاعته فحسب، ناسيا أن الإنسان عنده كرامة مصنوعة مع الفطرة، ويرفض الذل والخضوع إلا لخلقه، لذا هناك طرق كثيرة للتعامل مع الأدنى، أكثرها ظلما أسلوب الترهيب، وأفضلها أسلوب اللين.
لذلك يطرح سماحة المرجع الشيرازي تساؤلات منها:
(نحن وأنتم كيف نتعامل مع من هم تحت أيدينا ومن هم أدنى منّا؟ كيف يتعامل الحكّام مع من تحت أيديهم؟ كيف يتعامل الآباء والأمهات مع عوائلهم؟ وكيف تتعامل الزوجة مع زوجها؟ وكيف يتعامل الزوج مع زوجته؟).
وهذه أسئلة تثير إشكالات مهمة في قضية التعامل مع الادنى، إذ ربما نغفل منهج اللين في تعاملنا مع الادنى، فتكون العواقب وخيمة على المجتمع، لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أن التأسي برسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، سيجعل من اللّين منهجا لنا، وهذا ما سيرتفع بنا الى مراتب عليا من الاستقرار والتطور والسلم المجتمعي.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على:
(إن دفع الإساءة بالحسنى والأحسن معناها عند أغلب الناس، انها توجب صلاح الناس وصلاح من يسمع بهذا التعامل). وقد دعا سماحته الى أهمية الفضائل، كونها السبيل الى اتخاذ المواقف السليمة من الجميع، حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في درسه المذكور نفسه، على: (انّ نفوس البشر، حتى الذين نفوسهم خبيثة، تهزّها الفضائل، والتعامل الحسن يحوّلها ويغيّرها، إلاّ ما ندر).
ولذلك ثمة تعاضد بين القيم الايجابية، حيث اللين والفضيلة والأخلاق الكريمة تتحد جميعها، فتصنع مجتمعا راقيا خاليا من أية مشكلات عصيّة على الحل، إذ ينبّه سماحة المرجع الشيرازي الى أهمية الأخلاق واللين قائلا:
(إذا بنيت الدنيا على الأخلاق فستقلّ فيها الكثير من المشاكل، ولا أقول تزول لأن الدنيا محفوفة بالمشاكل. وإذا صار العفو ولين الكنف هو المبنى في العائلة وفي العشيرة وفي الأقارب، فسيقلّ فيهم الأشخاص المذنبون والمجرمون والقاتلون والعاصون).
ولعلنا نفهم تمام الفهم من خلال تجارب القمع التي خاضها المسلمون مع حكامهم، وبقية الدول الأخرى المعروفة بظلم حكامها، نفهم بأن صالح الحاكم يكمن بالضبط في تعاونه مع شغبه، والأخذ به نحو السمو ليس في العلم وحده، أو في التطور العمراني المادي وحده، وإنما في تنمية الجانب الروحي والأخلاقي، لأن ضعف أو غياب الأخلاق يعني فيما يعنيه، اضمحلال الأمة وتفشي الضغينة والحسد والصراع بين أقرب الناس، من هنا يجب أن يفهم الحاكم أن الأخلاق وحدها تضبط الشعب وليس القمع، والأخلاق يمكن أن تنمو بمنهج اللين، ويعيش الشعب في وئام وسلام، من خلال نشر وتطبيق قيم اللين والأخلاق.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أن:
(الحكومة الفاضلة يعني التعامل باللين حتى مع الأعداء والمعارضين).