شبكة النبأ: من المهام الكبرى للدين، أنه يسعى لتشذيب النفس، وتنظيفه من أدران المحرّمات، ويدفع بالإنسان إلى التوازن والانضباط، ومع أن حالة التوازن وردع النفس وضبطها تحتاج إلى التقوى والاتزان، لكن ذلك لم يمنع المتون والنصوص الدينية من حضّ الناس على أهمية الارتقاء في سلم الأشياء الصالحة، أي أن الدين لا يكبّل قدرات الفرد أو الجماعة ويطالب دائما أن يمضي الناس قُدُماً في سلّم الارتقاء.
وقد حدد سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، الكيفية التي ينبغي أن يسلكها الإنسان لكي يمضي صعودا في سلّم الارتقاء، ويؤكد سماحته في معظم كلماته وتوجيهاته ومؤلَّفاته، أن ليس أمام الإنسان سوى السعي الدائم في طريق رفع الذات وتطوير مزايا النفس، ودفعها رويدا في طريق السمو والعلو والارتقاء، وبيّن سماحته أمرين هامين لضمان تحقق الارتقاء، وتطور الإنسان وإمكانية أن يجمع بين الانضباط من ناحية، والمضيّ بقوة في سبل الارتقاء المختلفة.
فقد وجّهَ سماحته: بـ (أنّ أهم ما يقدّمه المرء في الدنيا، وكما قال القرآن الكريم وأهل البيت صلوات الله عليهم، هو أمران: الأول: تزكية النفس. قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) سورة الشمس: الآية9. والثاني: هداية الناس، والعمل في كل ما يصبّ في هذا المجال).
ومن الجدير بالذكر، وهذا ما أكد عليه سماحة المرجع الشيرازي، أن تقدم الإنسان وصعوده وتقدمه إلى أمام لن يقف عند حد معين، أي ليست هناك حدود نهائية للسمو والارتقاء، لهذا يمكن للإنسان أن يواصل سعيه في هذا الطريق طالما كان موجودا على قيد الحياة، فهو مثلا يمكنه أن يتقدم ويعلو في العلم، ويمكنه أن ينجح ويتطور في عمله التجاري أو السياسي أو المهني أياً كان نوعه.
فالإنسان مطالَب بالفعل أن يكون ناجحا ومستمرا في صعود وتسلق سلّم الارتقاء، ولكن ثمة ما يتصدّر هذا الصعود ويتقدم على كل النجاحات الأخرى، إنه سلّم الأخلاق، وسلّم التقوى، وسلّم هداية الناس، وجميع القيم الأخرى المفيدة، فباب التقدم والارتقاء في جميع القيم الراقية مفتوح أمام الإنسان، وهذا ما يطالب به الإسلام، ويؤكّد عليه، إذ ليس من المعقول أن يحقق البشر نجاحا في عمله، ويكون لديه نقص في الأخلاق لا سمح الله، أو في التقوى، أو في إنصاف الناس وحفظ حقوقهم، فالهدف المهم والدائم الذي يحثّنا عليه سماحة المرجع الشيرازي، هو أن نواصل الارتقاء، ولكن ما هو أهم أن تتصدر كل نجاحاتنا القيم السليمة، كالأخلاق، والإنصاف، والتقوى، وهذا الأمر لا تحدّه حدود، إذ يمكن للإنسان أن يتقدم ويرتقي دائما في الجودة والخُلُق والتقوى وغيرها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في إحدى كلماته التوجيهية القيمة:
(مهما كان المرء جيّداً، يمكنه أن يرتقي في هذا الجيّد أكثر وأكثر. ومهما كان المرء صاحب خلق حسن، يمكنه أن يصعد بهذا الخلق أعلى وأعلى. ومهما كان المرء متّقياً فالباب مفتوح له للارتقاء بالتقوى أكثر).
الإنسان وسلَّم الارتقاء
نعم بإمكان الإنسان أن يطور نفسه، ليس في المجال المهني وحده، وإنما في المجالات الروحية والإيمانية والمعنوية الداعمة للنجاح المادي والمهني، لذلك يؤاخذ على الإنسان حين يكون قادرا على الارتقاء، وتسنح له العديد من الفرص لتحقيق هذا الهدف، لكنه يتقاعس ويتراجع وينشغل بما هو مادي نفعي مباشر، ولا يعبأ بما هو أهم ونعني بذلك ما أكد عليه سماحته مرارا وتكرارا، وهو تنمية وتطوير الجانب الآخر من قدرات الإنسان، وهو الجانب الإيماني والروحي والأخلاقي.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب:
(من المؤسف حقّاً للإنسان الذي يمكنه أن يرتقي بالدرجات، ولكنه لا يعمل على الارتقاء).
إذاً من غير المفهوم حقا لماذا تلوح للناس فرص كبيرة وعديدة لصعود سلم الارتقاء، لكنهم يتعثرون أو يترددون في ذلك.
مع أن الله تعالى منح الإنسان قدرات هائلة لخدمة نفسه وتطويرها، ليس هذا فحسب بل خدمة وتطوير الآخرين ورفعهم ودفعهم نحو السمو والارتقاء أكثر، لاسيما أن الإنسان يمكن أن تغيّر مصيره كلمة، وربما فكرة، أو مؤلَّف يطلع عليه ويتناغم مع نفسيته وتوجهاته، أو ينبهه على زلّاته وأخطائه، فيعود إلى رشده ويسلك سواء السبيل، بسبب كلمة، أو نصيحة، أو كتاب نقدّمه له فيجد فيه ضالته الإيمانية ويحصل على درجة الرشد، فيصبح إنسانا واعيا راقيا قائدا لنفسه وناصحا لغيره ممن يحتاج للنصح لكي يرتقي بنفسه ويعلو بها في الفكر والعقيدة والسلوك، لذلك حري بالإنسان أن لا يفقد هذه الميزة التي تفيد الآخرين، وتجعل منه إنسانا واعيا ينصح الناس ويهديهم إلى ما هو جيد وسويّ.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله:
(أحياناً كلمة واحدة تغيّر مصير الإنسان، أو كتاب واحد، أو موقف واحد. فحرّي بالمرء أن لا يخسر مثل هذه الأمور لهداية الناس).
بين الاهتمام الدنيوي والأخروي
ليس ممنوعا على الإنسان أن يطوّر نفسه في القضايا التي تتطلبها الحياة الدنيا، فهذا حق من حقوقه، بل ويقول سماحة المرجع الشيرازي، هو واجب عليه، أي أن الإنسان مطالب بتطوير حياته، ولا مانع من تحقيق هذا الهدف والسعي إليه، ولكن ثمة ما هو مطلوب أيضا في الجانب الآخر، ونقصد به الجانب الروحي، أو ما يحتاج إليه الإنسان بعد الممات، فحياة الإنسان لا تبتنى على ما يجري في الدار الأولى فقط، وإنما هناك ما تتطلبه الدار الأخرى من الإنسان.
لذلك مثلما يبدي حرصه على تطوير حياته الدنيوية بكل ما تشمله من مجالات عمل وفكر وسعي وتطور مهني وعلمي وسواه، عليه أن يبذل نفس المسعى والجهد، بل وأكثر لكي يطور ويهتم بالجانب الآخر، الذي يدخل في نصاب متطلبات الدار الآخرة، ومثلما يسعى الإنسان لتطوير حياته الأولى يجب أن يهتم بالثانية الأبقى، ليس هذا فحسب، بل عليه أن يساعد الآخرين في الهداية والإيمان، نعم يهتم الإنسان بمأكله وملبسه وصحته وغير ذلك، لكن عليه في نفس الوقت أن يعمل لما بعد حياته هذه، ويسهم في هداية الناس وتنبيههم على أهمية ذلك.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال:
(الإنسان يصرف عمره ووقته وماله في المأكل والملبس والراحة وغيرها من الأمور الدنيوية، فحرّي به أيضاً أن يسعى في الأمور غير المادية، أي الباقية التي تبقى حتى بعد مماته، فيسعى لنفسه في الارتقاء، وللآخرين لهدايتهم، ولكي يرتقوا أكثر، بالمقدار الممكن).
لذلك قبل أن يفقد الإنسان جميع الفرص لتعضيد العمل الأخروي، عليه أن يبادر بقوة، ويقتنص الفرص التي تقوّي موقفه بعد أن يغادر الحياة الأولى، الحياة الدنيا، وهي المحيط والحيّز الممتلئ بالفرص إذا ما اغتنمها الإنسان بصورة صحيحة لكي يكون ممن يهدي الناس ويساعدهم ويفتح بصائرهم على سلوك الجادة الصواب، بعد أن يكمل ما يلزم لنفسه من هداية وإيمان ونجاح على المستوى الدنيوي، والانطلاق في أعمال الهداية والنصح التي تضع أقدامه في سلّم الارتقاء المتصاعد.
لذلك ينبّه سماحة المرجع الشيرازي على هذا الأمر فيقول:
(يجدر بالمرء أن يعمل ويعمل، أكثر وأكثر، حتى لا تنتابه الحسرة يوم القيامة في أنّه كان بإمكانه أن يعمل أكثر ويرتقي أكثر، ولكنه ما عمل).