LOGIN
المحاضرات
alshirazi.org
"سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في كلمته بإدارة وطلبة حوزة ابن فهد الحلّي من كربلاء المقدّسة:"
عليكم بالأخلاق ثم العلوم
رمز 37340
نسخة للطبع استنساخ الخبر رابط قصير ‏ 24 ذوالقعدة الحرام 1444 - 13 يونيو 2023

تقرير: علاء الكاظمي

ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، كلمة قيّمة، بإدارة وطلبة حوزة ابن فهد الحلّي قدّس سرّه العلمية التابعة للمرجعية في مدينة كربلاء المقدّسة، خلال زيارتهم لبيت المرجعية بمدينة قم المقدّسة، وذلك مساء يوم الاثنين المصادف للثالث والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام 1444 للهجرة (12/6/2023م)، أدناه نصّها الكامل:

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخلاق ثم العلوم

عندما يذكر الله عزّ وجلّ أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله في القرآن الحكيم، يقول: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(1). ولكن عندما يذكر علم النبي صلى الله عليه وآله لا يقول إنّك لعلى علم عظيم، بل يقول: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً)(2).

لا شكّ، انّ أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله هي أعلى مستويات الأخلاق، فقد كانت خلقاً عظيماً. ولا يذكر التاريخ شخصاً أنّه في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله أبداً، إلاّ العترة الطاهرة صلوات الله عليهم. ولا شكّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله هو أعلم الأولين والآخرين، وكذلك العترة الطاهرة صلوات الله عليهم، لأنّه (ما من علم الاّ علّمنيه ربّي وأنا علّمته عليّاً)(3) وغيرها من الروايات التي تدلّ على أنّ المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم بالعلم سواء. ومع ذلك يقول القرآن الكريم للنبي الكريم صلى الله عليه وآله: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً).

لا نهاية للعلم

إنّ العلم لا نهاية له. وأنتم طلبة العلوم الدينية، خصوصاً الشباب الذين وفّر الله تعالى لهم الطاقات، حاولوا التملّي من العلم بالمقدار الممكن. ومن البديهي أنّ لكل شخص ظروفه الخاصّة ومشاكله، لكن حاولوا أن تقلّلوا وتقصقصوا من الأمور غير الواجبة، وتضعوا مكانها العلم. فالقرآن الكريم يقول: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)(4). أي إنّ الإنسان يتحسّر كثيراً في الآخرة، لكن يمكنه أن يجعل هذه الحسرة أقلّ وأقلّ. فلا بدّ للأنسان من الأكل والشرب والزواج والسكن والملابس والسفر وغيرها من الحاجات في الدنيا، وهي كثيرة وكثيرة، لكن ينبغي أن تكون الحاجات غير ملّحة ولا شديدة، ولا يكون ضغطها كثيراً على الإنسان، سواء من حاجاته الشخصية وحاجات العائلة وحاجات المجتمع. فليحاول أن يقلّل بالمقدار الممكن.

ذكر لي أحد العلماء رحمه الله وكان علاّمة كبيراً، وقال: (عندما أنام أضع قلم الرصاص وورقة عند رأسي، فأحياناً أرى في المنام معلومة ولو صغيرة، وأخاف أن أنساها عندما استيقظ من النوم، فأقوم بكتابتها في الورقة حتى في نهار غد أتذكّرها وأتابعها وأتوسّع فيها). وهذا من الجيّد ومن المفيد، وهكذا شخص في طول حياته لعلّه استفاد بالمئات من ذلك الشيء الذي كان يقوم به عند نومه، أي استفاد من التملّي من العلم.

وصيّة الإمام الرضا

يقول مولانا الإمام الرضا صلوات الله عليه: (رحم الله عبداً أحياً أمرنا. فقلت له: فكيف يُحيي أمركم؟ قال صلوات الله عليه: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا)(5). وأنتم قد درستم علوم العربية فتعرفون بأنّ (علومنا) هي الجمع المضاف ظاهر في العموم. وحتى المفرد المضاف أحياناً يكون ظاهراً في العموم، فكيف بالجمع المضاف. بلى إنّ تعلّم علوم أهل البيت صلوات الله عليهم كلّها أمر غير ممكن، ويحمل قول الإمام صلوات الله عليه على المجاز. فلا أحد يقدر على الوصول إليها أبداً سوى هم صلوات الله عليهم، أي رسول الله والعترة الطاهرة صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، ولكن بالمقدار الممكن على الإنسان أن لا يقصّر، فبالمقدار غير الممكن هو قاصر ولا حيلة له.

بلى، إنّ الإنسان لا يقدر على أن لا ينام أو أن لا يأكل أو أن لا يلبّي حاجاته الضرورية، فهذه لا بدّ منها ولا حيلة له منها، ولكن عليه أن يحاول ويحاول ويلقّن نفسه ويعزم ويصمّم حتى ينال العلم شيئاً فشيئاً. فمن له من العمر عشرين سنة أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين أو سبعين وأكثر، فإنّ هذا العمر قد حصل من اجتماع وتكوّن الملايين من الثواني. وهكذا هو العلم، أي إنّ تعلّم العلم يكون بكلمة وكلمة وكلمة وهكذا.

التعلّم حتى على فراش الموت

ذكروا في الكتب عن أحد العلماء المعروفين، وكان من فقهاء الشيعة، أنّه كان مريضاً وعلى فراش الموت، فزاره عالماً آخراً. وفي أثناء الزيارة سأل العالم المريض العالم الضيف عن مسألة شرعية. فقال العالم الضيف: (عافاك الله، أنت على فراش الموت، فما يفيدك من طرحك لهذه المسألة؟ فأجابه العالم المريض: إن أنا مت وعرفت هذه المسألة أحسن أم أموت ولا أعرفها؟). فعندما يعرف الإنسان المسألة لا يكون ذلك لأجل أن ينقلها إلى الناس فقط، أو يكتبها في كتاب، أو يدرّسها في تدريسه، أو يناقشها في مباحثاته، بل لأنّه من الجيّد جدّاً والمهم كثيراً أن يعرف الإنسان ويتعلّم. فعلى الإنسان أن يذكّر نفسه بمثل هذه الأمور، ويلقّن نفسه ويعزم على عليها حتى تقلّ حسرته في الآخرة، ويكون مقامه في الآخرة أرفع، وتكون درجته بالجنّة أعلى.

ما هي علوم أهل البيت؟

إنّ المقصود من (علومنا) في حديث الإمام الرضا صلوات الله عليه، هو الموجود بين أيدينا من روايات أهل البيت صلوات الله عليهم، وعلومهم في العقائد، وكم هي كثيرة وكثيرة. ففي تسع وأربعين جزء من موسوعة بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي، أي من الجزء الأول إلى التاسع والأربعين، على ما أتذكّر، توجد الأحاديث والروايات الخاصّة بالعقائد وأصول الدين، ولعلّه يوجد في تلك الأجزاء قرابة خمسين ألف حديث، حول العقائد وأصولها وتوابعها وفروعها، من أهل البيت صلوات الله عليهم. علماً بأنّ العلاّمة المجلسي رضوان الله تعالى عليه، وكما هو الواقع خارجاً، لم يجمع كل الأحاديث. فقد نقلوا عنه أنّه قال: (أنا لم أنقل من الكتب المعروفة كالكافي والاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه، كثيراً، لأنّ هذه الكتب من المؤكّد تكون باقية، وأتيت من الكتب التي يحتمل في المستقبل أنّها ربما تتلف، لأنّها كانت نسخ خطّيّة).

أكثروا من تعلّمها

كذلك من علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، الأحكام الشرعية المذكورة في كتاب (وسائل الشيعة) وفيه قرابة أربعين ألف حديث، وفي كتاب (مستدرك الوسائل) وفيه قرابة عشرين ألف حديث، وهي بخصوص الأحكام الشرعية. ومن علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، الأخلاق والآداب التي ذكروها صلوات الله عليهم وكان عملهم عليها وتقريرهم، وهي بالألوف والألوف من الأحاديث. ومن علومهم صلوات الله عليهم تاريخ الأنبياء وتاريخ الأمم الذي وصلنا عنهم صلوات الله عليهم، وهي بالألوف من الأحاديث. فالإنسان لا يقدر على نيل واحد بالألف من علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، ولكن عليه أن لا يدع هذا الواحد يصير نصفاً بالألف أو ربعاً بالألف، أو واحداً بعشرة آلاف. ومن علومهم صلوات الله عليهم تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله الذي ذكروه هم صلوات الله عليهم، مقابل التاريخ المشوّه المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي ملأ الأعداء الكتب بها. فأهل البيت صلوات الله عليهم هم أدرى بما في البيت ومنهم نأخذ تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله. فهذه كلّها علوم أهل البيت صلوات الله عليهم وهي كثيرة، وتأخذ الكثير من الوقت والزمان لتعلّمها، فليحاول الإنسان أن يكثر من الدراسة والمباحثة والمطالعة والكتابة والتدريس.

علّموها الناس كافّة

أما (يعلّمها الناس) في حديث الإمام الرضا صلوات الله عليه، فيعني أن لا يكتفي بتعليم المؤمنين المتعقدين بأهل البيت صلوات الله عليهم فقط، أو المسلمين عامّة فحسب، بل يعلّمها البشر كافّة. فالقرآن الكريم يقول (أيّها الناس) أي إنّ الإسلام للبشر كلّهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله، أيضاً، (أيّها الناس)، وكذلك الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه ذكر الكثير من كلمة (أيّها الناس) في خطبه، وكذلك السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ذكرتها في خطبها وكلامها، ومنها في مسجد أبيها صلى الله عليه وآله وعند قبره، حيث خطبت ولم يك في المسجد حتى شخص واحد غير مسلم، لا مسيحي ولا يهودي ولا ملحد، وقالت صلوات الله عليها (أيّها الناس). فهي صلوات الله عليها قالت (أيّها الناس) وهي تشمل كل البشر، وتعلم صلوات الله عليها بأنّ الحضور في المسجد كلّهم كانوا بالظاهر مسلمين. فكل خطابات القرآن الكريم وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت صلوات الله عليهم هي للبشر كلّهم. وتوجد بالمناسبة، مسألة في الفقه، ولعلّه قد مرّت عليكم، وهي أنّ غير المسلمين مأمورين بالفروع أم لا؟ فغير المسلم هل هو مأمور بالصلاة وهو لا يعرفها؟ أم غير مأمور إلاّ إذا أسلم، فبعدها يؤمر بالصلاة. فيقول الكثير من الفقهاء بأنّ الكل مأمورون بكل الفروع. بلى إنّ الجاهل القاصر معذوراً، كالعبد الذي يناديه أحياناً سيّده ولا يأتي لأنّه لم يسمعه. علماً بأنّ هذه المسألة هي محلّ خلاف، فيقول جماعة من الفقهاء، ولعلّه هم قلّة، بأنّه كلا ليس مأموراً. في حين نرى أنّه يقول القرآن الكريم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)(6). فهذا الخطاب هو لكل من يدخل النار من الناس.

لا تقصّروا وعلّموا الناس

لذا، على كل واحد أن يحاول بأن يكون هو السبب في تعليم علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، بالمقدار الممكن، ولا يقصّر. أي يعلّمها البشر بالكتابة أو بالفضائيات أو بالخطب أو بعمله، للناس كلّهم، في عائلته وعشيرته وأقربائه وأصدقائه وفي محيطه. فاليوم ولله الحمد، يوجد كمّ جيّد من الفضائيات عند الشيعة، فيجدر الاستفادة منها لذلك. ففي طول التاريخ، واليوم، وغداً، أسلم الكثير والكثير من غير المسلمين، وآمن الكثير من غير المؤمنين، وخرج عن التقصير والقصور الكثير من المؤمنين القاصرين والمقصّرين.

إذن، حاولوا أنتم، طلاّب العلوم الدينية في إطار أهل البيت صلوات الله عليهم، أن تتملّوا من العلم أكثر وأكثر. وفي الوقت نفسه عليكم أن تعلموا أنّه لا فائدة من علم ليس معه عمل. فإنّ الأبعد عن الله تعالى هو الذي يعلم ولا يعمل. فالأسوأ هو الذي يعلم بأنّ الصلاة واجبة ولكن لا يصلّي، أي أسوأ من الذي لا يعلم ولا يدري ولا يصلّي. فالعلم بحاجة إلى العمل، والفرق بين العلم والعمل أنّ الأول هو التعلّم ويأخذ الكثير والكثير من الوقت.

وصيّة مفيدة

لقد سمعت من أحد المراجع المعروفين في الماضي، وقد توفّى، أنّه قال: (أنا في شبابي عندما كنت أعزباً، قلّلت من نومي، من ثمان ساعات إلى سبع ساعات وست وخمس، وشيئاً فشيئاً إلى أن أوصلت مدّة نومي إلى ساعتين ونصف فقط، في أربع وعشرين ساعة). وقد قرأت بالماضي، عندما كنّا في كربلاء المقدّسة، في إحدى البحوث الغربية بأن أقلّ ما يمكن للإنسان أن ينام هي ساعتين ونصف الساعة فحسب. وأما بالنسبة إليكم أنتم أيّها الطلبة، ليس عليكم أن تجعلوا نومكم بمقدار ساعتين ونصف حتى لا تبتلوا بشيء، بل اسعوا إلى تقليل النوم شيئاً فشيئاً. فمثلاً: الذي يقود ويسوق السيارة بسرعة تصل إلى مئتي كم في الساعة، إن قلّل السرعة فجأة وفي لحظة إلى خمسين، فلعلّه تنقلب السيارة به.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينني ويعينكم جميعاً على العمل بالوصية من الإمام الرضا صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطيّبين الطاهرين (يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس). وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــ

(1) سورة القلم: الآية 4.

(2) سورة طه: الآية 114.

(3) تفسير الصافي ـ في تفسير سورة ياسين.

(4) سورة مريم: الآية39.

(5) معاني الأخبار للشيخ الصدوق: الجزء 1، الصفحة 180.

(6) سورة المدثر: الآيتان 24و43.