النصّ الكامل لكلمة المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، ليلة 11 محرّم الحرام 1446 للهجرة (16/7/2024م)، ليلة الغربة والوحشة على أهل البيت صلوات الله عليهم في واقعة كربلاء الدامية، التي ألقاها بجموع المعزّين الحسينيين، في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة.
تعريب: علاء الكاظمي
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ العام 61 هـ، يتم تجديد ذكرى عاشوراء كل عام وهكذا يستمر حتى اليوم، ووفقًا لما قاله الإمام الرضا عليه السلام، فإن ذلك سيستمر حتى "يوم الانقضاء" أي يوم القيامة. فلقد قال الإمام عليه السلام: (إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء).
عزاء دائم
حسب الروايات، حينما يغادر الإنسان الدنيا، تبدأ قيامته: ("إذا مات ابن آدم قامت قيامته). ولكن هذه القيامة تختلف عن (يوم الانقضاء). فيوم الانقضاء يحدث بعد أن ينتهي عالم البرزخ ويتصل بيوم القيامة الذي وصفه القرآن الكريم في الآية الكريمة بقوله تعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، فهذه المدة تمثل يوما واحداً من أيام القيامة. والذين بلغوا سن الخمسين يمكنهم أن يدركوا كم أن هذه المدة طويلة، لكنها تمثل فقط مدّة يوم واحد من أيام القيامة.
خلق الله تبارك وتعالى الإمام الحسين عليه السلام ليوم عاشوراء، وعاشوراء حدث لا نهاية له. وقد أشار الإمام الرضا عليه السلام في قوله السابق إلى هذا الأمر، حيث قال إن حادثة عاشوراء ستظل سببًا لمصاب أهل البيت عليهم السلام حتى يوم القيامة.
إنّ الإمام الرضا صلوات الله عليه لم ينسب في كلامه مثل ذلك التأثير إلى استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، واستشهاده من أعظم مصائب العالم، فقد قالت السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها في هذا الصدد: «وأُزيلت الحُرمة عند مماته». وربما يكون هذا الوصف وهذه العبارة التي نطقت بها السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها فريدة من نوعها بين جميع الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام. ومع ذلك، فإن الإمام الرضا عليه السلام لم يعتبر هذا المصاب العظيم سبباً لمصاب أهل البيت عليهم السلام حتى يوم القيامة. بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، كان استشهاد السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها مصيبة ثقيلة وغير قابلة للتعويض حلّت على كيان الإسلام وملأت قلوب أهل البيت عليهم السلام بالدماء.
مصيبة الزهراء عليها السلام
إنّ أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو إمام معصوم، ومقام العصمة مقام لا نستطيع إدراكه، ومعلوماتنا وتفاسيرنا حول هذا الموضوع محدودة بأقوال المعصومين عليهم السلام. ويتمتّع المعصومون عليهم السلام بأعلى درجات العصمة بإرادة الله تعالى. وبالنظر إلى هذا، فقال أمير المؤمنين عليه السلام عن استشهاد السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها وثقلها: «انهدَّ ركنای»، بمعنى أن الإمام عليه السلام كان لديه ركنان وسندين، الأول انهدّ باستشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، والثاني باستشهاد السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها.
في الواقع، في ذلك القول لأمير المؤمنين عليه السلام، يُعادل ثقل استشهاد السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها ثقل استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله. وكذلك كان استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام مصيبة ثقيلة، حيث عند وقوعها نادى جبرائيل «تهدّمت والله أركان الهدى ».
الذين يعرفون الأدب والعلوم العربية يدركون جيّداً أن الجمع المضاف يظهر في العموم، وفي هذه الجملة أيضًا (أركان) جمع ومضاف إلى (الهدى)، مما يعني أنّ جميع قواعد وأركان الهداية تلاشت باستشهاد أمير المؤمنين عليه السلام. ومع ذلك، فإنّ الإمام الرضا عليه السلام لم يعتبر مصيبة استشهاد السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها وأمير المؤمنين عليه السلام سبباً لمصاب أهل البيت عليهم السلام المستمر حتى يوم القيامة. وينطبق الأمر نفسه على استشهاد الإمام الحسن عليه السلام. ومع ذلك، قال الإمام الرضا عليه السلام في وصف ثقل مصيبة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام: (وَأَوْرَثَنَا اَلْكَرْبَ وَاَلْبَلاَءَ إِلَى يَوْمِ اَلاِنْقِضَاءِ).
العزاء إلى يوم القيامة
هذه المصيبة لن تنتهي أبدًا وليس لها نهاية، وستمتد حتى يوم القيامة وبعدها ستستمرّ في الجنة، حيث سيبقى الحداد على سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام قائماً. قد يعتقد بعض بأنّ الإمام الرضا عليه السلام عندما قال إنّ هذه المصيبة ستستمر حتى يوم القيامة، يعني أنّها ستنتهي في ذلك اليوم، لكن هذا ليس صحيحاً. إذا نظرنا إلى هذه العبارة من منظور الأدب العربي، سنجد أنّ الجملة، كما يقول علماء الأدب العربي، فقط لها منطوق ولا تحتوي على مفهوم. بمعنى أنّ الإمام عليه السلام ذكر أنّ مصيبة عاشوراء ستستمر حتى يوم القيامة، لكنه لم يتحدّث عن ما يحدث بعد ذلك. أي أن تلك المصيبة ستستمر في يوم القيامة وستظل سبباً للحزن والغم لأهل البيت عليهم السلام.
نقرأ في إحدى زيارات الإمام الحسين عليه السلام: «لَطَمَتْ عَلَيكَ الحُورُ العِينُ »، وهذا يشير إلى أنّ العزاء على الإمام الحسين عليه السلام سيستمر حتى في الجنة. وبطبيعة الحال، لا يُفترض أنّ هذه الفضائل تجعل مقام الإمام الحسين عليه السلام أعلى من مقام الأئمة المعصومين الأربعة الذين سبقوه عليهم السلام، فلقد أشرتُ مراراً إلى الرواية التي يبيّن فيها الإمام الحسين عليه السلام احترامه لأجداده رسول الله صلى الله عليه وآله، ووالده أمير المؤمنين عليه السلام، ووالدته السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وأخيه الأكبر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ويعتبرهم أرفع مقاماً منه. والفضيلة التي أشار إليها الإمام الرضا عليه السلام هي من الاستثناءات والخصائص التي منحها الله تعالى للإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
حقيقة لا نهاية لها
الحكومات التي ظلمت الإمام الحسين عليه السلام، والظالمون الآخرون الذين أهانوا ذلك الإمام العظيم، والأشقياء في الدنيا والآخرة الذين تطاولوا عليه بالقول أو القلم، سيذوقون جميعاً طعم الموت ويصلون إلى نهايتهم وأعمالهم. ولكن الشخص الذي لا نهاية له هو الإمام الحسين عليه السلام، فهو ليس فقط خالداً بنفسه، بل إنّ كربلاء ومزار الإمام الحسين عليه السلام أيضاً لا ينتهيان ويبقيان خالدين.
قد يكون العديد من الذين يسمعون صوتي الآن أو في وقت لاحق قد قرؤوا عن أحداث الانتفاضة التي وقعت في العراق قبل أكثر من ثلاثين عامًا. ففي تلك السنوات، اقتحم أعداء الإمام الحسين عليه السلام الحرم الطاهر بالدبابات، وأطلقوا النار على القبّة مما أدّى إلى تدمير جزء منها. كما اعتدوا على مكان الساعة الخاصّة بالحرم وجدرانه أيضاً، وارتكبوا تخريباً فيه. في تلك اللحظة، قال أحدهم باللغة العربية: «الحسين انتهى ».ولكن اليوم، أين أولئك الذين هجموا على الحرم واعتدوا عليه؟ وأولئك الذين دخلوا بالدبابات وسبّبوا الأضرار للحرم، ومن نطق بهذه الكلمات؟ لا يوجد لهم أثر أو علامة. أما الآن، فإنّ العالم لا يزال قائماً، والإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء ما زالا موجودين. فاليوم، لا يوجد حدث في العالم يعادل عظمة حدث الإمام الحسين عليه السلام. وللأسف، لا توجد إحصائيت دقيقة في هذا الشأن، وإذا تم تقديم أي إحصائيات، فهي ناقصة.
مصير طغاة الأمس واليوم
لقد صادفت في كتاب تاريخي أن بني أمية وبني العباس قد قاموا بتخريب مزار الإمام الحسين عليه السلام سبع عشرة مرّة. فقد قام المتوكّل بتخريب قبر الإمام أربع مرّات، وكذلك هارون الرشيد مرّتين، وموفّق ابن المتوكّل مرّة واحدة، والمنصور العباسي مرة واحدة أيضاً. وحسب ما يرد في ذلك الكتاب التاريخي، فقد حدثت تلكالجرائم في أزمان مختلفة وبأيدي أشخاص مختلفين. وكلما قاموا بتخريب الحرم الطاهر للإمام الحسين عليه السلام، كانوا يتسبّبون في أضرار كبيرة في المناطق المحيطة، ويدمّرون المنازل أيضاً، حتى يزيلوا كل أثر لمزار الإمام الحسين عليه السلام. بالإضافة إلى ذلك، كانوا يعاملون سكّان تلك المناطق بوحشية، إما بالحبس أو القتل، بهدف القضاء على أي وجود أو تأثير لمقام الإمام الحسين عليه السلام.
على مرّ الزمن، كان هناك دائماً أشخاص يتجمّعون حول مزار الإمام الحسين عليه السلام ويستقرّون هناك، ويقومون ببناء بيوت، رغم قلّة عددها. ولكن العدو كان يعيدهم مرّة تلو الأخرى، ويهدم بيوتهم، ليواصلوا محاولاتهم لإزالة كل أثر لمقام الإمام الحسين عليه السلام. ولكن أين أولئك الأعداء، وما هو مصيرهم؟ أولئك الذين كانوا في يدهم السلطة والحكم الضال، والذين تسبّبوا في انتفاضة العراق، كانوا يمتلكون فقط حكم العراق، بينما كان المتوكّل يحكم نصف الكرة الأرضية. فمن يظنّ نفسه قويّاً وذا سلطة، يجب أن يرى أين انتهى المتوكّل، الذي لا يوجد حتى أثر لقبره، فلقد كان للمتوكّل قوّة تتجاوز بكثير تلك التي كان تمتلكها الحكومة التي قمعت انتفاضة العراق. وإذا زرت مدينة سامراء، يمكنك أن تذهب إلى مكان يعرف بأنّه موقع قبر المتوكّل، وهو صحراء جافّة وغير مثمرة، ولا يظهر فيها سوى بعض الأشواك. ويُشاع بأنّ قبر المتوكّل كان في هذا المكان، ولكن أين بالضبط، الله أعلم.
كذلك كان الموفّق ابن المتوكل في هذا المكان. واليوم، أين هو وأمثاله كالمنصور وهارون؟ فلا يوجد أي أثر لقبرهم أو حتى علاّمة، سوى قبر هارون الذي يمكن تحديده لأنّه يقع خلف مرقد الإمام الرضا عليه السلام، ويُعتبر مكاناً للعن روح هذا الطاغية.
مشيئة الله تعالى
بلى، لا يمكن محاربة القضية الحسينية المقدذسة. فلم تمنع مشيئة الله تعالى التكوينية من أن يستشهد الإمام الحسين عليه السلام، ورغم أنه هو وأبناؤه وأقاربه وأصحابه قُتلوا بطريقة مؤلمة، إلاّ أنّ الله عزّ وجلّ لم يسمح أن يكون للإمام الحسين عليه السلام نهاية. وهذه هي إرادة الله تبارك وتعالى التي تجعل الإمام الحسين عليه السلام خالداً. ففي كربلاء وبعدها، حاولوا حرب الإمام الحسين عليه السلام، ولكنهم لا يستطيعون حتى محاربة اسمه وذكره. فقبل أكثر من مئة عام، قال رئيس وزراء أحد البلدان إنّه يجب تدمير كربلاء. وكان يقصد أنّه يجب مواجهة الإمام الحسين عليه السلام. والآن، أين هو؟ ليس فقط أنّه زال عن هذه الدنيا، بل إنّ اسمه قد زال أيضاً، ولا أتذكّر شخصياً اسمه.
مقام من يحيي الشعائر
هكذا هي الشعائر الحسينية المقدّسة، لا تنتهي. ولقد نقلت رواية عن الإمام الصادق عليه السلام من كتاب (كامل الزيارات)، الذي كتبه المرحوم ابن قولويه رضوان الله تعالى عليه، لنتلوها في هذه الجلسة.
كان الإمام الصادق عليه السلام وابن قولويه، معاصرين، والفرق بين رحيلهما عن الدنيا قرابة عشرين سنة. وهذه الرواية، بجانب وجودها في (كامل الزيارات)، ذُكرت بالنص نفسه في كتاب (ثواب الأعمال) للمرحوم الشيخ الصدوق رحمه الله. والكتاب الذي بين يدي هو الذي طُبع قبل نحو مئة سنة على يد المرحوم العلاّمة الأميني عليه الرحمة بعد تصحيحه وتعليقه في النجف الأشرف.
قبل مناقشة نصّ الرواية، يجب أن أذكر أنّ هذا الحديث قد رُوي بعدّة أسانيد، وبعض أسانيده وجميع رجال سندها، وفقاً لإجماع جميع الفقهاء الكرام، رغم اختلاف مبانيهم الرجالية، تُعتبر صحيحة وثقات. كما أنّ بعض الأسانيد التي ذكرها المرحوم ابن قولويه والمرحوم الصدوق رضوان الله عليهما لهذا الحديث، بالإجماع صحيحة، مما يعني أنّ صدور هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام ثابت، ويمكن نسبتها إلى الإمام السادس عليه السلام بشكل يقيني.
يستحبّ لعنهم
في هذه الرواية، يدعو الإمام الصادق عليه السلام الله تعالى وبوجل، للزائرين الذين يقصدون مرقد الإمام الحسين عليه السلام، مما يدل على مقامهم العالي. لذلك، لقد ذكرت مراراً أنّ الدعاء للزوار هو من المستحبّات، بناءً على حجّة عمل المعصوم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله حينما لعن من خذل الإمام الحسين عليه السلام بقوله: «اللهم اخذل من خذله»، ولذا فإنّ لعن من خذل الإمام الحسين عليه السلام أيضاً مستحبّ.
كما أنّ هناك مسألة علمية مذكورة في هذه الرواية التي يعرفها العلماء، وهي أنّ القيود التي تذكر في الروايات قد تكون متعلّقة بالموضوع أو بالوقائع. ومن خلال الرواية التي سأذكرها، وبالاستناد إلى أدلّة مختلفة، يُفهم أنّ زيارة الإمام الحسين عليه السلام هي من قبيل الواقعة وليست الموضوع. بمعنى آخر، فإنّ جميع الأدعية التي يدعو بها الإمام المعصوم عليه السلام في هذه الرواية للزوّار تشمل جميع الشعائر الحسينية المقدّسة والقائمين بها أيضاً. وهذا يعني أنّ الأدعية التي تأتي في الرواية تشمل الشعائر التي ظهرت بعد فترة المعصومين عليهم السلام وفي مرّ الزمن، وليس فقط الشعائر التي كانت موجودة في زمنهم عليهم السلام، مثل إحياء مجالس العزاء وغيرها.
فيما يتعلق بالموضوع والشعائر التي نشأت بعد زمن المعصومين عليهم السلام، فقد قدّمت شروحات متكرّرة، كما ذُكر سابقًا، حيث أجمع جميع فقهاء الشيعة منذ ألف سنة وحتى اليوم على أنّه إذا لم يحدّد الشارع المقدّس موضوعات الأحكام، فيجب أخذ هذه الموضوعات من العرف، ويقوم العرف بتحديدها.
بناءً على ذلك، وفي الآية الكريمة التالية: «وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»، تم ذكر الحكم الذي هو تقوى القلوب، ولكن لم يتمّ تحديد مصاديق وموضوعات «شعائر الله». لذا، يحدّد العرف مصاديقها. وبالتالي، كل ما يدلّ على تعظيم الإمام الحسين عليه السلام من وجهة نظر العرف العام، وليس العرف الخاص أو عرف المتشرّعة، فهو يُعتبر من الشعائر الحسينية المقدّسة. وعلى أي حال، هذه الرواية من الروايات المستفيضة ولها أسانيد متعدّدة، وقد ذُكرت في كتاب (الكامل في الزيارات) أيضاً بسندين من معاوية بن وهب، الذي يُعدّ من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الموثّوقين. وفي (الكامل في الزيارات) الذي بين يدي، الرواية موجودة في الباب الأربعين، الحديث الثاني، على الصفحتين 116 و117.
نصّ الرواية
«قال: استأذنت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقيل لي: ادخل. فدخلت، فوجدته في مصلاّه في بيته، فجلست حتّى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربّه ويقول: يا من خصّنا بالكرامة وخصّنا بالوصيّة، ووعدنا الشفاعة، وأعطانا علم ما مضى وما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني ولزوّار قبر أبي [عبد اللّه] الحسين عليه السّلام، الّذين أنفقوا أموالهم و أشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا، رجاء لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك صلواتك عليه وآله، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظا أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضاك. فكافهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل و النهار، واخلف على أهاليهم وأولادهم الّذين خلّفوا بأحسن الخلف، وأصحبهم واكفهم شرّ كلّ جبّار عنيد، وكلّ ضعيف من خلقك أو شديد، و شرّ شياطين الإنس والجنّ، وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقرباتهم، اللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، وخلافا منهم على من خالفنا، فارحم تلك الوجوه الّتي قد غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود الّتي تقلّبت على حفرة أبي عبد اللّه عليه السّلام، وارحم تلك الأعين الّتي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب الّتي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة الّتي كانت لنا، اللهمّ إنّي أستودعك تلك الأنفس، وتلك الأبدان، حتّى نوافيهم على الحوض يوم العطش». فما زال - وهو ساجد - يدعو بهذا الدعاء، فلمّا انصرف قلت: جعلت فداك، لو أنّ هذا الّذي سمعت منك كان لمن لا يعرف اللّه، لظننت أنّ النار لا تطعم منه شيئا، واللّه لقد تمنّيت أن كنت زرته و لم أحجّ؛ فقال لي: ما أقربك منه! فما الّذي منعك من إتيانه؟ ثمّ قال: يا معاوية! لم تدع ذلك؟ قلت: جعلت فداك، لم أدر أنّ الأمر يبلغ هذا كلّه. قال: يامعاوية! من يدعو لزوّاره في السماء أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض.
توضيح مختصر
كما ذُكر في الرواية، فقد ذهب معاوية بن وهب إلى منزل الإمام الصادق عليه السلام ووجده في مصلاّه. ففي الماضي، كان من المعتاد أن يخصّص الإنسان مكاناً خاصّاً في منزله للصلاة ويسمّيه (المصلّى)، ولكن هذه السُنّة قد أصبحت أقلّ شيوعاً في الوقت الحاضر. فقد حضر
معاوية بن وهب إلى مصلّى الإمام الصادق عليه السلام ووجده في حال الصلاة، فانتظر حتى انتهى الإمام من صلاته. وبعد إتمام الصلاة، بدأ الإمام الصادق عليه السلام بالدعاء إلى الله. ونظراً إلى أنّ أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا عادةً يحملون أدوات الكتابة، فقد قام معاوية بتوثيق دعاء الإمام الصادق عليه السلام، الذي كان يتضمّن دعاءً للزوّار الذين يزورون مرقد الإمام الحسين عليه السلام.
كما ذُكر، يبدو أنّ دور الزوّار في هذا الدعاء هو حالة خاصّة وليس موضوعاً، مما يعني أنّه يشمل جميع القائمين بالشعائر الحسينية المقدّسة. وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى بعض الصعوبات التي كان يواجهها الزوّار في ذلك الوقت نتيجة ظلم الحكّام، مثل تكبّدهم النفقات المالية في سبيل زيارة الإمام الحسين عليه السلام أو تعرّضهم لملاحقة من قبل السلطات الحكومية، وحتى استشهادهم ومصادرة أموالهم، حيث كانت هذه الزيارة تُعتبر من الجرائم الكبيرة في ذلك الزمن.
أعظم النعم
لقد بيّن الإمام عليه السلام سبب تحمّل الزوّار للصعوبات وتقبّلهم المخاطر الجسيمة، بما في ذلك الاستشهاد، قائلاً بإنّهم كانوا يطمحون إلى تقديم الخير والبرّ لأهل البيت عليهم السلام، وكانوا يأملون في الحصول على الثواب الذي قدّره الله تعالى لهذه الأفعال. فالإمام الصادق عليه السلام يُشير إلى أنّ هذا العمل يُسهم في إرضاء رسول الله صلى الله عليه وآله، وطاعة أمر أهل البيت عليهم السلام، وإثارة غضب أعداء أهل البيت، وجلب رضا الله تعالى، أيضاً. والذين هم على أنس بالقرآن الكريم يعرفون جيّداً هذه الآية التي يذكر فيها الله تعالى النعم التي يتنعّم بها أهل الجنة، وفي النهاية يقول: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ). ففي هذه العبارة، يُبيّن الله تعالى أنّ رضا الله هو أعظم من كل النعم المذكورة. وفي دعاء الإمام الصادق عليه السلام للزائرين الحسينيين، يطلب الإمام من الله تعالى أن يُفضّلهم بأعظم نعمة من نعم الجنة، وهي رضا الله تعالى. وهذا الرضا هو أعظم نعمة يُعطى بها أهل الجنة، ويكون دليلاً على أنّ الله تعالى راضٍ عنهم.
على سبيل المثال، إذا كان الزوج راضياً عن زوجته، فإنّ هذا الرضا يكون بالنسبة للمرأة المؤمنة أعظم من أية مزايا أخرى قد تحصل عليها من زوجها. ويشعر الرجل المؤمن بنفس الشعور تجاه زوجته أيضاً. وهذه الحقيقة كذلك تنطبق على العلاقة بين الوالدين والأبناء، وكذلك بين المعلّم والتلميذ، والعكس صحيح أيضاً.
ثم يتوجّه الإمام الصادق عليه السلام إلى الله تعالى في دعائه، طالباً منه جلّ وعلا أن يحفظ زوّار مرقد الإمام الحسين عليه السلام من المشاكل، وأن يمدّهم برعايته وحمايته. وكذلك يطلب الإمام الصادق عليه السلام أن تشمل رحمة الله تعالى، العائلة والأقارب الذين لم يتمكّنوا من زيارة المرقد الحسيني الشريف، وأن يعتني الله بأمورهم ويعطيهم العناية والرحمة.
محاولات خائبة
في سياق الرواية، يشير الإمام الصادق عليه السلام إلى مسألة كانت تُسبب إهانة للشيعة في ذلك الوقت، وهي أنّ بعض الأفراد كانوا يسخرون من الشيعة بسبب زيارتهم للإمام الحسين عليه السلام. وللأسف، هذا النوع من التعامل لا يزال موجوداً في زمننا أيضاً، حيث يهاجم بعض الأشخاص الشعائر الحسينية المقدّسة باللسان أو بالقلم. وفي هذا الجزء من مناجاته مع الله تعالى، يقول الإمام الصادق عليه السلام إنّ الأعداء انتقدوا الزوّار، لكنهم، أي الزوّار، لم يلتفتوا إلى هذه الانتقادات، ولم تؤثر السخرية والانتقادات على عزيمتهم، بل استمروا في زيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام وإقامة شعائره، رغم محاولات أعداء أهل البيت عليهم السلام للتقليل من شأنهم وإثارة الشكوك حولهم.
في جزء آخر من مناجاته يذكر الإمام الصادق عليه السلام كلمة (صرخة)، وتعني الأصوات العالية التي يطلقها الأشخاص المتألّمون عند مواجهتهم للمصائب. فعلى سبيل المثال، عندما تفقد الأمّ ابنها الشاب، فإنّها لا تكتفي بالبكاء الهادئ، بل يعبّر حزنها العميق عن طريق الصرخات والعويل. وقد الإمام الصادق عليه السلام لأولئك الذين يرفعون أصواتهم في مصاب الإمام الحسين عليه السلام بهذه الطريقة، طالباً من الله تعالى أن يشملهم برحمته ومغفرته.
دعاء عظيم
النقطة الجديرة بالتأمل في الرواية أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يدعو وهو في حال السجود، واستمرّ في سجوده حتى انتهاء الدعاء. وقد أثار هذا الأمر تعجّب معاوية بن وهب من مضامين الأدعية وحالة الإمام. وقد علّق معاوية بن وهب على هذه الحالة قائلاً إنّ الدعاء لو كان موجّهاً إلى شخص لا يعرف الله، أو كان كافراً، لكان من الممكن أن يُنقَذ من جهنّم بفضل هذه الأدعية، وذلك بسبب قوّة وإخلاص الدعاء الذي رفعه الإمام الصادق عليه السلام في سجوده. وهذا يدلّ على عظمة الدعاء الذي يُقدّم في حالات الخضوع والتذلّل لله تعالى، ويعكس مدى الإخلاص والالتزام في عبادة الإمام الصادق عليه السلام أيضاً.
الراوي، الذي يبدو أنّه كان قد عاد من الحجّ، قدم إلى الإمام وأعرب عن استغرابه قائلاً إنّه لو كان يعلم ثواب زيارة الإمام الحسين عليه السلام وآثارها العظيمة، لما ذهب إلى الحج ولفضّل زيارة الإمام الحسين عليه السلام عن الحجّ. فيردّ الإمام عليه السلام عليه بأنّ الذي يسكن بالقرب من كربلاء كان ينبغي له أن يذهب لزيارة الإمام الحسين عليه السلام. ومن هذا يتّضح أنّ الراوي كان من أهل العراق، ربما من الكوفة، أو على الأقل كان قريباً من كربلاء. ويعبّر الراوي عن عدم معرفته بثواب زيارة الإمام الحسين عليه السلام. وفي نهاية الرواية، يبيّن الإمام الصادق عليه السلام بأنّ الذين يدعون للزائرين الحسينيين في السماء هم أكثر بكثير من الذين يدعون لهم في الأرض.
أين المنتقم؟
قرأتم كثيراً عبارة «أین الطالب بدم المقتول بکربلاء» في دعاء الندبة الشريف، وأسأل الله تعالى بجاه ومقام الإمام الحسين عليه السلام أن يُعجِّل في فرج مولانا صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالی فرجه الشريف، حتى يتحقّق من خلال هذا الدعاء الثأر للإمام الحسين صلوات الله عليه ومن قاتليه. وعلى الرغم من أنّ هذا لن يعوّض عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، إلاّ أنّه يمكن أن يخفّف قليلاً من مصيبة (الوتر الموتور). ولكن هكذا قول وهكذا عبارة لم أجدها شخصياً حول أي معصوم من المعصومين صلوات الله عليهم سوى الإمام الحسين صلوات الله عليه. فكلهم صلوات الله عليهم قد تعرّضوا للظلم واستشهدوا ظلماً، وسينتقم الإمام المهدي صلوات الله عليه لهم جميعاً بعد ظهوره الشريف، ولكن لم نقرأ بخصوصهم مثل تلك العبارة في دعاء الندبة الشريف، أو في سائر الأدعية الأخرى، بأن يقال، على سبيل الفرض: أين الطالب بدم رسول الله، وأين الطالب بدم أمير المؤمنين، وأين الطالب بدم السيّدة فاطمة الزهراء، صلوات الله عليهم أجمعين، أو أين الطالب بدم المحسن عليه السلام، وقس على ذلك. ولكن تلك العبارة وردت في حقّ الإمام الحسين صلوات الله عليه.
تلك العبارات والتعبيرات تدلّ وبشكل واضح على أنّ الإمام الحسين عليه السلام هو رمز للخلود ولا نهاية له، وتشير إلى أن كل من يسعى لتحقيق الخلود والنجاة من الفناء فيجب أن يربط نفسه بالإمام الحسين عليه السلام، ويكرّس جهوده، من لسانه، وماله وغيرهما في سبيله.
بناءً على ما قيل، فإنّ كلمات وأدعية الإمام الصادق عليه السلام تعتبر موجّهة للمعنى والغاية، وليس للموضوع المحدّد. وهذا يعني أن حكم هذه الأدعية ينطبق على جميع الشعائر الحسينية أينما أقيمت في العالم، سواء في مدينة كربلاء المقدّسة أو في مدن أخرى، وسواء في البلدان الإسلامية أو غير الإسلامية.
وصية لمقيمي الشعائر
بمناسبة الأيام التي نحن فيها، ومع تزايد الشبهات والتشكيكات التي تُثار اليوم، أودّ أن أوجّه نصيحتي باختصار إلى جميع الذين يقيمون الشعائر الحسينيية في كل أنحاء العالم، سواء في الدول الإسلامية أو غير الإسلامية، وبالنسبة إلى كل أنواع الشعائر، سواء قبل أيام محرّم، وفي يوم عاشوراء، أو على مدار السنة. نصيحتي لجميع الحسينيين هي أن يتجنّبوا الانشغال بالشبهات والانتقادات والتجريحات والتشكيكات التي يثيرها المعارضون، وألاّ يردّوا عليهم إلاّ بقدر ما يلزم لإتمام الحجّة. فيثير بعض الأشخاص الشبهات وينتقدون الشعائر الحسينية. فيقول بعضهم بإنّ فلان الشعيرة حرام لأنّها لم تك موجودة في زمن الأئمة عليهم السلام. وهؤلاء إما أنّ يكونوا غير متعلّمين أو لم يفهموا جيّداً ما تعلّموه في دراستهم، أو للأسف، هناك من لا يؤمنون أصلاً بالشعائر الحسينية ويعتبرونها زيفاً. فهؤلاء الأشخاص كانوا موجودين في كل زمان، حتى في زمن الأئمة المعصومين عليهم السلام، وهم موجودون في الوقت الحاضر وسيكونون في المستقبل أيضاً.
نتعلّم الردّ من الأئمة عليهم السلام
أوصيكم ألا تضيّعوا أوقاتكم في الردّ على السلبيات من اولئك الأشخاص، وألاّ تلتفتوا إلى انتقاداتهم وشبهاتهم حتى لا تحتاجوا إلى الردّ عليهم. وتحدّثوا معهم فقط بما يحقّق الإعذار في يوم القيامة، لكي لا يكون لديهم حجّة ضدّكم أمام الله تعالى، بأنّكم لم تبيّنوا لهم الطريق الصحيح والتفكير الصحيح. فإذا نظرتم إلى تاريخ الأئمة عليهم السلام، فسترون أنّهم كانوا يتعاملون مع هكذا أشخاص بطريقة مشابهة، حيث كانوا غالباً يتجاهلون الافتراءات والإهانات، ويجيبون عليهم فقط بما يحقّق الإعذار. وفي هذا الصدد، توجد قصّة معروفة عن أمير المؤمنين عليه السلام.
في ذلك الوقت، عندما كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام رئيساً للحكومة الإسلامية ويمتلك السلطة والثروة والقوّة، وكان تحت إمرته الجيش الكثير، رأى أحد الخوارج الإمام عليه السلام. وكان الإمام صلوات الله عليه يبيّن بعض الأمور وهي مذكورة في كتاب نهج البلاغة. وفي تلك اللحظة قال الخارجي وبصوت عالٍ، بحيث سمعه الجميع بما فيهم أمير المؤمنين عليه السلام، (قاتله الله كافراً ما أفقهه) أي أنّه دعا بالموت لأمير المؤمنين عليه السلام، وذلك في زمن حكومته. وأراد الأصحاب الذين كانوا حاضرين اتخاذ إجراء ضدّ ذلك الخارجي ومعاقبته، لكن منعهم أمير المؤمنين عليه السلام وأمر بعدم حتى الردّ عليه. بل إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يردّ على ذلك الرجل ولم يسأله لماذا يعتبره كافراً ويدعو إلى موته. وهذا التصرّف من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يُبيّن بأنّ الحجّة قد أُقيمت على ذلك الشخص، وإلاّ فإنّ الإمام المعصوم هو مكلّف من قبل الله بإقامة الحجّة على الجميع. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الإمام عليه السلام قد أجاب في بعض الحالات على المعارضين ولكن فقط بما يكفي لإقامة الحجّة.
قصة أخرى مشهورة عن الإمام حسن المجتبى عليه السلام تم نقلها في كتب متعدّدة، بما في ذلك الكتاب القيم (بحار الأنوار) وكتب أخرى، وهي:
الردّ الحسني
روي أن: شاميّاً رأى الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه راكباً، فجعل يلعنه والحسن صلوات الله عليه لا يردّ، فلما فرغ أقبل الحسن صلوات الله عليه فسلّم عليه وضحك فقال:
«أيها الشيخ أظنّك غريباً ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا احملناك، وان كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت إرتحالك كان أعود عليك لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً وما لا كثيراً» .
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم.
إذن، تعلّموا من هذه السيرة وركّزوا في ساعات حياتكم على الأمور الإيجابية والبنّاءة بدلاً من إضاعة الوقت في الردّ على الشكوك والانتقادات.
كذب وتضليل
بعض الناس يتخذون مواقف ضد النصوص الصريحة في القرآن الكريم، ويحاولون إرباك العقول بالدجل والتضليل. على سبيل المثال، في الآية الكريمة: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُقِيمُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»، يحدّد الله سبحانه وتعالى بوضوح من هو ولي المؤمنين بعد النبي صلى الله عليه وآله، ويصف صفاته. فقد أقرّ العلماء، من الخاصّة والعامّة، في كتبهم على أنّ الآية الكريمة قد نزلت في شأن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وذلك عندما كان الإمام عليه السلام منشغلاً بالصلاة في المسجد، وجاء سائل إلى المسجد وسأل المسلمين عن المساعدة، ولكن لم يلتفت إليه أحد. في تلك اللحظة، كان أمير المؤمنين عليه السلام في حالة الركوع، ومدّ يده نحو الرجل المحتاج، وأشار إليه بأن يأخذ خاتمه من يده. فقام الرجل بأخذ الخاتم وخرج من المسجد. وفي الآية المذكورة، يمدح الله سبحانه وتعالى ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام ويعيّنه كوليّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
بلاغة التعبير القرآني
إذا سأل أحدهم عن سبب استخدام الله سبحانه وتعالى لصيغة الجمع (الذين) في الآية بالرغم من أن أمير المؤمنين عليه السلام كان شخصاً واحداً، فالجواب هو أن هذا يعكس فصاحة وبلاغة القرآن الكريم واللغة العربية. كما شرحتُ سابقاً، في الفصاحة والبلاغة العربية، يُستخدم أحياناً صيغة الجمع للإشارة إلى شخص واحد بناءً على الأهمية أو الخصوصية. لذا، حتى وإن كان فقط أمير المؤمنين عليه السلام هو من قام بذلك الفعل خلال الصلاة وأعطى الزكاة، فقد استخدم القرآن صيغة الجمع تعبيراً عن عظمة ومكانة هذا الفعل. ونجد في القرآن الكريم الكثير من الأمثلة على استخدام صيغة الجمع أو التعبيرات التي قد تكون غير متوقعة حسب السياق، وهذا جزء من بلاغة وفصاحة اللغة العربية. فمثلاً، يقول الله سبحانه وتعالى في الآية: «الذين قال لهم الناس» (آية 173 من سورة آل عمران). وعند مراجعة كتب التفسير، نرى أنّ هذه الآية نزلت بشأن شخص واحد فقط، ولكن القرآن استخدم كلمة «الناس»، التي تشير إلى جميع الناس، وهذا يعكس بلاغة القرآن الكريم وقدرته على التعبير بشكل شامل ومعبّر، حتى عندما يكون السياق مخصّصاً لشخص واحد.
علماء الخداع والدجل والتحريف
في الآية المذكورة، يمدح الله سبحانه وتعالى أمير المؤمنين عليه السلام وأفعاله، ومع ذلك، هناك شخص من المفسّرين المعروفين من أهل العامّة الذي لا أذكر اسمه، يقول إنّ الله لم يقصد في الآية المذكورة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. وهذه الادعاءات تأتي رغم وجود روايات متواترة، حتى من المفسّرين من العامّة، التي تشير إلى أنّ الآية قد نزلت في مدح أمير المؤمنين عليه السلام وتبيّن أنّ المقصود من الآية هو الإمام علي عليه السلام نفسه وبالذات. ويتسمر ذلك الشخص بالشكّ ويقول إنّه حتى لو كان المقصود هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنّ الآية لا تدلّ على مدح ذلك الإمام، لأنّ الزكاة التي دفعها عليه السلام للفقراء أثناء الصلاة يجب أن تكون واضحة. فإذا كانت الزكاة واجبة، فلماذا تأخّر الإمام عن دفع زكاته حتى أثناء الصلاة، وإذا كانت الزكاة مستحبّة، فلماذا فضل الإمام عملاً مستحباً على الصلاة، وهي فرض؟ وهذه التصريحات المثيرة للسخرية تأتي في وقتٍ يكون فيه الله سبحانه وتعالى قد مدح صراحةً فعل أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية، ولا مجال لأي تشكيك. لكن شخصاً يدّعي العلم يتّخذ موقفاً مخالفاً لهذا، وأهل الباطل دائماً ما يستخدمون الكذب والخداع والجدل الباطل لتحريف الآخرين. لذا، لا تفرّطوا في الوقت والجهد في الردّ على مثل هؤلاء الأشخاص إلاّ إذا كانوا جهلاء أو جهلة قاصرين، وليس علماء أو جهلاء مقصّرين.
لأربعين عالمي رائع
في نهاية كلمتي، أودّ أن أشير إلى موضوع مهم يرتبط بزيارة الأربعين المقدسة.
أأكد من هذا المنبر وأدعو الجميع إلى التركيز على هذه الزيارة المهمّة والمقدّسة. فمن الآن فصاعداً، ينبغي على الجميع في أي مكان بالعالم أن يسعى جاهدا لجعل زيارة الأربعين هذه السنة أكثر روعةً وحضوراً. فالظروف الحالية في العالم توفّر الأساس لهذا الأمر، والعالم قد أعدّ نفسه لذلك. وقد علمت مؤخّراً أنّ إحدى الدول قد طلبت من سفير العراق أن يمنح مواطنيها تأشيرات مجانية لحضور زيارة الأربعين المقدّسة، دون أن يتقاضى أي رسوم للتأشيرات.
إذا كان غير المسلمين يستفيدون من الوجود المقدّس للإمام الحسين عليه السلام، وكانت كربلاء تقع في مكان آخر من العالم، لكنتم شاهدين على الجهود التي يبذلونها في زيارة ذلك المكان، ولرأيتهم يتحمّلون ما يتحمّلون من مشقات كبيرة لجعل زيارة الإمام الحسين عليه السلام أكثر بروزاً وروعة.
همّة وتحمّل وجهد
لقد ذكرت الموضوع الذي اريد ذكره، في مناسبة سابقة، وسأتناوله بشكل موجز مرّة أخرى. عندما عزم المشركون على القضاء على الإسلام والنبي صلى الله عليه وآله والمسلمين، وقطعوا أكثر من أربعمئة كيلومتر من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة، طلب رسول الله صلى الله عليه وآله من المسلمين أن يتأهّبوا للقتال ضدّ المشركين والدفاع عن أنفسهم. لكن المسلمين، الذين كانوا بينهم منافقون، تخلّوا عن هذا المسؤولية وامتنعوا عن المشاركة في الدفاع. وتجدر الإشارة إلى أن جميع غزوات النبي صلى الله عليه وآله كانت أطراف المدينة المنوّرة، ولم تحدث أي غزوة أطراف مكّة المكرّمة، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله كان دائماً في موقع دفاعي ولم يهاجم المشركين في مكّة ولم يبدأ أيّة حرب. والأشخاص الذين يهتمون بالتحقيق، خاصّة الشباب المثقّف من الحوزات والجامعات، يُستحسن أن يرجعوا إلى كتابي (الرحلة المدرسية) و(الهدى إلى دين المصطفى صلى الله عليه وآله) ليطلعوا على تفاصيل الحروب التي خاضها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. وفي النهاية، طلب رسول الله صلى الله عليه وآله من المسلمين أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المنوّرة قبل أن يصل المشركون إليها، ولكن الكثير منهم لم يكونوا مستعدّين للمشاركة في الحرب. وفي هذا الوقت، وبنزول آية من الله تعالى، لامَ الله المسلمين، الذين كانوا منافقين، وطلب منهم أن يتعلّموا من الكفّار، لأنّهم قد تحمّلوا مشقّة قطع الطريق الطويلة، والحضور في الحرب وما يترتب عليها من إصابات وجرحى وقتلى وأسرى. فقال الله لهم: «إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون». ومن هذا المنطلق، وبالاستناد إلى الآية الكريمة، أقول إنّه من المناسب أن يُعمل بهذه الآية، وألاّ يُطلب من أي زائر مبلغاً مالياً لحضور زيارة الأربعين المقدّسة. ولقد قلت في مناسبات سابقة أنّني قرأت في مكان ما أنّ الكفّار لديهم زيارة دينية تُقام في يوم واحد من السنة، ويشارك فيها عدد كبير من الكفّار من مختلف أنحاء العالم، ولا يُطلب منهم أي مبلغ مقابل تأشيرة الدخول، بل التأشيرات مجانية للجميع لحضور هذه الفعالية. وخلال فترة إقامة تلك المناسبة، يتم تقديم كل شيء، حتى تكاليف الطيران ووسائل النقل الأخرى، وتكاليف الفنادق والمطاعم ومحلاّت الملابس، وحتى المشروبات مثل المشروبات الغازية، بأسعار مخفضة وبأسعار أقل من الأيّام الأخرى من السنة، ووفقًا للمعلومات المسجّلة عن هذه المناسبة، كان هناك حوالي خمسة ملايين شخص من مختلف أنحاء العالم يحضرونها.
تعاون حكومي
استناداً إلى القرآن الكريم، ليس من الممنوع أن أقول: لنتعلّم من غير المؤمنين في هذا المجال. فلماذا يجب على الدولة أن تحصل على مبالغ من الزائرين الحسينيين لحضور زيارة الإمام الحسين عليه السلام؟ فيجب تأمين الموارد المالية من مصادر أخرى، وليس من الزائرين. وتنفيذ هذه الخطوة فقط سيؤدّي إلى جعل زيارة الأربعين الحسيني أكثر تألّقاً وبهاءً. وفي هذا الصدد، هناك العديد من الأشخاص العاديين الذين يضطلعون بتقديم أموالهم وأرواحهم، وقد سمعنا ورأينا قصصاً متعدّدة في هذا السياق. فيجب على حكومة العراق والدول الأخرى أن تقوم بدورها في هذا المجال.
كنت شخصياً مضيّفاً لشخص قال إنّه كان يدخر المال لزواج ابنه لمدّة ثلاث سنوات، وعندما حلّ موسم زيارة الأربعين، سأل ابنه إذا كان يرغب في أن يُنفق المال المدخر على زواجه أم على ضيافة زوّار الإمام الحسين عليه السلام، وقرّر الابن أن يُنفق المال على ضيافة الزوّار، مؤجّلاً زواجه لثلاث سنوات أخرى. فبارك الله في هذا الوالد وابنه.
لنعرف قدر الزيارة
بلى، لقد ضحّى شعب العراق بأرواحهم وأموالهم في سبيل زيارة الأربعين المقدّسة، ومن المناسب أن تقوم حكومة العراق بواجباتها في هذا المجال، وألاّ تأخذ من الزوّار مبالغ مقابل تأشيراتهم وجوازات سفرهم، تماماً كما يفعل الكفّار بالنسبة لمراسمهم الدينية. ولا أرغب في الترويج لتلك المناسبات، ولكن من الجدير بالذكر أنّ الكفّار قد وفّروا تسهيلات حتى للمسجونين لحضور تلك المناسبات، حيث يمكن للمسجونين، بعد تعيين كفيل، أن يشاركوا في تلك الزيارة ويعودوا إلى السجن بعد انتهاء المراسم. فإن كان شخص ما ممنوعاً من الخروج لأيّ سبب كان، فيمكنه الحضور في تلك المناسبات بتقديم كفيل، وقد وضعوا قواعد دولية لذلك.
إذن، لماذا، كما يقدّر الكفار مناسباتهم الدينية ويقدّمون تسهيلات لمواطنيهم، يفتقر بعض المسلمين للأسف إلى تقدير قيمة زيارة الإمام حسين عليه السلام ولا يضعون تسهيلات مختلفة لها؟!
لنجعل الأربعين أكثر حماساً وعظمة
لذا، من المناسب والضروري أن يلتزم كل شخص، مهما كان موقعه في العالم، سواء في العراق أو إيران وغيرها من دول العالم، بأداء دينه وواجبه في هذا الصدد. فيجب على الجميع أن يساهموا بقدر استطاعتهم في جعل زيارة الأربعين الحسيني أكثر بهاءً وجماهيرية وحضوراً. فاليوم يوجد نسبة من الحريّات في معظم الدول، خاصّة في الدول غير الإسلامية، فاستفيدوا من تلك الحريات واطلبوا من المسؤولين في البلدان بتسهيل الأمور وتنظيمها بشكل يسهم في جعل زيارة الأربعين الحسيني المقدّس للسنة الجارية أكثر حماسةً وقوةً وعظمةً وسهولةً، مقارنةً بالسنوات السابقة.
أرجو من الله العليّ القدير، بحق جاه ومقّام الإمام الحسين عليه السلام، أن يمنّ علينا جميعاً، أنا وأنتم وكل من يصل إليهم صوتي في أي مكان من العالم، بأن نتمكّن من تقديم الخدمة للإمام الحسين عليه السلام وأن لا نقصّر في هذا الأمر، وأن نكون من المشمولين بشفاعته عليه السلام. وأنا أدعو لكم جميعاً وأطلب منكم الدعاء لي أيضاً.
وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله الطاهرين.