سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
بالعدل قامت السموات والأرض
قالت مولاتنا الزهراء صلوات الله عليها في خطبتها الفدكيّة:
(جَعَلَ اللَّهُ... الْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ)(1).
التنسيق هنا بمعنى التطهير، بینما العدل أن تضع كل شيء في حجمه وتقدیره المناسب، وسنبیّن ذلك.
بمعنى أن الله تعالى فرض العدل لتطهير القلوب مع بعضها حتى لا تكون متناحرة ومتنافرة فیما بینها، وأن تکون خالیة من الحقد والغلّ والأمور الخفية المظلمة التي تخرج من القلب وتظهر على اللسان واليدّ، لتصطحب معها الموبقات والمشاکل.
روي عن الرسول الأكرم صلی الله عليه وآله أنه قال:
(بِالْعَدْلِ قامَتِ السّماواتُ وَالأَرْض)(2).
فالشمس على سبیل المثال ـ هذه الكرة الترابیة الضخمة التي تصدر عنها حرارة عالیة ـ إن كان حجمها أكبر أو أصغر لما انسجمت مع باقي الكُرات الأخری التي تقع ضمن دائرة المنظومة الشمسیة، فكل شيء عند الله قائم بالعدل.
الشخص الذي يملك عدداً من الطيور وعدداً من الدواب وقسّم عليها مقداراً معيناً من الطعام بمقدار متساو کأن یعطي كلٌ واحد منها مقدار ربع كيلو غرام من الطعام، فللخروف ربع کیلو وهکذا للبقر والعصفور والحمامة.
هذه المساواة هنا لیست من العدل، لأن العدل هو إعطاء كل شيء بمقدار مايناسبه.
کما نری أن أعضاء جسم الإنسان كل واحد منها له حجم خاص يتناسب مع وظيفتها، فعين الإنسان وأذنه وأنفه لها أحجام تختلف عن حجم القدم والید وبعض الأعضاء الأخری، فلو کانت جمیع الأعضاء بحجم واحد لما إستطاع الإنسان الاستفادة منها بشکل صحیح، ولما قامت هذه الأعضاء بوظائفها الجسدیة. لأن (بِالْعَدْلِ قامَتِ السّماواتُ وَالأَرْض).
وهذه العدالة تجري في کلّ شيء، من الماء والمطر والسحب والثلوج والكون، وجميع ما في السماوات والأرض، فکلّ واحد منها له حجم ومقدار ومكان مناسب، ولولا ذلك لإختلّت الأمور وإنقلبت الموازین.
فالأرض مثلا لو كانت صلبة كالحديد لما نبت عليها شيء، ولو كانت رخوة كالماء لما تمكن الإنسان العيش علی سطحها.
کما إنّ المسافة بین الشمس وبین الكرة الأرضية هي التي تجعل الكائنات تعيش عيشة طبيعية، فلو كانت هذه المسافة أبعد لتجمدت هذه الكائنات، ولو كانت أقرب لأحترق كل شيء على سطحها.
وهكذا في إدارة الأسرة والقرى والمدن، إذا كانت الإدارة قائمة بالعدل فأن القلوب تطهر، لأن طهارة القلوب لا تتحقق إلاّ بالعدل، لأنه إذا حصل الإفراط أو التفريط فكلاهما سیؤدیان إلی النقص، ولذا قالوا (الزائد كالناقص).
ومثال ذلك هو الإنسان، بطبیعته يملك خمسة أصابع في يده أو قدمه، فإن كانت له ستة أصابع فهذه الزیادة لا تُعدّ كمالاً، بل هي نقص وإن کانت زیادة، وكذا لو كانت أقل من خمسة فهي نقص أيضاً.
ومن هنا فإن أهم شيء في العدل ماجاء ذكره عن سيدتنا ومولاتنا الزهراء (صلوت الله عليها) في قولها (فَرَضَ اللهُ الْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ) وتنسیقاً لها، لكن القلوب تنافرت بعد إستشهاد أبيها رسول الله صلی الله عليه وآله لأنها تركت العدل ورکنت إلی الظلم والباطل.
العدل لا يأتي إلاّ بأمرين
في رسالة بعثها أمير المؤمنين علیه السلام لواليه في مصر الصحابي مالك الأشتر رضوان الله عليه قال فيها مخاطباً إیّاه: (وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً)(3) فالسبُع هو الأسد الذي من صفاته أنه يقطـّع وينهش، ومعنی ذلك أن أمير المؤمنين علیه السلام أوصی الأشتر بأن لا یکون على الرعية سبُعاً ضارياً.
والسيدة فاطمة (سلام الله عليها) ذكرت هذه الجملة أیضاً بعد إستشهاد أبیها رسول الله صلی الله عليه وآله من أجل تقویم مسار الإنحراف الذي أصاب جسد الأمّة، فقد غير الحکّام آنذاك موازين العدل، والحکومات کما نعرف، طبعها عنيف وظالم في التعامل مع الرعیّة.
ونشیر هنا إلی أن العدل لايأتي إلا بأمرين:
الأمر الأول: أن يكون هناك تسديد إلهي للحاكم إذا کان من المعصومين عليهم السلام کأن يكون الحاكم أحد المعصومين الأطهار صلوات الله عليهم، فالعصمة تجعل من الرسول الأكرم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم حكام عدل، وعندما نتصفح التأريخ لانجد ثغرات تجاه الناس في حكومتيهما، فقد كان الناس يتمتعون بنعمة الحرية التي منحها الله لخلقه، وأعني بذلك أن تكون أيدي الحاكم مغلقة لامفتوحة، ويكون كل الناس بمنزلة الحاكم في الحقوق والواجبات، ولذا نرى في تأريخ حكومة الرسول الأكرم وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما) الكثير من النقاط المهمة التي تمثل مظهراً من مظاهر العدل ودرساً لمن یرید أن یتعلّم منهما.
والأمر الآخر: هو أن يكون الحاكم غير معصوم، وبما أن غير المعصوم لدیه قابلیة الظلم، لذا يجب أن تسنّ قوانين وتشریعات لا تسمح بظلم الحاکم.
فالحكومة لها حالة من القسوة والسطوة، مما یستدعي أن توضع قوانین تجعل الحکومة مکتوفة اليدين ولا طریق لها سوی التصرّف بعدل في كل الأمور.
بینما المعصوم يمكنه أن يكون عادلاً في كل الأمور، فحكومة المعصوم لا تفرّق بين الحاكم والرعية، فإن كان أدنى فرق كان ظلماً.
حكومة أمير المؤمنين مصداق العدل:
تروي لنا كتب الحديث والتأريخ أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) کان یمضي ذات یوم في أحد شوارع الكوفة، وإذا به یری شيخاً كبير السن یتكفف (یستجدي)، فوقف (عليه السلام) متعجباً من فعله فقال: ما هذا الذي أراه؟ ولم يقل من هذا!
وهنا دقّة في التعبیر، لأن (ما) لما لا يعقل. و(من) لمن يُعقل، أي أنه (عليه السلام) رأى شيئاً عجيباً يستحق أن يتعجب منه، فقال أي شيء هذا؟
قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز وهو الیوم يتكفّف.
فقال الإمام (عليه السلام): (ما أنصفتموه.. إستعملتموه حتى إذا كبر وعجز، تركتموه. إجروا له من بيت المال راتباً)(4).
ویُستشف من کلام الإمام أن فعلكم هذا لايمثل أسلوب القیم الإسلامیة.
لنسأل، في أي مکان من العالم تجدون نظیراً لهذا الموقف الإنسانیة؟
في الواقع هذا هو العدل الذي نتحدّث عنه للحاكم الحقیقي، وهذه هي القصة التي یمکن بها أن نظهر للعالم رأفة الإسلام ورحمته، تصفحوا تأريخ ما قبل تأريخ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ستجدون قصص وأحداث مشينة كثيرة في مختلف الجوانب الإقتصادية والسياسية والنفسية. حیث ذكروا أن الصحابي الجليل أبا ذرّ ـ رضوان الله عليه ـ مات جوعاً وهو من خيرة أصحاب رسول الله (صلوات الله عليه وآله)، فكيف يموت الإنسان جوعاً في حكومة الإسلام؟
في غیاب العدل
ذكروا في التأريخ أن أحد (أصحاب) رسول الله صلی الله عليه وآله كان له من الأموال والذهب والأمتعة والأراضي ماجعل الرواة لم يذكروا مقدارها، بل إکتفوا بالقول أن الذهب الذي خلّفه ذلك (الصحابي) لمّا أراد الورثه أن يقسموه عليهم لم يستطعوا ذلك، فكسروه بالفؤوس!!
من أين جمع هذه الأموال الطائلة؟ ومن أي مكان؟!
خاصة وأن ذلك المال والذهب جُمِعَ في زمن مات فیه أبو ذر الغفاري جوعاً!
والسبب في هذه المفارقة هو غیاب العدل، فأساس كل موفقية هو العدل في كل شيء وكل مكان.
في المستوى الحكومي إذا كان العدل حاكماً فإنه يكون تنسيقاً للقلوب وتطهيراً لها، ولكن عندما يُفتقد العدل تحدث هنا وهناك مظالم کظلامة سیدتنا فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، التي أدّت إلی سقوط جنينها المحسن (سلام الله عليه)، وهي جریمة ظهرت علی رؤوس الأشهاد.
لکن القصة التي مرّ ذكرها عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لاتجد لها نظيراً واحداً في كل تأريخ الحكومات السابقة والحدیثة على الإطلاق، حتى الحكومات التي تتشدق بالحريات والتي قد يكون فیها بعض الحريات القلیلة، لكنّ هذه الحریات لاترتقي إلی هذا المستوی الرفیع الموجود في الإسلام.
الحاكم العادل هو الذي يكون مع الرعية
روي في قصة أخرى وقعت في زمن حكومة أمير المؤمنين علیه السلام، أن الإمام سلام الله عليه وضع درعه في مكان، فجاء أحد الكفّار وحمل ذلك الدّرع!
بعد أن فرغ أمير المؤمنين صلوات الله عليه من عمله، وجاء لکي یأخذ درعه، وجده في ید ذلك الکافر!
فقال له: هذا درعي.
قال الكافر: بل هذا الدرع لي!!
فإحكتما إلى القاضي، وكان القاضي الذي إحتکما عنده، قد عيّنه أمير المؤمنين قاضياً، واليد قاعدة شرعية إلاّ إذا ثَبُتَ خلافها. ومثاله من كان في حوزته ملابس، فهي مُلك له ما لم يثبُت خلاف ذلك؟ وأمير المؤمنين كان مدعياً، وعليه أن يأتي ببيّنة، فكان بإمکان الإمام أن يأتي بذلك لكنه لم يأت وحكم القاضي أن الدرع لذلك الكافر.
ومضیا، لکن الرجل الكافر سرعان ما جاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام قال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله).
هذا هو الدين الحق، وهذا هو الحاكم الحق الذي يساوي نفسه مع الرعية حتى وإن كان من غير أهل ملّته، وهذا هو الحاکم، يتقبّل الحُكم حتى وإن كان عليه وضدّه، فلم يأت أمير المؤمنين ببينة وتقبّل أن يكون الدرع من نصيب ذلك الكافر.
السيدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها عندما واجهت الأمة مخاض سياسي شديد بعد رسول الله صلی الله عليه وآله خاطبت الحكومة وإحتکمت معهم بالعدل، لأن العدل في الحكومة مسألة في غاية الأهمية.
ــــــــــــــــــــ
(1)الاحتجاج، ج1 ص99.
(2)ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج4 ص103.
(3)بحار الأنوار، ج77 ص243.
(4)وسائل الشیعة، ج11 ص49 باب19 ح1.