سلسلة توجيهات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الموسومة بـ(نبراس المعرفة)، التي يتطرّق فيها سماحته إلى المواضيع الدينية والعقائدية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن جوانب من السيرة الوضّاءة للمعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعظمة الإسلام وجماله، وأنّ به تسعد البشرية في الدارين، وغيرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمامة هي الأمان
لقد ذكرت سيّدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله عليها في الخطبة العصماء والغرّاء التي ألقتها بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله على جموع المهاجرين والأنصار في مسجد النبي صلى الله عليه وآله، خلاصة الإسلام وأحكامه وأخلاقه كما أنزل الله سبحانه وتعالى الإسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله. ومما قالته صلوات الله عليها في هذه الخطبة: (وجعل الله إمامتنا أماناً من الفُرقة)(1).
ملاك الاتّحاد
إنّ ملاك الاتحاد الإسلامي هي إمامة العترة الطاهرة، أي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، كما أنّ ملاك الإسلام هو الشهادتان اللتان من قال بهما حقن دمه وماله وعرضه، وكان من المسلمين، لا من المؤمنين. والإسلام أعمّ من الإيمان كما صرّح بذلك القرآن الحكيم، أي ليس كل مسلم مؤمناً، ولكن كل مؤمن هو مسلم، حيث يقول الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(2). فمن تشهّد الشهادتين وصلى الصلوات المفروضات وصام شهر رمضان وحجّ البيت إن كان مستطيعاً وأتى بالأحكام، يكون مسلماً ويعدّ من المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ولكنه لا يكون مؤمناً إلاّ بإمامة أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم من العترة الطاهرة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيما تواتر عنه: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(3). فملاك (لن تضلّوا بعدي) أي لا تظلّ الأمّة، هما الكتاب والعترة، وهو ملاك الاتحاد الإسلامي. فإذا انفصلت العترة عن الكتاب وعن الشهادتين، فهذا ليس إلاّ الفُرقة.
الأمان من الفرقة والنزاع
لقد قالت مولاتنا فاطمة صلوات الله عليها (إمامتنا أماناً من الفُرقة) أي أمان من الافتراق، وأمان من النزاع الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه في القرآن الحكيم بقوله عزّ من قائل: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(4). فالذي هو الإمان من النزاع والفُرقة هي إمامة العترة الطاهرة صلوات الله عليهم. والسيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها معصومة بنصّ رسول الله صلى الله عليه وآله فيما تواتر عنه من الحديث المشهور والمعروف المروي في كتب التفسير وكتب الحديث الشريف وكتب التاريخ: (فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني)(5). فرسول الله صلى الله عليه وآله معصوم، والسيّدة فاطمة صلوات الله عليها معصومة أيضاً، وكلام المعصوم حجّة بنصّ القرآن الحكيم، حيث يقول تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ)(6)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله بكل تأكيد وإصرار: (كتاب الله وعترتي أهل بيتي). وإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة: كلمة (لا إله إلاّ الله)، وكلمة (محمّد رسول الله) وكلمة (عليّ وليّ الله) الذي هو دليل الالتزام بالعترة الطاهرة، كما أمر رسول االله صلى الله عليه وآله، وقبله أمر القرآن الحكيم أيضاً، يكون الاتحاد الإسلامي. فحسب نصوص القرآن الحكيم والروايات المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، والمتواتر عن أهل البيت صلوات الله عليهم من العترة الطاهرة، في شتى المناسبات وبأنواع من التعبيرات، فإنّ الملاك للاتحاد الإسلامي هي إمامة الأئمة الطاهرين من عترة أهل البيت صلوات الله عليهم، ولا طريق للاتحاد الإسلامي إلإّ بها.
حكومة الاتّحاد
ذلك قد أثبته التاريخ يوم كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه هو الإمام والخليفة في الظاهر بعد عثمان. فالإسلام الذي حكم به الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في الناس هو الإسلام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى. فلم يك في حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه مورد واحد من الحيف والظلم بسبب أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولم يقتل بريء في حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولم يسجن بريء في حكومته، ولم يصادر دينار واحد ولا درهم واحد في حكومته. وعاش الناس في حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه الاتحاد الإسلامي بأفضل مظاهره وبأفضل ما يمكن أن يكون الاتحاد الإسلامي. فكل الفئات الإسلامية، ورغم اختلافها في أصول العقائد وفي الأحكام وفي الأخلاق وفي الأساليب، كانوا يجتمعون متّحدين تحت حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، حتى الذين لم يقبلوا بحكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكانوا يصرّحون بذلك ويعلنونه حتى في وجه أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ومع ذلك كانوا يعيشون عيشة إسلامية. والله سبحانه وتعالى هو الذي يحاسب الذين علموا الحقّ وعرفوه وتركوه. ولذا قال االله تعالى في القرآن الحكيم للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)(7).
حكومة الرفاه والاطمئنان
إنّ المهم في الحكومة الإسلامية أن يكون الحاكم الأعلى هو الذي يمهّد للاتحاد الإسلامي بجميع أصنافه وأنواعه، ويعيشن الناس معاً ويصلّون في مساجد المسلمين، بعضهم مع بعض، سواء اعتقد هذا بذاك أو لم يعتقد. حتى أنّه ورد في التاريخ مكرّراً أن بعض الأشخاص كانوا يهينون الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في أيّام حكومته، ومع ذلك كانوا يعيشون بوداعة واطمئنان ورفاه، تحت ظل أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وفي التاريخ نماذج أخرى أيضاً من الذين اتّبعوا أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولو بعض الشيء. وعلى كل حال، كانت حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، حكومة اتحاد إسلامي كما يتوقّعه المسلمون في كل وقت وفي كل زمان وكل مكان.
لا حكم إلاّ بإجازة شرعية
في أيّام الفقيه الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء، طلب أحد الذين كان يحكم بعض البلدان الإسلامية ذلك اليوم، من الشيخ أن يمنحه وثيقة تجيز له إقامة العدل في البلاد وبين العباد وتجيز له الحكومة بين الناس، لأنّه لا يجوز للحاكم أن يحكم البلاد والعباد إلاّ بإذن من الله سبحانه وتعالى ومن رسوله صلى الله عليه وآله ومن الإمام المعصوم صلوات الله عليه، وبالحقّ. فلذا استجاز ذلك الحاكم في ذلك اليوم، من الفقيه العظيم. فكما ورد في كتاب الشيخ رضوان الله عليه نفسه أنّه أبى من ذلك إلاّ أن يأتي بنفسه إلى ذلك البلد الإسلامي، ويرى من قريب هل أنّ الأمن مستتبّ في ذلك البلد، وهل الحرية الإسلامية متواجدة فيه، وهل الاقتصاد الجاري فيه هو الاقتصاد الإسلامي، وهل تجري في ذلك البلد الأحكام الإسلامية بعدالة. ويقول رحمة الله عليه بعدها: (ذهبت إلى البلد ودرت فيه، فلم أر باكياً ولا باكية، ولا شاكياً ولا شاكية)(8). يعني عندما كان الحاكم على خطى الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وعلى خطى ما ذكرته سيّدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله عليه (إمامتنا أماناً من الفُرقة) فكان الحاكم على الشهادتين وعلى إمامة العترة الطاهرة من أهل البيت صلوات الله عليهم، ولذا عمّ ذلك البلد الطمأنينة والخير والرفاه والفضيلة، في أطرافه وأكنافه، وفي طوله وعرضه، حتى نقل ذلك الفقيه الكبير رضوان الله تعالى عليه أنه لم ير شخصاً واحداً من الرجال يبكي في تلك الحكومة، ولم ير امرأة واحدة تبكي في تلك الحكومة، ولم ير ذلك الفقيه الكبير بعد سيره في تلك الدولة، وفي أماكن متعدّدة، رجلاً واحداً يشكو من تلك الحكومة ومن ذلك الحاكم، ولم ير أمرأة واحدة تشكو من ذلك الحاكم ومن تلك الحكومة. وآنذاك أصدر ذلك الفقيه الكبير رضوان الله عليه، أي الشيخ جعفر كاشف الغطاء لذلك الحاكم، وثيقة بإجازته بأن يحكم بالعدل.
هكذا يتحقّق الاتّحاد
بلى، إنّ الاتحاد الإسلامي له ملاك واحد لا ثاني له، وهي إمامة أئمة أهل البيت من العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين، ولا يمكن الاتحاد الإسلامي إلاّ في ظلّها، وكذلك الذين يكونون على طريقة العترة الطاهرة من أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم. وهذه مسؤولية مهمّة للجميع أن يحمولها عن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، إلى العالم كلّه، في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية. فإنّ الاتحاد الإسلامي لا يتحقّق كما يريده الله سبحانه وتعالى وكما يريده رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ في الاجتماع على إمامة أئمة العترة الطاهرة من أهل البيت صلوات الله عليهم. وهذه هي المسؤولية العظيمة التي تكون نتيجتها الأمور الكبيرة من الحريّات والرفاه والإنسانية والفضيلة في ظل اتحاد إسلامي دعا إليه الله سبحانه وتعالى حيث قال: (ولا تنازعوا)، ودعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، ودعا إليه العترة الطاهرة صلوات الله عليهم حيث قالت مولاتنا فاطمة: (إمامتنا أماناً من الفُرقة). وهذا هو من الجعل الإلهي، أي جعل الله سبحانه وتعالى الأمان من الفُرقة، هذا الطريق الوحيد، وهي إمامة العترة الطاهرة من أهل البيت صلوات الله عليهم.
أسال الله سبحانه وتعالى أن يوفّق الجميع لنشر هذه المسؤولية العظيمة. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)بلاغات النساء (ص ١٤، مطبعة النجف الحيدرية)، والأستاذ عمر رضا كحالة في أعلام النساء (٣: ١٢٠٨، طبعة دمشق). وابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة ١٦: ٢١٠، ذيل كتابه عليه السلام إلى واليه عثمان بن حنيف - الرسالة ٤٥).
(2)سورة الحجرات: الآية 14.
(3) وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي: الجزء ٢٧، الصفحة ٣٤.
(4)سورة الأنفال: الآية 46.
(5)بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي: الجزء ٤٣، الصفحة ٣٩.
(6)سورة الحشر: الآية 7.
(7)سورة الرعد: الآية 40.
(8)كتاب(كشف الغطاء عن مبهمات شريعة الغرّاء) للشخ جعفر كاشف الغطاء: الصفحة 2.