شبكة النبأ: (إنّ المنتصر الوحيد هو من يستثمر جميع أوقاته خلال حياته) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
اذكروا محاسن موتاكم، جملة تتكرر على ألسن الأحياء وهم يستذكرون الراحلين إلى العالم الآخر، فما بالك لوكان الإنسان بلا محاسن، أو غادر الدنيا بقليل من المحاسن؟، إن هذا النوع من البشر سوف يكون خاسرا في حياته وفي أخراه، لأن الحياة الأخرى لا تسمح له بالعمل كونها دار حساب وليست دار عمل، فإذا فرّط في عمره خسر دنياه أيضا.
لذا لابد أن يتنبّه الإنسان إلى أن عمره محسوب بالثواني والدقائق والساعات والأيام وبالسنين، وهو مع كل يوم جديد يتناقص باستمرار، لذا ينبغي استثماره أفضل الاستثمار، لأنك إذا كنت اليوم صحيح الجسم، قوي، وصحتك جيدة، فهذا ليس مضمونا في اليوم التالي، ثم أن الإنسان يفقد قواه وقدراته خصوصا العملية كلما تقدم في السنّ، لهذه فالأيام ليست متشابهة، والسنوات لا تبقى جيدة ومواتية طوال العمر.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، يقول في
كتابه القيّم، الموسوم بـ (يا أبا ذر):
(إنّ أحوال الدنيا غير ثابتة، بل إنّ ذات الدنيا متغيّرة، فترى ابن آدم تارة مريضاً، وأخرى سليماً، وشأن السلامة شأن سائر النعم الدنيويّة والأحوال غير الثابتة).
إذًا ليست هناك صحة دائمة في جسد الإنسان، لأنه معرّض للمرض العضوي والنفسي معا، وفي حال أصابه مرض ما، فإنه سوف يفقد الكثير من مزاياه التي تسمح له بأداء أعماله المختلفة، وبهذا يفقد فرصة مواتية لتحقيق ما يخطط له، وعليه أن يتنبّه دائما ويحسب حسابه إلى التغيير المحتمل في أوضاعه سواء ما يتعلق بالصحة والجسد، وما يتبع ذلك من أمور أخرى كثيرة تتعلق بمجل حياته وأوضاعه.
من الملاحَظ أيضا أن فرص الإنسان لاستثمار عمره بالشكل الصحيح تتناقص كلّما اقترب من الشيخوخة، لأن مرحلة الشيخوخة تكون كثيرة الأمراض بالنسبة للإنسان، فلا ثبات في قوى البشر، ولا ثبات في أي شيء آخر، فقانون التغيّر يصيب كل شيء، لذا من المهم أن يستثمر الإنسان قواه بأقصى درجة ممكنة وهو في مرحلة الشباب.
محطة الشيخوخة قادمة لاريب
قد يأتي يوم على الإنسان يكون فيه عاجزا عن الحركة، وربما يصل ذلك إلى عدم قدرته حتى على أداء فريضة الصلاة التي تتطلب منه القيام والجلوس والحركة، ويمكن أن يفقد القدرة على أداء الكثير من الأعمال، حتى البسيطة منها، لذا على الإنسان أن يحسب لهذه النتائج بشكل مبكر، وعليه أن يستثمر سنوات عمره بشكل جيد قبل أن يأتي اليوم الذي يفقد فيه القدرة على الحركة، وعلى العمل، ومن ثم يباغته الموت فيندم على ما أهدره من وقت ثمين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد هذه النقطة ويحذر منها، فيقول:
(لعلّ جميع ما يتعلّق بالإنسان كالعبادة والمعاش، منوط بالسلامة والعافية، فحينما يصاب بالمرض، يفقد نسبة غير بسيطة من قدرته على إنجاز الكثير من الأعمال. ومن تراه يعمل طيلة نهاره، ثمّ ينصب نفسه لأداء صلاة الليل، تراه أيضاً يعجز عن مجرّد القيام في حال مرضه، وحالة المرض هذه تتضاعف لديه حين الشيخوخة).
هناك كثير من الناس لا يشعر بقيمة الوقت، ولا يقدر مكانة الدقائق والساعات التي تتناثر يمينا وشمالا من عمره دون أن يحسب لها حسابا، حتى يشعر كأنه باقٍ إلى الأبد، ولا يخطر في باله بأنه ماضٍ إلى زوال، وهذه هي حال الدنيا، فهي دار عمل واستثمار للدار الأخرى، لاسيما في أعمال الخير.
يحقق الإنسان هدفين كبيرين حين يستثمر عمره بالشكل الصحيح، الأول هو عبوره للدنيا (قاعة الاختبار) بنجاح، فيصل إلى الدار الأخرى ولديه الخزين الكافي من الصالحات، وهناك لا يحتاج إلى أن يعمل لكي يقلل من ذنوبه ومعاصيه، فقد جدّ وكدّ وعمل صالحا في دنياه، واستثمر عمره بما يحقق له خزينا جيدا من العمل الصالح.
هذا النوع من الناس هم أولئك الذين يستثمرون شبابهم وأعمارهم بالشكل الصحيح، ويتنبّهون إلى أن الشيخوخة بانتظارهم، وأن الأمراض سوف تفتك بهم لاحقا، لذا عليهم أن يعملوا اليوم الصالحات وهم في قمة قواهم وأتم صحّتهم، أي في مرحلة الشباب، وإذا بلغوا مرحلة متقدمة من العمر، حتى لو كانوا غير قادرين على العطاء الأمثل، فإنهم قاموا بما يلزم في شبابهم حين كانوا أقوياء وقادرين ومنتجين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ للمرض وتأثيره حالة نسبيّة إزاء الشاب والشيخ. ولذا كان من الجدير بالإنسان أن يعرف قيمة سلامته، ويسعى حثيثاً لتحقيق أفضل درجات الاستفادة منها واستثمارها).
الخروج بنجاح من قاعة الاختبار
من الواضح أن وجود الإنسان في الدنيا يمثل فرصة له لكي يعمل، ويثبت بأنه جدير بالنجاح في الدنيا، وإنه يستحق الخروج من قاعة الاختبار ناجحا، وعليه أن يفهم بأن الفرص المتاحة له هنا في هذه الدنيا، مفقودة تماما حين ينتقل إلى المرحلة القادمة، أو إلى دار البقاء، حيث تنتفي فرص العمل هناك، ولن يكون قادرا على إضافة حسنة واحدة إلى حسناته، بل لن يكون قادرا على عمل أي شيء من شأنه ينقذه من تفريطه بالعمر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول هذه النقطة:
(إنّ ابن آدم يعجز عن فعل شيءٍ بعد الموت، ويفقد القدرة حتى على قول «لا إله إلا الله» ويعجز عن التصدّق بأبسط الصدقات، ولذلك أضحى من الضروري والمنطقي أن يغتنم حياته بأفضل الأشكال).
من القضايا الصعبة التي يعاني منها البشر، أنهم لا يقدّرون قيمة الوقت، لاسيما عندما تكون أجسامهم صحيحة، ويعيشون مرحلة الشباب، فيأخذهم الزهو بأنفسهم، وبأنهم أقوياء أصحّاء، وهم في الغالب لا يفكرون بأن محطة الشيخوخة بانتظارهم، وسوف يصلون إليها آجلا أم عاجلا، وطال الوقتُ أو قصر، وهذا ما يسمى بغرور الشباب، لذا فإنهم مطالبون بالتنبّه الدائم للابتعاد عن هذا النوع من الغرور.
لا أحد بإمكانه مقاومة قوة الزمن، فكل قوي للزمان يلين كما يقول الإمام علي (ع)، لهذا فإن استثمار العمر وعدم التفريط بالوقت، يجب أن يكون هدفا عظيما للناس في شبابهم، وعليه أن يضاعف من خزين الصالحات في شبابه بأقصى ما يمكن، لأن مرحلة الوهن والضعف القادمة، سوف تحرمه من هذه الفرص الثمينة، لذا عليه أن يعي ما يدور حوله جيدا، ولا يخدعه غرور الشباب وقته التي تبدو له وكأنها لن تزول مطلقا.
من هنا ينبّه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) الشباب قائلا:
(على الشباب أن يعوا قيمة العمر وكونهم شباباً، وأنّ هذه المرحلة من العمر تمرّ وتنقضي، وهي غير قابلة للاستدارة والعودة، وأنّ الإنسان يفقد أكثر قابلياته وقواه بانقضاء مرحلة شبابه).
لذا فإن الفائز الأكبر أو الأوحد، هو الإنسان الذي يستثمر أوقات عمره، وشبابه، وجميع مراحل حياته في عمل الخير، كخزين أخروي ينقذه في يوم الحساب. وقد قال المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ المنتصر الوحيد هو من يستثمر جميع أوقاته خلال حياته المسارعة إلى الانقضاء).
علينا إذًا أن نملأ أوقاتنا وأعمارنا بالصالحات من الأعمال والأقوال، فهي متاحة لنا اليوم هنا في دنيانا ودار اختبارنا، وغدا لا توجد فرصة للتصحيح في أُخرانا، هذا ما يجب أن يتنبّه له الجميع، ويعملوا به، ويطبقوه حتى تكون العاقبة على ما يرام.