شبكة النبأ: (كان النبي قد أوصى إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ فيما أوصاه ـ أن يقضي ديونه) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
من أبرز الصفات والملَكات التي امتلكها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في شخصيته، ملَكة الزهد، فقد زهد بجميع ملذات الدنيا، ومقت كل مغرياتها، وأدار ظهره لها، وفضّل الحياة البسيطة في كل شيء، الملبس البسيط، المأكل في أبسط وأقل ما يكون، وكانت السلطة آخر ما يفكر فيه، لو لا حاجة المسلمين له ولإدارته الحكيمة.
لقد درس الإمام أمير المؤمنين في مدرسة الزهد النبوي، وتعلّم في هذه المدرسة كيفية التغلّب على مكيدة النفس، ومكائد الدنيا، وحبائل الشيطان، وتعلّم أيضا أن يضع نفسه في خدمة المسلمين، ولا يعترف بالوجوه المغرية للسلطة أو للدنيا، وعايش وعاصر أخاه وابن عمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ورآه بأم عينيه كيف يفضّل مصالح المسلمين على مصالحه الشخصية والعائلية.
لدرجة أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يستدين الأموال لكي يقضي حوائج المحتاجين والمساكين، ثم يسدد ما بذمته للآخرين، ولم تكن أموال وموارد الأمة إلا وسيلة لبناء الدولة التي ضاهت في غضون عقدين فقط أعظم الدول والامبراطوريات في ذلك الحين.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
(إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرغم مما كان يُجبى إليه من الغنائم والهدايا بالملايين والملايين، مع ذلك كان مديوناً غالباً، وكثيراً ما كان يستدين لهذا وذاك. وقد مات (صلى الله عليه وآله) وكان مديوناً. قال الصادق: مات رسول الله وعليه دين).
إذًا هذا هو الدرس الأول الذي تعلّمه الإمام علي (عليه السلام) في مدرسة الزهد النبوي، ومن خلاله أسس مدرسته الخاصة في الزهد، وتعامل فيها مع السلطة كما كان يتعامل معها ابن عمه وأستاذه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كذلك تعلّم فيها كيف يتعامل مع أموال الدولة وأموال المسلمين، وكيف يقدّم احتياجاتهم ومصالحهم على مصالحه وهو الزاهد في الطعام والشراب والملابس وبكل الممتلكات الدنيوية المادية الأخرى.
ترويض الدنيا بملَكة الزهد
هذا التلميذ النجيب لنبي المسلمين، فتح عينيه على مساحة الزهد العظيمة التي فتحها أمامه الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتعلم كيف يروّض نفسه، وكيف يدمغ الدنيا والسلطة على رأسها بمطرقة الزهد القوية التي كان يمتلكها، وباشر السيرة نفسها التي اعتاد عليها وتعايش معها وهو يعاضد قائد المسلمين الأعلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وكان يرى بعينه كيف يتعامل قائد المسلمين مع أموالهم ومواردهم وغنائمهم، وكيف يهبّ لمساعدة المساكين والفقراء، وكيف يوظف أموال الناس والدولة لصالحهم أولا، وحين كان يخلو بيت المال لأي سبب، كان يستدين بنفسه كي يسيَّر الاحتياجات الهامة للناس، وهذا ما جعله مديونا للآخرين، مع أنه معتاد على الحياة البسيطة.
بعيدا عمّا يعيشه الملوك والرؤساء في ذلك الحين، حيث أبواب الرفاه والأبهة والبذخ السلطوي مفتوحة على مصاريعها، لكن ملَكة الزهد الراسخة في أعماق الرسول (صلى الله عليه وآله) وحرصه الشديد على قضاء حوائج الناس جعلته مديونا لهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) جعل أناساً ينادون في أيام الحجّ في الشوارع والطرقات ويعلنون للناس بحثاً عن ديون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليؤدّيها… إذ كان النبي قد أوصى إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ فيما أوصاه وعهد إليه ـ أن يقضي ديونه، فإنّه قال: علي منـي وأنا منه ولا يقضي عنـي دينـي إلا أنا أو علي) .
وهكذا انتقلت حياة الزهد إلى علي (عليه السلام) كمنهج إدارة للدولة، وترسخت هذه الملَكة لتصبح مدرسة تزخر بالقيم الإنسانية الرفيعة، وتضع الإنسان وكرامته واحتياجاته في مقدمة كل الأهداف، وعلى الرغم من أن مقاليد السلطة كانت بيد الإمام (عليه السلام) وخراج الدولة ومواردها المختلفة كلها تحت تصرفه.
إلا أنه وضع حاجزا شاهقا بين أموال الدولة وحقوق الناس من جهة، وبينه شخصيا من جهة أخرى، بل كان يعيش في حياته وهو مديونا للآخرين، كما كان يعيش قدوته وأسوته ومعلّمه ومثَله الأعلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
هذا ما أكدّه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(علي (عليه السلام) قُتِل وهو مديون، وتأسّى برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد حفظ التاريخ عنه أنه (عليه السلام) لما استشهد.. كانت ممتلكاته: سبعمائة درهم. وكانت ديونه: ثمانمائة ألف درهم).
فخر الأمة والبشرية جمعاء
وكما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقضي ديون الرسول (صلى الله عليه وآله)، فإن الإمام الحسن قضى ديون أبيه الإمام علي (عليهما السلام) بعد استشهاده، هذه هي مدرسة الزهد التي درس فيها أهل البيت (عليهم السلام) ونهلوا منها القيم العظيمة التي ظهرت في مناهج حياتهم، وتجسدت في سيرتهم أفضل تجسيد.
تُرى هل يطّلع قادة المسلمين على هذه التفاصيل الدقيقة والموثّقة تاريخيا في كتب لا غبار عليها، ولا يطالها التشكيك كونها ترد في الكتب الموثوقة (للشيعة والسنة على حد سواء)، وهل يقوم هؤلاء القادة الحاليّون بالتعلّم في مدرسة الزهد التي تأسست في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله)، واستمرت في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وامتدت في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟
نقرأ في ما قاله سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(نقل المجلسي أيضاً عن السيد ابن طاووس في كتاب (كشف المحجة) بسنده عن أبي جعفر الإمام محمد الباقر قال: قُبض علي، وعليه دين ثمانمائة ألف درهم. فباع الحسن ضيعة لـه بخمسمائة ألف درهم فقضاها عنه. وباع لـه ضيعة أخرى بثلاثمائة ألف درهم فقضاها عنه).
نحن جميعا نفخر بإمامنا وسيدنا، أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونحن نعيش هذه الأيام العسيرة على قلوب المسلمين، والتي يستشهد فيها الإمام وهو في محراب العبادة والزهد، فهذه السيرة المحصّنة بالزهد هي مثال لجميع المسلمين، بل للبشرية كلها، ولكن الحاكم والمسؤول خصوصا المسلم، تقع عليه مسؤولية كبرى لكي يدرس في مدرسة الزهد، ويتعلم فيها كيف يضع بينه وبين أموال الناس حدا غير قابل للاختراق.
حين كان يستدين الإمام علي أموالا لم يكن يحتاج لها، لأنه لا يستهلك إلا القليل القليل من المال بسبب طريقة عيشه القائمة على الزهد والبساطة، إنما كان يقوم بذلك لكي يساعد الذين يستحقون الإعانة والمساعدة، لهذا نحن سنبقى نفخر بإمامنا، ونتكلم عنه في كل حين، وفي كل المناسبات عسى أن يرعوى المسؤولون والقادة (في دول إسلامية) ويكفّون أيديهم عن أموال الفقراء وثرواتهم وحقوقهم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يذكِّر قائلا:
(هذا هو المثال الصحيح لإمام المسلمين. ولِمَ كانت هذه الديون؟ وفيمَ كانت تُصرف؟، إنها لحاجات المسلمين، ومساكينهم، وأيتامهم، وأراملهم، وضعفائهم.. وإلا فعلي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لم يكن يملك للبسه سوى قطعتين فقط في الشتاء والصيف، قطعة يتّزر بها، وقطعة أخرى يرتدي بها. والذي لم يكن أكله سوى خبز الشعير والملح، أو اللبن. ماذا يحوجه لأن يقترض لشخصه ونفسه؟، هذا الذي تفتخر به أمة الإسلام من إمام، وقائد، وزعيم).
السلام على أبي الأيتام، وسيد البلغاء، وعلم الأعلام، ونصير الفقراء، وأمير الزاهدين، ونحن نعيش ساعات استشهاده العسيرة الحزينة المؤلمة لقلوب ونفوس الجميع، فسلام عليك يا سيد الكرامة والعزّة والشجاعة والعدالة والزهد والتقوى، السلام عليك يا زاهد الدنيا ومغرياتها وملذاتها وامتيازاتها، فكنت ولا زلت وستبقى الخالد الأعظم، سيدي ومولاي يا أبا الحسن والحسين عليهما السلام.