شبكة النبأ: يعترف الأبعدون قبل الأقربون، بعد أن يطّلعوا على التاريخ، بأن حكومة الإمام علي صلوات الله عليه، هي النموذج الأفضل الذي أقام حدّاً فاصلاً بينه - كنظام سياسي- وبين ثنائية الجوع والقمع، فالحكومات الفاشلة هي تلك التي لا تتمكّن من إشباع الناس، فيكثر فيها الجوع حتى يُصبح كالوباء، ويتناسل فيها القمع فيقتل الرأي والكلمة ويكمّم الأفواه، وتكثر وتكبر السجون، فثنائية الجوع والقمع هي المؤشّر الأقوى والأشدّ تأكيداً على تردّي الحاكم وضعف الحكومة.
قبل 1400 سنة كانت حكومة الإمام عليّ تدير شؤون دولة حجمها يقارب نصف المعمورة، ولكن هذا الفضاء الأرضي الواسع الذي يضمّ الملايين من البشر آنذاك، لم تجد فيه جائعاً واحداً، والأكثر دهشةً من ذلك أنك لا تجد سجيناً سياسياً واحداً في هذه الدولة المترامية الأطراف، تُرى كيف يمكن لحاكم أن يسيطر على دولة بهذه السعة على شعبه ورعيته من دون أن يزج ولو بشخص واحد في السجن كي يضع حدّاً لمعارضيه؟
أليس في هذا درساً للأنظمة السياسية الإسلامية والعربية، بل هو درس عالمي ينبغي أن تصل تأثيراته إلى كل الحكومات التي تدّعي اليوم بأنها الأكثر ديمقراطية من سواها، وأنها الأفضل على مرّ التاريخ، وأنها تراعي كرامة الإنسان وتحفظ كيانه من الإذلال، ولكنه كلام فقط، فما يحصل في واقع هذه الدول يؤكّد أن ديمقراطيتها هشّة، وأن ثنائية القمع موجودة وتتم بصيغ خفية، وشاهد الإثبات عليها هذا الفارق الطبقي الكبير بينها وبين الشعوب الفقيرة، بالإضافة إلى معاناتها الداخلية في غبن الأضعف من قبل الأقوى.
إنّ هذا النموذج الفريد في الحكم، ينبغي أن يتمّ تعميمه على أنظمة العالم أجمع، خاصّة تلك التي تتّخذ من الإسلام ديناً رسمياً لها، علاوة على ذلك يتشبّث حكامها بالإسلام وبالتاريخ المضيء لقادته العظام، لكنهم عند التطبيق يتّضح للقاصي والداني بأنهم لم يأخذوا من تجربة الإمام علي في إدارة الحكم سوى ترديد الأقوال دون تطبيقها.
من هنا ينبّه سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، على أهمية التشبّه بنموذج حكومة الإمام عليّ صلوات الله عليه قولاً وتطبيقاً، حين يقول سماحته: (يجب علينا أن ندعوا الدنيا كلّها إلى حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. فنحن لنا كلام كثير مع العالم، وندعوا العالم إليه. ولكن مع الأسف، البلاد الإسلامية حالياً هي مركز للمشاكل).
لا جوع ولا قتل سياسي
لقد ترامت دولة الإمام عليّ صلوات الله عليه، في سعتها حتى بلغت أعماق أوروبا وشملت أفريقيا والشرق الأوسط، فضلاً عن سعة الجزيرة العربية نفسها، وهذا يدلّ على أن هذه الرقعة الجغرافية تضاهي مساحة نصف العالم اليوم، ولكن مع هذه السعة، ومع أعداد الناس الهائلة، خلت هذه الدولة من الجوع ومن الاضطرار للشروع بالقتل لأسباب سياسية.
لم يكن الأمر يستدعي مثل هذه الأفعال التي تنمّ عن فشل الحكومة، نعم فكل نظام سياسي يلجأ إلى قتل رعيته هو نظام عاجز وفاشل، ولا يقلّ الجوع خطورة عن القتل السياسي، فالموت يمكن أن يتم من خلال عدم تناول الطعام، أو القتل عبر محاصرة الرأي ووأد الكلمة وهي في مهدها، كما تفعل الأنظمة السياسية الرديئة.
ضمن هذا الإطار يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلماته التوجيهية: (قبل أربعة عشر قرناً، حكم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه من العراق نصف المعمورة ذلك الزمان، إلى عمق أوروبا وعمق أفريقيا والشرق الأوسط. وطيلة حكمه، لم يذكر التاريخ انّ واحد من الناس مات جوعاً).
إنّ الدول التي تسمّي نفسها ديمقراطية في عصرنا الحالي، غالباً ما تتباهى بأنها لا تحاصر الرأي كونها تؤمن بالديمقراطية، وأن سجونها خالية من السجناء السياسيين، ولكن حقيقة الأمر ليست كذلك، فالمنظّمات الدولية المعنية المستقلّة، أثبتت وجود الصراع الفعلي بين أصحاب السلطة والمعارضين، لكن النموذج الأكثر شفافية وصدقية في هذا المجال، هي حكومة الإمام عليّ صلوات الله عليه، فالرأي المعارض مكفول، وكرامة المعارضين مصانة، وحقّ التعبير لا أحد يمكنه التجاوز عليه، فهو محمي من لدن القائد الأعلى ولا مجال لضرب الرأي مطلقاً بالعلن أو بالخفاء.
هذا النموذج العظيم للنظام السياسي المتفرّد، هو ما ينبغي أن يصل إلى العالم أجمع، كي يعرف الجميع كيف كان قائد دولة المسلمين يدير دولته، وكيف يتعامل مع معارضيه، وكيف يعالج آفة الجوع ويقضي عليها بعدالته وتخطيطه المتميّز.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (طول تاريخ حكم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه لم يذكر التاريخ وجود قتيل سياسي واحد في حكومته صلوات الله عليه، ولا معتقل سياسي واحد. وهذا ما لا يوجد الآن حتى في أرقى الدول الديمقراطية، في كل الأرض. وهذا ما ينبغي أن نحمله إلى العالم كلّه).
الاتفاق السياسي بين المسلمين
إنّ التمسّك بهذا النموذج الفذ لإدارة الحكم، يتطلّب شروطاً مهمّة لا يمكن تحقيق النجاح السياسي من دونها، ولعلّ المسلمين اليوم هم بحاجة قصوى إلى تحسين أداءهم السياسي ونعني بذلك الحكومات الإسلامية والعربية، فبعد الإطلاع على النموذج الأرقى لإدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وانتفاء القمع والجوع في حكومة الإمام عليّ، من الحري بالمسلمين أن يقتدوا بهذه الحكومة في الفكر والمنهج والعمل، ولعلّ أهم الخطوات التي ينبغي الشروع بها، هي تجنّب الخلافات بأشكالها في المجال السياسي.
إذ من المعيب حقّاً أن توجد خلافات سياسية بين الأنظمة الإسلامية والعربية بعضها مع بعض، أو بين الأحزاب والشخصيات السياسية داخل الدولة الواحدة، فالشرط الأول هو حتمية القضاء على الخلافات السياسية بين أنظمة وحكومات المسلمين، وثمّة شرط يحمل الأهمية ذاتها، ونعني به أهمية الاحترام المتبادل وعدم الاحتراب بسبب الاختلاف الديني، لهذا ينبغي التأكيد على عدم الاختلاف السياسي بين المسلمين متّخذين من حكومة الإمام عليّ صلوات الله عليه ومنهجه نموذجاً لهم.
لذلك يرى سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إنّ التفرقة السياسية بين المسلمين خطأ، وأما التفرقة الدينية، أو بالأحرى الاختلاف الديني، فهذا أمر طبيعي).
ولكي يتحقّق هذا الهدف، يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي على جانب آخر لا يقلّ أهمية عن الاتفاق الديني بين المسلمين، فهناك طوائف ومذاهب ضمن ديننا الإسلامي، فالاختلاف هنا أمر وارد، بل هو اختلاف يثري ولا ينبغي أن يكون مدعاة للتناحر في أي حال من الأحوال.
من هنا يدعو سماحة المرجع الشيرازي إلى أهمية وأولوية لملمة الشباب الشيعة، لاسيما الطلاب منهم في المرحلة الجامعية، فهؤلاء هم ذخيرة الدولة، وهم رصيد الشعب، وهم الأمل في إدارة الدولة على أفضل وجه، مسترشدين بالنموذج الأفضل لنظام الحكم، كما لاحظنا ذلك فيما تقدّم من كلام حول حكومة الإمام عليّ صلوات الله عليه، لهذا ينبغي أن يتم تقريب الشباب من منهج أئمة أهل البيت، حتى يكونوا الأقرب إلى الصلاح ويصبحوا الرصيد الأهم للأمة بأكملها.
فقد أكد سماحة المرجع الشيرازي على الشباب قائلاً في كلمته: (أوصي بلملمة الشيعة، بالأخصّ الشباب، شباب المدارس والجامعات وغيرها. وأن لا يدعوا الشباب يخرجون من إطار أهل البيت صلوات الله عليهم في العقائد والأخلاق الفاضلة).