شبكة النبأ: ثمة اشتراطات لابدّ من توافرها بخصوص النيّة، سواءً تعلّق الأمر بالعمل أو التفكير. ومن هذه الاشتراطات، الثبات. فالنيّة كما هو معروف عنها، متذبذبة، وهي أمر صعب جدّاً على النفس بسبب، عدم ثباتها، بمعنى أن غرائز الإنسان وضغط شهواته وتكوينه البايولوجي، يضغط على تفكيره وأهدافه، وهذا ينعكس بصورة مباشرة على نيّته، لهذا يُصعب الثبات في هذا المجال، لأن الغرائز والشهوات والرغائب بشتى أشكالها ودوافعها، تحكم تفكير الإنسان وسلوكه الذي قد يتغيّر تبعاً للنيّة في كل لحظة، الأمر الذي يجعل منها متذبذبة، ويجعل من ثباتها أمراً في غاية الصعوبة، بمعنى يحتاج الثبات على النيّة معونة إلهية للانسان.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في كتابه القيّم الموسوم بـ(حلية الصالحين)، حول هذا الموضوع: (إنّ الثبات على النيّة أصعب شيء على النفس لأنّها متذبذبة، بالنسبة إلى النيّة ذبذبة غريبة. إنّ مسألة الثبات على النيّة تعتبر بحدّ ذاتها مسألة صعبة جدّاً. فإنّ الإنسان مهما أوتي من توفيق وإخلاص حتى لو استمرّ عليه سبعين سنة فإنّه لا يؤمَن من تزلزل النيّة في نفسه، لأنّ الإنسان ـ كما هو معلوم ـ مكبّل ومشدود بغرائز وأهواء مختلفة).
لذلك وكما يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي أن الإمام السجاد عليه السلام: (يطلب من الله تعالى إكمال النيّة وإبعاد النقص فيها، ويطلب كذلك صيانتها، فهي معرّضة للتأثيرات المختلفة، الأمر الذي يجدر بنا بعد انعقاد نوايانا في نفوسنا أن نطلب من الله تعالى توفيرها وصيانتها من أخطار الشيطان والشهوات وتأثيراتها المختلفة).
وهكذا تبقى النيّة معرّضة على نحو دائم لمخاطر التغيير، بمعنى الانحراف عن الجادّة الصواب، لأن الأمر يتعلّق بإيمان الإنسان وتوازنه، وقدرته الكبيرة بل التامّة على التحكّم بنفسه وأهوائها، وهو أمر يبدو في غاية الصعوبة، كونه كما ذكرنا سابقاً، يتعلّق بالتكوين الفسلجي، أو البايولوجي للإنسان، وإمكانية تأثير الغرائز على الإنسان بصورة مباشرة، فيكون عرضة لتغيير النيّة، تبعاً لما تذهب إليه الغرائز من شهوات وما شابه، لذلك يعدّ شرط الثبات على النيّة، من أصعب الشروط التي ينبغي للإنسان المحافظة عليها والالتزام بها تحت شتّى الظروف والأسباب، على أن يستعين دائماً بالجانب الروحي الإيماني لتحقيق هذا الهدف العصيب.
أهمية توفير النيّة السليمة
يسعى الإنسان الملتزم، نحو توفير النيّة الصحيحة، في عموم أفكاره وأعماله التي يخطّط لإنجازها، ولكن يبدو ان توفير النيّة ينطوي على صعوبة بالغة، الأمر الذي يتطلّب الدعاء إلى الله تعالى من أجل معاونة الإنسان، على مقارعة نفسه وغرائزه، حتى يكون قادراً على توفير النيّة السليمة في إنجاز العمل أو الهدف الذي يسعى إليه.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه بشأن هذا الموضوع: (لذلك فإنّ الإمام لم يقل: «وفِّر نيّتي» بل قال: «وفّر بلطفك نيّتي». فهذه الباء هي باء السببية، أي ليتدخّل لطفك ياإلهي في توفّر نيتي، وإلاّ فإنّي غير مستحقّ لولا لطفك ورحمتك). هكذا يكون توفير النيّة أمرا بالغ الصعوبة على الإنسان، على الرغم من أن الله تعالى خلق الإنسان بمواصفات وقدرات مادية وفكرية ومعنوية كبيرة ومتميّزة، فإذ استثمرها على النحو السليم والصحيح، سيكون قادراً على النجاح في مسعاه، ولكن لابدّ أن نعترف أن الإنسان بسبب تركيبته النفسية فهو معرّض على نحو دائم لمواجهة النفس، والغرائز، ومتطلّباتها الصعبة، التي قد تجرّه إلى مسالك منحرفة، إذا لم يردع نفسه ورغباته بقوّة إيمانه وثبات نيّته، فهذا الأمر أي ثبات النيّة، يحتاج إلى معونة إلهية كبيرة، كما يذكر ذلك سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور نفسه، قائلاَ سماحته في هذا الشأن:
(لقد أودع الله تعالى في الإنسان من الطاقات ما هي كفيلة بتصحيح مساره، لكنّه ـ الإنسان ـ كثيراً ما يضعف عن صيانة نيّته وحفظها عن الزيغ والتذبذب، فتراه يعجز عن الصعود والارتقاء بها إلى درجات الكمال العليا؛ ولذا يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «اللهم وفّر بلطفك نيّتي». أي ياإلهي خذ بيدي واصعد بنيّتي، فلا أستطيع الارتقاء من دون عونك).
التجرّد عن النيّة الحسنة
تضجّ حياة الإنسان بالعمل، فهو مخلوق لا يهجع ولا يستكين إلاّ بعد مشوار العمل الطويل، فيضرب في الأرض بحثاً عن رزقه ورزق عياله، وهذا هو حال الجميع، يرافق هذه الأعمال نيّات، قد تكون حسنة وقد تكون العكس، هذا يعتمد على قوة إيمان الإنسان، ومن ثم قدرته على التحكّم بنفسه وأهوائه وليس العكس!، لذلك فإنّ التجرّد عن النيّة الحسنة مشكلة تواجه الإنسان في عموم نشاطاته وأعماله، من هنا فهو مسؤول عن ذلك ومعرّض للحساب، في لحظة الكشف والمقاضاة التي تكشف ما خفي من النيّات والأعمال!
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (لكلّ فرد منّا مئات الملايين من الأعمال في حياته، لأنّ العمل ليس منبراً أو تأليفاً أو تدريساً أو بناء حسينية فحسب، بل كلّ نظرة وكلّ نفحة، وكلّ تأمّل وتفكّر وكلّ لمسة وهمسة ولمزة وخلسة، وكلّ استماع ونجوى وتعبير، ولابدّ أن تحصى هذه الأعمال كلّها عند الله تعالى وتنشر يوم القيامة، ليكشف عن عدد هائل من اللاعمل بعدد مصاديق الأعمال المجرّدة عن النيّة الحسنة).
إذن لابد من توافر النيّة السليمة، قبل الشروع بإنجاز العمل، أو السعي نحو هدف ما، فاشتراط النيّة وصحّتها أمر حتمي في قبول العمل، هكذا هي سيرة العقلاء والحكماء الذين قارعو أنفسهم، والتزموا بالنيّات الصارمة، القادرة على ردع الغرائز، ومنع النفس من الانحدار في ملذاتها، إذن لابدّ أن يتصرّف الإنسان بتوازن، حتى لا يفرط بأعماله التي يبذل عليها الكثير من الجهد والكدّ والتفكير.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله حول هذا الموضوع بكتابه (حلية الصالحين): إن (اشتراط النيّة وصحّتها في قبول العمل من الأمور التي جرت عليها سيرة العقلاء في حياتهم العملية، والأمثلة ليست عزيزة في هذا المجال، فكثيرة هي الأمور التي قد يُتعب الإنسان نفسه عليها، ثمّ يفرّط بها ويتلفها بسهولة وربّما باندفاع لأنّه يرى أنّها كانت عديمة الفائدة، وإن شكلت كمّاً ضخماً في الواقع الخارجي).