شبكة النبأ: (إنّ الأبعد عن الله تعالى هو الذي يعلم ولا يعمل) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
العلم والتعلّم صنوان لا يفترقان، هذا ما أكده العلماء الأجلّاء، والمفكرون الأفاضل، وقد ركز المراجع العظام على أهمية العلم، وبنفس المقدار أهمية التعلّم، فلا فائدة من علم بلا تعلّم، وإذا تعلّم الإنسان يقع عليه واجبان، الأول أن يعلّم ما تعلمه للآخرين، والثاني أن يحوّل ما تعلمه إلى عمل أو (منجز) فلا فائدة من علم دون أن يتجسّد في عمل.
التعلّم يحتاج إلى إصرار ومثابرة، ولا يمكن أن يأتي دون إرادة قوية وتصميم عالٍ، والشيء الأهم هو أن يسعى الإنسان إلى التعلّم بإخلاص، وأن يحاول تحريك أفكاره وتجديدها من خلال الاطلاع على أفكار الآخرين، ومن خلال ما يسمى (بالعصف الذهني) والنقاشات الجادة التي غالبا ما تُثمر أفكارا جديدة ومفيدة.
وأثناء النقاش يدوّن المناقِش ملاحظاته التي يقتنصها وينطلق منها لبناء أفكار جديدة، وأحيانا تداهم العقل أفكار قيّمة في أوقات غير مخصصة للتفكير كالنوم مثلا أو السفر في سيارة أو قطار أو طائرة، في هذه الحالة على الباحث عن العلم والأفكار أن يدوّن أفكاره حتى لا تفرّ منه ولا تغيب عنه.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى محاضراته التوجيهية الغنية:
(ذكر لي أحد العلماء رحمه الله وكان علاّمة كبيراً، وقال: (عندما أنام أضع قلم الرصاص وورقة عند رأسي، فأحياناً أرى في المنام معلومة ولو صغيرة، وأخاف أن أنساها عندما استيقظ من النوم، فأقوم بكتابتها في الورقة حتى في نهار غد أتذكّرها وأتابعها وأتوسّع فيها). وهذا من الجيّد ومن المفيد، وهكذا شخص في طول حياته لعلّه استفاد بالمئات من ذلك الشيء الذي كان يقوم به عند نومه، أي استفاد من التملّي من العلم).
هكذا يتعامل بعض الناس مع العلم، فهو حتى في نومه لا يريد أن يخسر الفكرة الجديدة التي تخطر على باله وهو يتهيّأ للنوم أو الانشغال بأمور لا علاقة لها بالعلم والتعلّم، ومما يثير الإعجاب حقا، أن الإنسان يكون على فراش المرض وربما على فراش الموت ومع ذلك فهو يبحث عن المعلومات الصحيحة، ولا يريد أن يغادر هذه الحياة وهو يجهل هذه المعلومة أو تلك، بهذه الروحية الكبيرة يتعامل بعض العلماء الأجلاء مع العلم والتعلّم.
علينا أن نتعلم علوم أهل البيت
فهو لا يريد أن تبقى حسرة في نفسه، ولا يريد أن يبقى جاهلا بهذه المعلومة حتى لو كان على فراش الموت، إنه يريد أن يتعلّم وإن كان في الطريق إلى الآخرة، مع أن تعلّم العلم لا ينحصر فقط في نقله إلى الآخرين، وأو تعليمه للناس، فالإنسان يجب أن يتمسك بالعلم لذاته، ويتمسك به كهدف ذاتي يجب أن يحققه، لذلك على الإنسان أن يدرّب نفسه على البحث المستمر عن المعلومة الجيدة من أجل المعرفة الذاتية ومن أجل نقلها وبحثها أيضا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (ذكروا في الكتب عن أحد العلماء المعروفين، وكان من فقهاء الشيعة، أنّه كان مريضاً وعلى فراش الموت، فزاره عالماً آخراً. وفي أثناء الزيارة سأل العالم المريض العالم الضيف عن مسألة شرعية. فقال العالم الضيف: (عافاك الله، أنت على فراش الموت، فما يفيدك من طرحك لهذه المسألة؟ فأجابه العالم المريض: إن أنا مت وعرفت هذه المسألة أحسن أم أموت ولا أعرفها؟). فعندما يعرف الإنسان المسألة لا يكون ذلك لأجل أن ينقلها إلى الناس فقط، أو يكتبها في كتاب، أو يدرّسها في تدريسه، أو يناقشها في مباحثاته، بل لأنّه من الجيّد جدّاً والمهم كثيراً أن يعرف الإنسان ويتعلّم. على الإنسان أن يذكّر نفسه بمثل هذه الأمور، ويلقّن نفسه ويعزم على عليها حتى تقلّ حسرته في الآخرة، ويكون مقامه في الآخرة أرفع، وتكون درجته بالجنّة أعلى).
علوم أهل البيت (عليهم السلام) ينبغي أن تكون في صدارة ما ينبغي أن يتعلمه الناس، كونها علوم تمهّد الطريق السليم لهم، وترسم لهم المنهج الصحيح في التعاملات الإنسانية والأخلاقيات والقيم والمبادئ الجيدة التي ترتقي بالإنسان إلى مراتب عليا من التعامل الحضاري الإنساني، فإذا تعلم أحدهم علوم أئمة أهل البيت عليهم السلام، عليه أن يباشر بنقلها إلى أقرب الناس إليه، عائلته، أصدقائه، زملاء العمل، أفراد القبيلة وهكذا.
أولوية نقل العلم للآخرين
نقل العلوم إلى الآخرين يجب أن يكون هدفا لا تراجع عنه، لاسيما أننا نعيش اليوم في عالم تتوافر فيه وسائل الإعلام السريعة الواسعة التي يمكنها أن تنقل الأفكار والأخلاقيات والمضامين الصحيحة والمناهج الجيدة إلى أبعد نقط في العالم خلال لحظات لا أكثر، ويتم ذلك عبر الفضائيات، أو مواقع التواصل المختلفة، والمنصات الإلكترونية التي يمكنها أن ترفد أبعد الناس بالمناهج والعلوم الغنية لأهل البيت عليهم السلام.
هذا ما يؤكد عليه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بالقول:
(على كل واحد أن يحاول بأن يكون هو السبب في تعليم علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، بالمقدار الممكن، ولا يقصّر. أي يعلّمها البشر بالكتابة أو بالفضائيات أو بالخطب أو بعمله، للناس كلّهم، في عائلته وعشيرته وأقربائه وأصدقائه وفي محيطه. فاليوم ولله الحمد، يوجد كمّ جيّد من الفضائيات عند الشيعة، فيجدر الاستفادة منها).
ومع أهمية العلم والتعلّم، وتمسك الإنسان به حتى لو كان على فراش الموت، إلا أن الركن الأهم في هذا الجانب هو ضرورة وحتمية أن تتحول العلوم إلى منتَج عملي مجسَّد على أرض الواقع، لأن العلم إذا لم يتحول إلى عمل فلا داعي لأن نضيّع الوقت فيه، إذ لا فائدة من علم يبقى في حيّز الأفكار والكلمات فقط.
على من يبتكر العلوم، ويسعى لتعليمها للآخرين، عليه أن يفكر قبل كل شيء ما الفائدة العملية لهذا العلم وهذا التعلّم، هل سيبقى علم مجرد من التطبيق؟، إذا كان الأمر كذلك فلا فائدة منه، ولا يصح أن نخسر على علم كهذا لحظة واحدة من أعمارنا، علما إن أبعد الناس عن الله تعالى هو الإنسان الذي يعلم ولا يعمل!
وهل هناك إنسان فعلا، يعلم ولا يعمل؟، بالطبع هناك من يعلم ولا يُتعِب نفسه قيد أنملة لتحويل علمه إلى عمل، بل يبقى هدفه من العلم التبجح الفارغ، والغرور السطحي، والادّعاء بأنه عالم ومكتشف ومبتكِر، لكن حين تسأله هل حوّلت علمك إلى منجَز؟، فسوف يفرّ منك أو يلوذ بالصمت، وهذا هو أبعد عن الناس عن الله تعالى.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول أهمية هذه النقطة:
(حاولوا أن تتملّوا من العلم أكثر وأكثر. وفي الوقت نفسه عليكم أن تعلموا أنّه لا فائدة من علم ليس معه عمل. فإنّ الأبعد عن الله تعالى هو الذي يعلم ولا يعمل. فالأسوأ هو الذي يعلم بأنّ الصلاة واجبة ولكن لا يصلّي، أي أسوأ من الذي لا يعلم ولا يدري ولا يصلّي. فالعلم بحاجة إلى العمل).
الخلاصة علينا أن نعرف أهمية التعلّم والسعي وراء تعلم علوم أهل البيت عليهم السلام، وتعليمها للآخرين، كما أننا يجب أن نذهب وراء العلم من أجل المعرفة الذاتية، وأن نتعلم حتى آخر لحظة من حياتنا، كما لاحظنا ذلك الشيخ الجليل الذي طلب من زائره أن يعلّمه المعلومة التي يجهلها قبل أن ينقضّ عليه الموت، حتى لا تبقى الحسرة معه وهو في الدار الأخرى.