شبكة النبأ: جميع المجتمعات التي تعيش في هذا الكوكب، تطمح بأن تنضمّ بلدانها إلى قائمة الدول المتميزة، وهذا يتطلب توافر شرطين، الأول الاستقرار، والثاني الاعتماد على الكفاءات لتحقيق شرط التقدم، ومنذ ما يقارب عقدا ونصف يحاول العراقيون بناء هيكلية سياسية تحافظ على حقوق الأقليات وتنصف الأكثرية، من خلال العمل المتواصل لتشييد بنية سياسية جديدة، قائمة على التحرر، ورفض الفردية، وحفظ حقوق الجميع من دون استثناء، وطالما أن العلاقة بين الشعب والحكومة غالبا ما يشوبها الالتباس، لاسيما في الدول والمجتمعات المتأخرة عن الركب العالمي بسبب غياب الوعي او ضعفه، فلابد أن تتضح الأمور ويخطَّط لها مسبقا، لترميم البنية السياسية وتجديدها.
وكما يتضح من التجارب التي خاضتها البلدان المتقدمة، فإن الانتقال من التخلف الى واحة التقدم لن يحصل ما لم تتوفر للعراقيين إرادة سياسية ونظام سياسي حر ومستقر ودستوري، بمعنى يجب أن يفهم الجميع ما لهم، وما عليهم، كون الشعب العراقي يتكون من أعراق وأقليات متعددة، فالكل له الحق بالحياة الكريمة في ظل عراق غني ومستقر وفاعل، علما أن هذا التنوع السكاني إذا لم يُستثمر بالطريقة الصحيحة، سيتحول إلى عائق لتشييد بنية سياسية قوية، لهذا لابد أن يرتفع الوعي لدى الجميع خصوصا بعدما فهم أحد المكونات الفدرالية بصورة خاطئة وهذا ليس في صالح العراقيين بالطبع، ولا يبني نظاما ديمقراطيا قويا لهم.
ولذلك يرى سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في الكتاب الموسوم بـ (إضاءات مرجعية): (إن الفدرالية بحد ذاتهاـ إن لم تكن مقدمة لتقسيم العراق، ورضي بها الشعب العراقي في استفتاء عام ـ لا نرى مانعا عنها).
بالطبع لمبدأ الفدرالية ظروف خاصة، وكما أشار سماحة المرجع الشيرازي، لابد أن يرضى بها الشعب، ويجب أن تصب في صالح العراقيين ولا تجرّهم نحو التقسيم، ولهذا هناك من يتخوّف من هذا المبدأ السياسي، أي من الفدرالية، خاصة إذا لم يكن في وقته او ظروفه، كما يقول المعترضون، ولكن يبقى الأمر بحاجة الى حكومة جيدة متماسكة، قادرة على فرض العدل بما يحقق المساواة بين أفراد ومكونات الشعب كافة.
لابد من شرعية الحكومة الديمقراطية
ولكن متى تصبح الحكومة قوية وقادرة على المسك بزمام الأمور دائما، إنها يمكن أن تكون كذلك، إذا توفر لها شرط الشرعية الذي يعد من العناصر الأساسية في دعم مواقف الحكومة وتوجهاتها في عموم المجالات، ولن يتحقق هذا الشرط إلا من خلال الانتخابات الدستورية التي لا تشوبها مخالفات أو إجراءات غير منطقية، لا تتجاوب مع الدستور، وهذه الأمور لا يمكن توفيرها إلا بوساطة حكومة قوية منتخَبة دستوريا.
ولهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على: (أن الحكومة يجب أن تتوفر فيها عدة مقومات حتى تكون مرضية منها: أن يختارها الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة وبعيدة عن الضغوط الأجنبية).
ومن التوصيفات المعروفة للنظام السياسي المتميز، أن يكون ممثلا صادقا للشعب، وعادلا، وأن يرعى مصالح (الجميع)، وينبغي أن لا يوجد تمييز بين الأكثرية والأقلية في الحقوق والواجبات، لذلك نخلص من هذا التوصيف إلى القول بأن الشرعية هي أساس النجاح الحكومي، من هنا غالبا ما تفشل الحكومات القائمة على الإكراه والقوة والبطش والتضليل وما إلى ذلك من أساليب تنتهجها الحكومات والأنظمة غير الشرعية، فتسقط بشتى السبل، وغالبا ما ترافقها أعمال عنف تأتي كرد فعل على العنف الحكومي نفسه، لهذا ينبغي أن يسعى السياسيون بكل إمكانياتهم لصياغة قانون انتخابات يرتكز على أسس المصلحة الوطنية قبل أي شيء آخر، وذلك لضمان التمثيل الصحيح للشعب وضمان النتيجة الصادقة لأصوات الناخبين، وإذا توافرت هذه الشروط، فهذا دليل قاطع على ديمقراطية النظام السياسي، وهذا هو المطلوب، حيث يتم ضمان سلوك حكومي قائم على العدالة والمساواة.
من هنا يرى سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب:
بأن (تكون الانتخابات حرة ونزيهة بحيث يكون للشخص الواحد صوت واحد، ويكون عدد نواب كل منطقة حسب كثافتها السكانية)، علما أن هناك أنظمة عالمية لإجراء الاقتراع بصورة دقيقة ومقاربة أو مطابقة للتعداد السكاني ونسبة الناخبين.
إن الآراء التي وردت في أعلاه، تستدعي بعض الاشتراطات التي لا مجال لشطبها أو تجاوزها، فمثلا لا توجد إمكانية لإلحاق الغبن بالأقليات ولا بالأكثرية، فجميع المكونات ينبغي أن يحصلوا على حقوقهم من دون تمييز أو ميل لهذه الفئة أو تلك لأي سبب كان، لذلك لابد أن يتعاون الجميع، وأولهم الحكومة والجهات الأخرى التي تتصدر قيادة مكونات الشعب، لكي يُبنى المستقبل الأمثل للعراق، من خلال بناء الركائز القوية والصحيحة في الوقت الراهن، بما ينسجم مع أهداف وتطلعات العراق الجديد، شعبا وحكومة، حاضرا ومستقبلا.
التعاون المؤسساتي البنّاء
وعندما يكون هدفنا واضحا، لبناء مؤسسات الدولة المستقلة، فهذا يحتاج الى التخطيط والشروع بإجراءات نافرة، يمكنها الإسهام بصورة فعالة في التمهيد لجعل الهيكلية السياسية لا تتجاوز المؤسسات المستقلة، في أي حال، وهذا يعني بأننا جميعا لاسيما الذين يتصدرون مركز القيادة، ينبغي أن نسهم في تأسيس وبناء أساسيات المستقبل الأفضل، ولعل هذه الأفضلية مقرونة بأسبابها، فإن غابت أسباب الجودة السياسية وغيرها، ستضيع فرصة بناء المستقبل المطلوب، من هنا لا يجوز انتهاك حقوق الأقليات تحت أية مبررات أو حجج، لأن مستقبل العراق والعراقيين مرهون بهذه الإجراءات الحتمية، أو لنقل من غير الممكن تجاوزها.
ويطرح سماحة المرجع الشيرازي نقاطا محددة لتنفيذ ما ورد في أعلاه لكي يتم حصد أفضل النتائج، كما نقرأ ذلك في قول سماحته:
(إن مستقبل العراق ـ بإذن الله تعالى ـ سيكون بخير، شرط تحقق أمور منها. أولا: عدم هضم حقوق أية مجموعة من الشعب، وإعطاء الأكثرية حقوقها كاملة غير منقوصة. ثانيا: إلغاء قوانين النظام البائد والأنظمة التي سبقته، وتشريع قوانين جديدة في مختلف مناحي الحياة. ثالثا: تأمين الحرية الكاملة للحوزات الدينية والمعاهد العلمية).
ويركز سماحة المرجع الشيرازي على أهمية اعتماد السبل التي تجنح الى السلم وتبتعد عن الفتن والعنف بأشكاله كافة، في تحقيق الأهداف المطلوبة، ولابد من الاعتراف بأن التجارب السياسية حديثة التكوين والبناء، ترافقها معوقات ونواقص شتى، وجلّها تحدث بسبب الرفض الذي تواجهه من أعدائها، فلكل جديد أعداء، منهم من يعلن موقفه ومنهم من يفضل العمل في الخفاء، وفي كل الأحوال قد تلجأ بعض الجهات الى العنف لتحقيق بعض المآرب، أو لتحقيق بعض الحقوق المشروعة أصلا، فيكون العنف منهجها، وهو سلوك ومنهج خاطئ حتما ولا يمكن تبريره في أي حال، أما منهجنا فهو سلوك طريق السلم من أجل الوصول الى الأهداف السياسية وسواها.
وهذا بالضبط ما دعا له سماحة المرجع الشيرازي عندما يقول بوضوح تام:
(نحن من دعاة السلم، وبه يمكن الوصول إلى الحقوق المشروعة، والعنف على الأغلب لا يؤدي إلى نتيجة، وأما استهداف المدنيين العزل وقتلهم فإنه جريمة لا يرضاها عقل ولا شرع).
ففي منظورنا، وبحسب ما يدعو له مراجعنا العظام، فإن تحييد العنف ونبذه، واعتماد السلم منهجا في معالجة القضايا السياسية، هو منهجنا الذي نحيد عنه.