شبكة النبأ: (يجب التأمّل والتدبّر في منهج الرسول صلى الله عليه وآله، ودراسته بدقّة كاملة) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
لقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله نهجا مسالما منذ للحظات الأولى لإعلان الرسالة وإظهار الإسلام للعلن، وقام هذا النهج على أسس واضحة المعالم، تم من خلالها تطبيق سياسيات السلم واللين والرحمة، والسعي لتحقيق أهداف الإسلام والمسلمين بالوسائل السلمية المتاحة، وعبر الحوار البنّاء، بعيدا عن العنف واختلاق الأزمات والصراعات.
وقد استمر هذه النهج النبوي طيلة سنوات إدارة الصراع بين الرسول وأصحابه المسلمين من جهة، وبين قريش الذي خاضوا صراعا عنيفا ضد الإسلام في محاولات متكررة ويائسة للقضاء على الإسلام والمسلمين، ومن بينها تلك المحاولة المعروفة عبر إغراء الرسول صلى الله عليه وآله، بمنحه ما يطلبه من عطايا وممتلكات، فجاء ذلك الرد النبوي العظيم بالرفض.
وبعد أن هزم المسلمون قريشا ودخلوا مكة فاتحين، ظهرت بجلاء سياسة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله مع أعدائه الذين خاضوا ضده حروبا طاحنة وشرسة للقضاء عليه وعلى الدين الإسلامي، لكن النهج النبوي أبقى على قادة قريش في مأمن حتى من أبسط العقوبات، حتى قيل لهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، ولم يتعرض أيا منهم إلى القتل بل ولا إلى السجن أو المقاضاة أو التعذيب أو المطاردة، فقد عفا عنهم الرسول صلى الله عليه وآله جميعا.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:
(لقد عرض دين الإسلام والفكر الإسلامي، للدنيا، منهجاً ونهجاً وفكراً جديداً ومقبولاً. فواقعة فتح مكّة، والثلاثة أيّام من بعدها التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متواجداً في مكّة، هي حُجّة الإسلام، وهي سيرة النبي، ومنهج الإسلام ونهجه. فكل أفعال وتقارير النبي الكريم صلى الله عليه وآله وحتى كيفية نظره إلى الناس والعدو المنهزم، وكل ما صدر عنه صلى الله عليه وآله من أسلوب وتعامل وذهاب ورواح في تلك الثلاثة أيّام هي حجّة على العالمين وهي تعريفاً للإسلام ولا نظير لها).
هذا الأسلوب القيادي المسالم مع الآخرين، بمن فيهم الذين كانوا أعداءً يستحق أن نتأمل فيه جيدا وبعمق، ولابد من دراسة تفاصيل هذا المنهج النبوي، لاسيما ما حدث في الأيام الثلاثة الأولى لدخول المسلمين مكة المكرمة، وكيف تعامل الرسول الأكرم مع قادة قريش الذي أذاقوا المسلمين أبشع صور العداوة، ولكن حين تم إلحاق الهزيمة بهم في عقر دارهم، لم يتم التعامل معهم على أنهم أعداء، بل كانت التعاملات الإنسانية تتقدم في كل شيء.
الأيام الثلاثة الأولى في مكة المكرمة
ولو أننا تأملنا بدقة ما صدر عن الرسول الأعظم في تلك الأيام الثلاثة الأولى لدخول مكة، لاكتشفنا أدق تفاصيل هذا المنهج القيادي العظيم، وكان الأجدر بالجميع أن يدرسوا ذلك جيدا وأن يتعلموا منه، وأن يحذوا حذوه، لا نقصد المسلمين وحدهم بل قادة العالم أجمع كان يمكنهم الاستفادة الكبرى من هذا التعامل المسالم الذي لم يألفه الناس من قبل، وكان ولا يزال من واجب المسلمين وغير إظهار تفاصيل هذا النهج كي يستفيد العالم أجمع منه.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بقوله:
(يجب التأمّل والتدبّر في هذا المنهج، ودراسته بدقّة كاملة. وهكذا هي تقريراته صلى الله عليه وآله، أي سكوته وتأييده لأفعال الآخرين. فتعاملات النبي صلى الله عليه وآله في تلك الأيّام الثلاثة تحوي المئات من المطالب التعليمية للبشرية، وإذا أردنا دراستها وبحثها بشكل دقيق فتستوجب موسوعة بعديد من المجلّدات).
إن تلك الأحداث الفريدة من نوعها، والتي جرت في الأيام الثلاثة الأولى لفتح مكة تستحق التخليد بكل الوسائل الممكنة لأهميتها التاريخية والمستقبلية أيضا، فمن الممكن أن يتم تجسيد تلك الأحداث في أعمال وأفلام سينمائية بالغة الأهمية، ولابد أن الأفلام ستطول ساعاتها ويطول عرضها، نظرا لأهمية وجسامة أحداثها.
كما أن هناك نقطة مهمة في هذا الجانب وهي أن مصادر هذه الأعمال السينمائية أو الكتب أو سواها يجب أن تكون موثوقة، ولا تؤخذ من أولئك الذي يكنّون العداء للرسول الأعظم وصحبه الأكرمين، بل تؤخذ عن أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام)، وما حصلوا عليه من معلومات دقيقة عن أسس منهج النبوي في تعامله مع قادة قريش بعد الفتح.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذا أراد أصحاب السينما إنتاج فلم تاريخي عنها – أيام فتح مكة الثلاثة - فسيكون مدّته ساعات وساعات، ويهزّ الدنيا كلّها. ولا ننسى أنّه يجب الأخذ عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم في إنتاج الأفلام ووفقاً لما ذكروه ووصفوه عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وليس عن المنافقين من الأصحاب، ومما ذكروه عن النبي من الافتراءات والأكاذيب).
لقد كان التعامل الرحيم هو الصفة الأعلى في نهج الرسول صلى الله عليه وآله، على العكس من الحكام الذين كانوا لا يترددون قيد أنملة عن قتل من يعاديهم، أو يخوض حربا ضدهم، بل يقول كلمة مضادة لهم أو يصفهم وصفا يحط من قيمتهم وشخصهم، إنهم لا يرحمون من يطلق كلمة مسيئة ضدهم، فكيف لو كانوا قادة حروب مدمرة خاضوها ضد الرسول الأعظم والمسلمين، ومع ذلك كان نهج السلام هو الأعلى كفّة من سواه.
من المسؤول عن نشر المنهج النبوي؟
لم يتم قتل أو سجن أو ملاحقة أي قائد من قادة قريس الذين جيشوا الجيوش ضد المسلمين وخاضوا ضدهم حربا تلو الأخرى، وهجّروهم من بيوتهم، وفرضوا عليهم الحصار تلو الآخر، ولكن مع كل هذه الحوادث العدائية الكبيرة، حين بلغ المسلمون مكة منتصرين، كانت أسس التعامل الرحيم حاضرة، وتم ترسيخ هذا المنهج النبوي العظيم، بحيث تم حماية قادة قريش وتم منع تعذيبهم أو الاعتداء عليهم,
هذا ما يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في النص التالي:
(لو أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقوم بمثل طريقة وأسلوب الآخرين من الحكام لكان ذلك يستوجب قيامه بإعدام الألوف، لكنه صلى الله عليه وآله لم يقم بذلك أصلاً، أي لم يعدم حتى رؤساء المشركين كأبي سفيان وأمثاله، بل ولم يسجنهم، والأكثر من ذلك، لم يسمح لأحد من المسلمين بأن يعتدي عليهم أو يعذّبهم).
ومن الأمثلة الكبيرة عن طبيعة النهج النبوي مع أعدائه ومع من أساءوا للإسلام والمسلمين، أن هناك أحد الشعراء المشركين، اساء كثيرا في أشعاره وكتاباته للإسلام وللمسلمين، بل خاض حربا إعلامية شعواء ضد شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، ومع ذلك رفض الرسول الأعظم معاقبة هذا الأديب أو الشاعر، وتمت حمايته من إلحاق الأذى به بأية صورة أو طريقة كانت، مع أن كثيرا من المسلمين طلبوا الإذن بمعاقبته.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يضرب لنا مثلا حول هذا المضوع قائلا:
(على سبيل المثال: ألقي القبض على أحد المشركين بعد فتح مكّة، وكان من أدباء العرب، ومارس الحرب الإعلامية والثقافية ضدّ النبي الكريم صلى الله عليه وآله لمدّة عشرين سنة، وكان ينظم الشعر السخري ضدّ النبي صلى الله عليه وآله. وبعد فتح مكّة ألقي القبض عليه من قبل المسلمين، فطلب أحدهم من النبي صلى الله عليه وآله أن يقتله، ولكن رفض النبي صلى الله عليه وآله. وبعدها طلب من النبي صلى الله عليه وآله أن يقلع أسنانه الأمامية حتى لا يمكنه أن يستعمل لسانه ضدّ النبي، فرفض النبي أيضاً. أليس هذا التعامل مع العدو من نبي الإسلام صلى الله عليه وآله فريداً في نوعه؟).
السؤال الأهم هنا، من هو المسؤول عن نقل مثل هذه الدروس العظيمة في التعامل القيادي مع الأعداء، وكيف يمكن أن تصل هذه الدروس إلى العالم أجمع لاسيما القادة لكي تكون لهم دروسا يستفيدون منها في تعاملاتهم مع الآخرين، لاشك أننا نحن المسؤولون عن ذلك قبل غيرنا من الأمم والأديان الأخرى.
لهذا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(من المسؤول عن تعريف مثل هذا التعامل للعالم ونشره؟ هل هذه من مسؤولية المسيحيين أم اليهود؟ وهل يقوم بهذه المسؤولية أتباع الصحابة المنافقين؟ فلو نقوم بعرض ذلك التعامل على العالم ونبيّنه للبشرية ألف مرّة، وفي مختلف الأشكال، فهو قليل، بل يلزم عرضه بالبلاغ المبين).
إذن في مناسبة ولادة الرسول الأعظم، وهي من المناسبات السنوية الكبيرة عند جميع المسلمين، علينا أن نوضح نهج الرسول السياسي وغيره، وان يصل هذا التعامل وهذه الأسس وهذه السيرة إلى قادة العالم أجمع وإلى عامة الناس أينما كانوا، وهذه مهمة المسلمين، لاسيما من يعمل في الإعلام ووسائل النشر المختلفة، فهذه في الحقيقة مهمة المسلم قبل غيره ممن ينتمون للأديان الأخرى.