شبكة النبأ: (لا يصحّ من المؤمن أن يبدي استياءَهُ لمن يشعر بالانزعاج تجاههم) سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
يُقال إن الإنسان إذا امتلك كرامته، كأنه امتلك العالم، والإنسان الذي لا تتعرض كرامته للانتقاص هو أغنى الناس حتى لو كان فقير الحال، هذه هي القيمة الاعتبارية للإنسان، ومن هنا جاءت القيمة العظيمة للكرامة، فهي شعور نفسي ذاتي، يجعل الإنسان راضيا عن نفسه وعن الآخرين، ويجعله متوازنا، ومتفاعلا مع الآخرين ومنصفا لهم.
أما حين يحدث العكس، أي حين تتعرض كرامة الإنسان للهدر والانتهاك، فإن كل صفات الاعتدال والإنصاف والتوازن والمحبة والتفاعل، تغيب عنه، ويتحول إلى كتلة من مشاعر غاضبة على المجتمع، لأن الآخرين لم يحافظوا على كرامته ولم ينصفوه في هذا الجانب، لذا أكدت التجارب الاجتماعية تلك القيمة العظيمة للحفاظ المتبادَل للكرامة، ودورها الكبير في تعضيد البنية الاجتماعية بقوة، ومن ثم الانطلاق في بناء أمة متفاعلة متوازنة تقوم في علاقاتها كافة على عنصر الاحترام والمودّة والتعاون والإنصاف.
أحيانا يبدر من شخص ما إساءة ضدّك، وسوف تضمر له مشاعر غير جيدة في أعماقك وقلبك، ولكن هل يجدر بك إعلان تلك المشاعر على الملأ، لا يصح هذا لأن النتائج ستكون وخيمة على كل الأطراف.
وهل عليك رد الإساءة بمثلها، كلا بالطبع، لأن الإساءة محاولة للمس بالكرامة، وإذا قمت بالمثل فإنك أيضا تنتهك كرامة الآخر، فيحدث الانتهاك المتبادل للحدود وللكرامة، بدلا من أن يحدث العكس، فإذا أساء لك ولم تقابله بالمثل، سوف تمتص غضبه، وسوف تنطفئ دائرة التجاوز والانتهاك المتبادَل للكرامة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول حول هذه القضية في كتابه القيّم الموسوم بـ(يا أبا ذر):
(لا يجدر بالإنسان أن يظهر على لسانه كلّ ما في قلبه. فقد كان النبي صلى الله عليه وآله لا يحبّ العديد من أصحابه، وتارة يدلي ببعض الحديث لإتمام الحجّة، ولكنّه كان يهتمّ مطلق الاهتمام للمحافظة على كرامة الآخرين وصيانة الحدود).
عدم إبداء الاستياء من الآخرين
كذلك مطلوب من الإنسان القويم أن يسيطر على غضبه ممن يسيء إليه، ولا يُظهر له مشاعر السخط والاستياء، لاسيما تجاه أولئك الناس الذين ينزعج منهم، كونهم لا يقدّرون قيمة كرامة الإنسان، فيكون الانتهاك عندهم حالة طبيعية رغم أنها مكروهة وغير مقبولة، بسبب ما تشعله من أحقاد وكراهية بين الناس.
الصحيح هو أن تتحلى بالصبر، وتسيطر على ردود أفعالك، حتى لو تطلب منك ذلك طيلة العمر، وهذا هو المطلوب من كل إنسان مؤمن، أن لا يظهر الغضب أو الاستياء ممن يتجاوزون عليه، وبهذه الطريقة يمكن أن يعي الإنسان الخاطئ خطأه ويقوم بتصحيحه، وربما الاعتذار والكف عن انتهاك كرامة الآخرين.
ولكن حين يتجاوز الانتهاك الحدود المعلومة والمتفّق عليها شرعيا واجتماعيا، كأن تقع ضمن تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الأمر في هذه سيكون مختلفا، إذا لابد أن يوضع حد لمن ينتهك أحكام الدين، أما إذا كان الانتهاك شخصيا يمكن الصبر عليه فذلك أفضل لامتصاص العداء والأحقاد المتبادَلة.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لا يصحّ من المؤمن أن يبدي استياءه ـ بشكل مباشر على الأقلّ ـ لمن يشعر بالانزعاج تجاههم، وإنّما الفضيلة في عدم إظهار ذلك حتى آخر لحظة من لحظات العمر. أما إذا كان في الأمر ضرورة قصوى، كأن يكون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مما لا إشكال فيه).
ولو أننا تركنا الانتهاكات والتجاوزات جانبا، وتطرقنا إلى طريقة تصرف الإنسان مع الآخرين، وسلوكه وكلامه، وحتى نظراته، فما هو المطلوب منه لكي يساعد على بناء مجتمع يحترم كرامة أعضائه بشكل متبادَل.
المطلوب هو أن تكون كلماتك لطيفة ودودة جميلة تراعي مشاعر الناس وأذواقهم، وتتماشى مع القيم والأعراف والأحكام، وتنصف الناس خصوصا في قضية الشعور بالكرامة وعدم تجاوز الحدود، كذلك لابد أن يكون حديثك من النوع الذي يراعي الآخرين، ويكسب ودهم وقبولهم وحسن سماعهم واستجابتهم، وقد تبدو هذه الصفات صعبة المنال بالنسبة لبعض الناس، إلا أنها في الحقيقة ممكنة بالنسبة لمن يسعى في الاتجاه الصحيح.
التمرّن على كسب الصفات الحميدة
لذا لابد أن يدرب الإنسان نفسه ويضاعف التمرين على كسب هذه الصفات، والتحلي بها، لكي يتعامل مع الآخرين في ضوئها، وهي ليست مستحيلة إذا صمّم على أن تكون هذه الصفات الحميدة جزءا من شخصيته، وتسهم في تحسين سلوكه وكلامه وتصرفاته وتعاملاته المختلفة مع الآخرين.
يقول المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لا ينبغي للمؤمن أن يكون فظّاً، ونظرته يجب أن تكون نظرة لطيفة ودودة، وكذلك يجب أن يصطبغ حديثه بصبغة الليونة، وهذه الصفات بمستطاع الناس تحقيقها في أنفسهم، وهي قد تكون صعبة، ولكنّها غير مستحيلة).
علما أن لدينا النماذج العظيمة في تاريخ أمتنا، فالنبي صلى الله عليه وآله، كان يطبق قاعدة عدم إظهار الاستياء تجاه من يزعجه وينتهك حدوده، وهو رسول الله وقائد الأمة كلها، ولكن مع ذلك كان لا يرد الانتهاك بمثله، ويرفض أن يعاقب صاحب الانتهاك ضده، فلا يظهر غضبه حفاظا على الإنسان المقابل حتى لو كان مخطئا بحقه.
بهذه الطريقة الصبورة العظيمة استطاع الرسول صلى الله عليه وآله، أن يبني أمة تعاظمت بأخلاقها وتجاوزت في منجزاتها كل الأمم الموجودة في ذلك الزمن، فحين يصبر الإنسان على الانتهاك من الآخر غنما يحافظ على كرامته أولا، ومن ثم يدرأ خطر العداوة والفتنة بين أبناء الأمة الواحدة، علما أن هذا السلوك لا يعد من أشكال النفاق بل على العكس، فالهدف هو الحفاظ على كرامة الذات والآخرين في نفس الوقت.
هذا ما يشير إليه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يقول:
(كان المصطفى رغم ما قد يتعرّض لما يزعجه ـ وهو كثير جداً ـ يحفظ احترامه في الظاهر، ولا شكّ أنّ هذه الصفة ليست نفاقاً أو مجرّد تظاهر، بل هي من خصائص وفضائل المؤمنين، وقد جاء في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه: المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه).
كيف يمكن أن يكتسب الفرد مثل هذه الصفات، والأخلاق والقيم، وكيف يمكن له الصبر على شدخ الكرامة ولا يستاء ولا يغضب، الجواب عليه أن يبحث عن النموذج الذي يتعلم منه هذه الصفات وهذه الأخلاق وهذه السلوكيات.
وهنا ينصح سماحة المرجع الشيرازي بأن نقرأ سيرة الرسول المصطفى، وأن نتعلم منها ما يصنع منّا أناسا كبارا بإمكانهم أن يحافظوا على الكرامة الجمعية التي تشمل كل الناس، وأن لا نكتفي بجانب واحد من هذه السيرة العملاقة، بل نقرأ الجانب السياسي منها والأخلاقي، والاقتصادي والديني والاجتماعي، حتى تتشكل عندنا منظومة متكاملة تبني الأمة وتحمي الجميع من الانزلاق نحو الهاوية.
وأخيرا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(من الضروري جدّاً مطالعة سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله في جميع أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها).
الخلاصة نحن بحاجة إلى الكرامة الجمعية الشاملة، وهذا يتطلب من الجميع أن يشارك في إنجاز هذه المهمة الكبيرة، فالحفاظ على الكرامة الجمعية تعني صناعة أمة قوية متحابة ومحترمة، أولا تحترم ذاتها وكينونتها وقيمتها، وثانيا تحترمها الأمم الأخرى قاطبة لأنها تستحق هذا الاحترام.