شبكة النبأ: (على المرء أن يتوسّل بربّه ليعافيه عن الابتلاء بعقوق ذوي الأرحام) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
مَنْ عقَّ والديه جلبَ سخط الله عليه، هذه الجملة كنّا نسمعها ونحن صغارا، ويشرحون لنا معناها، فنعرف بأننا يجب أن لا نؤذي والدينا، وأن لا نعقهما، وأن نخفض لهما جناح الذل، وإلا فإننا سوف نتعرض إلى سوء التوفيق في الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة.
هذه النتيجة البديهية عرفناها منذ نعومة أظفارنا، لذا فإن منزلة الوالدين ظلت محفوظة، ومكانتهما عالية، مما يجعل تصرفاتنا تجاههما محسوبة بدقة، بحيث نضع قبولهما علينا وعلى أفعالنا في مقدمة الأمور التي نهتم بها، فالعقّ يعني الحفرة التي تتسع رويدا، أو الشق الفاصل بين طرفين، وفيه معنى مجازي يشير إلى الفجوة الفاصلة بين الابن والأبوين في حال تجرّأ الأول وعقَّ والديه، وهذا يدفع بهما لاتخاذ موقف الصدّ والابتعاد.
لذا من أهم واجبات الأبناء، أن يتمسكوا بعدم بلوغ مرحلة عقوق الوالدين، لأن البركة سوف تجف منابعها، والخير يصبح بعيدا جدا عن الأبناء، لهذا وضع الله منزلة عالية للوالدين، طالب الأبناء بأن يرحموا أباءهم وأمهاتهم، ويبتعدوا كل البعد عن الخشونة في التعامل معهم، سواء بالألفاظ أو بالتصرفات، لأن القسوة تجاه الوالدين تعني فقدان الخير والبركة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (حلية الصالحين):
(العقوق - لغةً - من العقّ وهو الشقّ والقطع والحفرة الواسعة في الأرض، وأطلق «عاقّ الوالدين» على الولد الذي يؤذي والديه بشقّ عصا طاعتهما أو لا يصلهما، فينشقّان عنه بسبب سوء موقفه تجاههما).
وغالبا ما ترتبط مفردة العقوق في معناها، بسلوكيات الناس تجاه بعضهم بعضا، خصوصا بين الأبناء من جهة والآباء والأمهات من جهة ثانية، لهذا هناك تحذيرات دائمة من قسوة القلوب، لاسيما تجاه الوالدين، وإذا أراد الإنسان أن يتوفق في حياته عليه أن يبرّ والديه، وإن حدث العكس فإن النتيجة سوف تكون قاسية على الابن بعد أن يقسو على والديه.
كذلك هنالك تنبيه قوي يخص قضية قطع الأرحام، فالعقوق يشكل جزءا من قطع صلة الرحم، وقد حذر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من هذا السلوك غير الإنساني، وناشدوا في أدبياتهم وأفكارهم وأحاديثهم الكثيرة جميع العباد من البنات والأولاد، بأن لا يتجرّأوا على الوالدين، ولا يسيئان لهما بأية طريقة كانت، لأن الله تعالى أوجب الرحمة بالوالدين.
لذا أكد سماحة المرجع الشيرازي على أن (العقوق يستعمل في الوالدين، كما تستعمل القطيعة في الأرحام غالباً). ومن واجب الأبناء ذكورا وإناثا أن يحفظوا كرامة آبائهم وأمهاتهم، وان يحافظوا على مكانتهم وقيمتهم في حضورهم وفي غيابهم.
تجنّب مشكلة التفكك الأسري
لكن من القضايا الواضحة في السلوك الاجتماعي، وجود هذه الحالة من العقوق، سواء مع الآباء، أو في ظاهرة عقوق الأرحام وقطع التواصل معهم، فهنالك أسباب كثيرة قد تدفع نحو قطع صلة الرحم، لاسيما في هذا الزمن الذي تقدّمت فيه المصالح الفردية والشخصية على المصالح الأخرى العائلية أو علاقات القرابة والصداقة وغيرها.
الإنسان في عصرنا المادي الحالي، أصبحت مصلحته تتفوق على الكثير من القيم، لذا أصبحت هناك مشكلات كثيرة في متانة البنية الاجتماعية، وفي نقاء وصفاء وتماسك العلاقات فيما بين الناس، سواء كانوا من الأقارب أو من الأصدقاء أو حتى من عامة المجتمع، لذا نلاحظ ازدياد حالات قطع صلة الرحم في عصرنا الحالي.
لكن هناك علاقات لا تزال تحافظ على صلة الرحم وتعدّها من أولويات المهام التي يسعى الناس إلى تحقيقها، لذا يسارع هذا النوع من الناس إلى معالجة المشاكل فور حدوثها، ومن ثم حلّها بشكل سريع بالتراضي بما يحافظ على حقوق كل الأطراف، وفق العدالة والوسطية والإنصاف، واعتماد بقية القيم التي تساعد على الإصلاح فيما بين الناس.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ الحالة الغالبة بين الأرحام هي أن يعقّ بعضهم بعضاً، بسبب المشاكل والتوقّعات أو اختلاف الأذواق أو تضارب المصالح الشخصية، فتحصل بينهم هوّة وهذه الهوّة قد تزداد بمرور الزمن، وهذا في الأرحام شيء غير نادر، اللهمّ إلاّ أن يسارع ذوو الأرحام في معالجة ذلك والسعي في إصلاح ذات البين).
ولكن كما هو متعارف عليه، أن معالجة جميع المشكلات، لاسيما قضية العقوق، تتطلب منا ركنين أساسيين هما، الدعاء، ومن ثم السعي لحل المشكلة الاجتماعية، ولعلنا نعلم تماما بأن الدعاء يُسهم بدرجة فعالة وكبيرة في تخليص الإنسان من قضية العقوق، فيكون محافظا على نفسه من الوقوع في هذا المنحدَر الخطير.
نقول عن العقوق بأنه منحدَر خطير، لأنه بالنتيجة يسيء إلى الجميع، وليس للأشخاص الذين يعقون بعضهم فقط، بل المجتمع كله، وشبكة الأقارب العاقّة لبعضها، هؤلاء جميعا يتضررون من مشكلة العقوق، حيث تحدث حالات من القطيعة غير المسؤولة بين جميع الأطراف، في حين أن الصحيح هو وجود علاقات جيدة ومتوازنة بين الجميع.
مبادرات لنشر ثقافة صلة الرحم
لذا علينا أن نعرف هذين الركنين، ونؤمن بأن حل مشكلة العقوق يمكن أن تتم من خلالهما، وهما الدعاء، والسعي لمعالجة كافة المشكلات التي يمكن أن تخلل العلاقات بيننا وبين الآخرين، فالدعاء يقلل ويعالج الابتلاء، والسعي يُسهم في معالجة أصعب المشكلات.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن:
(العلاج في العقوق – كما هو في جميع البلايا - له ركنان، الأوّل: الدعاء، والثاني: السعي. فعلى الإنسان - كما قلنا مراراً - أن يسعى ويدعو، لا أن يدعو دون سعي، أو يسعى دون دعاء).
الركن المهم أيضا أن نبادر بقوة لمعالجة أية مشكلة، ومن أي نوع كان، بغض النظر عن درجة تعقيدها، أو حجمها، أو تشعبها، ففي كل الحالات لابد من المبادرة بإصرار على معالجة المشاكل كفة، وتهيئة قاعدة الصلح مع الأقارب الذين تحدث معهم قطيعة لأي سبب كان، فتعود المياه إلى مجاريها، وتعاود علاقة صلة الرحم فاعليتها وتواصلها.
كذلك يجب أن لا نسيء الظن بالطرف المقابل، ولا نتهمه بأنه يفضّل نفسه، وأن نبتعد عن المزاحمة في قضية المصالح الشخصية، وأن تقوم علاقتنا مع أرحامنا قائمة على المودة والتراحم، والحفاظ على الحقوق باعتماد مبدا العدالة، والاعتدال، وكذلك لابد من التمسك بالقيم التي طرحها أئمة أهل البيت في أحاديثهم ورواياتهم الشريفة، بما يعزز صلة الرحم.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لن يتسنّى ذلك بسهولة ما لم يسع الفرد إلى دفع أو رفع وإزالة المشاكل التي توجب العقوق والشقاق. فلا ينبغي أن نقع في الغفلة أو التغافل عن أُولي أرحامنا بداعي سوء الظنّ أو النظر في المصالح المادّية البحتة، أو تتقطع سبل التواصل معهم بسبب الخجل أو ما أشبه).
وهناك نقطة مهمة جدا في هذا الباب، وهي تتعلق بالبنية الاجتماعية، والتماسك المجتمعي، فانتشار العقوق في العلاقات الاجتماعية، سواء بين الأبناء والوالدين، أو بين الناس بعضهم تجاه بعض، سوف تؤدي بالنتيجة إلى تخلخل البناء الأسري، وهذا ينعكس بدوره على بناء المجتمع بصورة عامة، فقطع صلة الرحم يعني السير بسرعة نحو التفكك السري.
وهي مشكلة اجتماعية لا يجب السماح لها بالانتشار، فمن صفات وسمات المجتمعات الناجحة، عدم وجود ظاهرة العقوق فيما بينهم، وعدم وجود ظاهرة التفكك السري، لذا فإن الجميع مطالبون بأن لا يسمحوا لمشكلة قطع الأرحام أن تزداد ولا أن تتضاعف لأي سبب كان، ولابد من المعالجة الفورية لهذه المشكلة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(عمدة القول في معنى هذا الطلب هو أن يتوسّل المرء بربّه ليعافيه عن الابتلاء بعقوق ذوي الأرحام، لما فيه من التفكّك الأُسري والاجتماعي، فضلاً عن سخط الله تعالى).
وأخيرا نقول إن أهم ثمرة يمكن أن نقطفها من تلافي حالات العقوق، سواء بين الأبناء تجاه الوالدين، أو بين الأقارب، أهم ثمرة هي محاصرة التفكك الأسري، ومعالجة المشاكل الزوجية المختلفة، ونشر ثقافة صلة الأرحام، وإبداء التعاون فيما بين الجميع، وتدعيم العلاقات الاجتماعية الرصينة والقيم الأصيلة بين أفراد المجتمع كافة.