شبكة النبأ: (كلّما كانت رغبات الإنسان في الدنيا بالمقدار الذي يحتاجه، كانت خطاياه أقلّ) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
يحاول الإنسان، أي إنسان أن يبني شخصيته بما يجعله متميزا، وذا حظوة عن الناس، وتقدير عال، وهو أمر مشروع، ولكن الأهم من كل شيء أن يجعل الإنسان من أعماله في الدنيا معبرًا صالحا نحو الآخرة، وهذا الهدف يمكن أن يتحقق عندما يجعل الإنسان من دنياه محطة عبور سليمة نحو الدار الأخرى.
ولكن كيف يمكنه من جعل هذه القنطرة التي تقوده إلى الآخرة، محطة سكن دنيوي جيد، يمكن استثماره بالشكل الصحيح لضمان حياة جيدة، وآخرة مضمونة من العواقب التي تعجّ بها الدنيا في كل مكان وأوان، إن حب النفس جزء من بناء الشخصية على أن لا يتحول إلى نوع من التضخم الذاتي المرضي، فيصبح الإنسان متكبّرًا مغرورًا، لاسيما إذا أصبح صاحب سلطة أو قرار أو جاه أو مال أو قوة.
هنا يوضع الإنسان على المحك، وتُطرَح أمامه الخيارات المتناقضة، فأمام السلطة يجب أن يكون هناك الحكمة، وأما القوة والجاه، يجب أن يكون التعقل، وأمام الجشع يجب أن يصحو الضمير بقوة، وهكذا يجب أن يكون الإنسان حازما مع نفسه، وأن لا يتورط في قضايا الانحراف المختلفة التي تحرمه من ميزة العبور بنجاح على قنطرة الدنيا إلى الدار الأخرى.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في محاضرة حب الدنيا ضمن سلسلة نبراس المعرفة:
(الإنسان كشخصية دينية أو علمية أو اجتماعية (عشائرية) أو سياسية أو من أي جهة كانت، لابد له أن يستفيد من شخصيته الدنيوية لآخرته، لكنّه إذا أحبّ هذه الشخصية إلى درجة أنه تعلّق بها ولا يريد الانفصال عنها بأي ثمن، فإن ذلك سيجره إلى ويلات ومصائب دنيوية وأخروية).
لنسأل أنفسنا بوضوح، ماذا نريد من هذه الدنيا، وما الذي نحتاجه فيها، فلكي تبقى على قيد الحياة، وتؤدي دورك ومسؤولياتك فيها، تحتاج إلى الطعام لكي تواصل العيش، وتحتاج إلى الملابس، والتنقّل من مكان إلى آخر، وبعض الأمور الأخرى الأساسية، هنا يمكن للإنسان أن يوفر هذه الأشياء بمقدار ما يحتاجه فقط، بعيدا عن التبذير والتبجّح بقوة المال وما شابه.
بوابة الطمع مفتوحة أمام الإنسان
هناك من لا يكتفي بما يكفيه من حاجات أساسية في الدنيا، لأنه يريد أكثر ما يحتاجه، وأكثر مما يكفيه هو وعائلته والمسؤول عنهم، المشكلة تحدث عندما يتحول الإنسان إلى حالة عدم الإشباع، فحتى لو حصل على كل ما يحتاجه، يبقى يرغب بالمزيد، وهذا يُثقل القنطرة أو الجسر (الدنيا) بأشياء لا يحتاجها الإنسان، وقد تتسبب هذه الأثقال بسقوط الجسر، وفشل الإنسان في جعل دنياه قنطرة صالحة للعبور إلى الدار الأخرى، لذا يجب الحذر من حالة الجشع.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد على هذه النقطة فيقول:
(إذا آمن الإنسان بأن الدنيا جسر لبلوغ الآخرة كما قال الحديث الشريف (إِنَّمَا اَلدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلاَ تَعْمُرُوهَا) (4)، فذلك يعني أن علينا أن نستفيد من الدنيا بمقدار حاجتنا لها من ملبس ومأكل وسفر وغيره لا أن يصيبنا الجشع).
لو أننا تخيلنا فعلا بأن الدنيا جسرًا لعبورنا بسلام إلى ضفة الحياة الأوسع والأجمل والأطول، فهل يجوز لنا أن نثقل هذا الجسر ببناء البيوت والقصور الفخمة، وهل يمكن أن نثقل عليها بالسيارات الفارهة، كلا بالطبع، لأن القنطرة ليست دار بقاء بل مكان عبور لا أكثر يوصلك إلى الضفة الأخرى التي تريد الوصول إليها.
لذلك لن يستفيد الإنسان قيد أنملة إذا صار جشِعًا أو طمّاعًا، بل يفيده العكس تماما، عندما يتعامل مع نفسه بحزم، ولا يسمح لفخ الشيطان أن يغويه في التعلّق بالدنيا، ولا يسمح للغرائز والشهوات أن تتلاعب به، إنهُ يمضي قُدُما في عبوره القنطرة بشكل سليم، وهو يعرف الفخ المنصوب له لذا سوف يتجنّبه ولا يقع في هذا الفخ.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ما الذي يستفيده الإنسان من الجسر إذا كان وسيلةً للعبور إلى مكان آخر تتوفّر فيه جميع النّعم والملذات التي يطمح إليها؟ لا يمكن للإنسان أن يبني حجرة في وسط قنطرة أو جسر، لأن القنطرة طريق فوق الماء تنقل الإنسان من ضفّة إلى أخرى، فالضفة الأخرى هي هدفه من هذه الرحلة وليس القنطرة).
ثروتك لا تشتري لك عمْرا ثانيا
ولعلنا جميعا نعرف تمام المعرفة بأن العمر لا يمتد بنا إلى الأبد، فأجدادنا مضوا إلى دار حقّهم، والكل مضى من هه الدنيا، لا أحد يُستثنى من الموت، لا الثروات تشتري لك عمرا ثانيا، ولا السلطات، ولا الجاه ولا المناصب ولا الثروات، فهناك عمر مقرّر لك مسبقا، ولا تعرف نهايته وفي أي مكان تغادر هذه الدنيا، قد تعيش 100 سنة أكثر أو أقل، لكنك بالنتيجة لا تختلف عن غيرك من الناس الذين رحلوا.
هذا الدرس وحده يجب أن يجعلك محصّنا من الوقوع في فخ حب الدنيا والتمسك بها، وحتى لو طال لك البقاء في هذه القنطرة، فإنك في الطريق إلى عبورها شئت أم أبيت، وهذا الدرس يجب أن نتعلمه جميعا، ونفهمه، ونجعل من أنفسنا عاجزة عن أن تغوينا، ونُفشِل دسائس و وساوس الشيطان كلها، ونجعله يرتدّ على أعقابه، فاشلا منكسرا مخذولا.
فكما يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الإنسان مهما عاش في الدنيا فهو كمن يمرّ على قنطرة، هذه سنّة الحياة التي تجري في الإنسان سواء كان عمره خمسين عاماً أو مئة عام أو أقل من ذلك أو أكثر، لأنه مهما طال عمر الإنسان تبقى حياته الدنيوية مثل القنطرة التي يُستفاد منها للعبور إلى الجانب الآخر).
أما صعوبة إزالة حب الدنيا من أنفسنا، فهو أمر واقع، نعاني منه جميعا، حتى المؤمنون يجاهدون أنفسهم لكي لا يقعون في فخ حب الدنيا، لذلك نجدهم يتمسكون بالأدعية والطلب من الله تعالى بشفاعة أهل البيت عليهم السلام، أن يضاعف من عزيمتهم ويمنحهم الصبر وقوة الإرادة ومواجهة حب الدنيا بقراءة الدعاء، وتلاوة القرآن، والتمسك بأهل البيت.
هذه نصيحة سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حيث يسأل ويجيب:
(كيف نزيل حبّ الدنيا من أنفسنا؟ الإنسان، بالتلقين والدعاء والطلب من الله والتوسل إلى أهل البيت يستطيع بعزمه وإرادته وتصميمه إزالة حبّ الدنيا عن نفسه).
هناك مجتمعات تكثر فيها الملذات، ومنافذ المحرّمات، ويوجد غيرها من المجتمعات تقل فيها مسببات الانحراف، لهذا على الإنسان أن يستثمر هذه الحالة، حتى يكون من الناجين والقادرين على تجنّب الفخ الشيطاني المنصوب أمام الجميع حتى يسقطوا فيه.
هناك ظروف جيدة في مجتمعاتنا، يمكن أن تساعدنا حقا كي لا نسقط في فخ حب الدنيا، وهذه الظروف يمكن أن نجدها في الأجواء الإيمانية في البيئة التي نعيش فيها، أو في المراقد المقدسة وزيارتها، أو في المداومة على الحضور في الأماكن ذات الأجواء الصالحة.
يطلب منا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(على الإنسان استغلال فرصة الظروف والأجواء المناسبة التي يعيش فيها، فلعلّ الوضع بالنسبة للآخرين يكون أسوأ وأشدّ صعوبة، خاصة في المجتمعات التي تستشري فيها الملذات الدنيوية).
بهذه السبل والتحوطات، يمكن للإنسان أن ينقذ نفسه من السقوط في الفخ الدنيوي، فالصراع مع النفس مستمر وصعب، ولا ينتهي طالما كان الإنسان على قيد الحياة، لذلك فهذا الفخ يبقى منصوبا له حتى آخر العمر، وعليه أن يتعامل مع هذه الحقيقة، وأن يتقّي ويتجنب هذا الفخ بكل الطرق المتاحة، وخاصة الإيمان القطعي، والورع عن المحرمات، والتقوى، والتمسك بمنهج ومبادئ أهل البيت عليهم السلام.