تحدّثنا في الحلقتين السابقتين عن أبرز ما يتصوّر من الإشكالات على إقامة الشعائر الحسينية، وهو الضرر اللاحق لمن يقوم بالشعائر، وقلنا هناك ثلاثة وجوه في ردّ الضرر المتصوّر، وقد تقدّم وجهان. وأما الوجه الثالث فهو:
يمكن أن ندّعي انتفاء الضرر موضوعاً لمن يقيم الشعائر الحسينية ، بمعنى أن قاعدة (لا ضرر) خارجة موضوعاً عن محلّ البحث فلا يمكن لها تناول إقامة الشعائر الحسينية، ولا ترفع حكم الشعائر بأقسامها المختلفة المرسومة قديماً وحديثاً.. ولا تجري فيها قاعدة الضرر لانتفاء الموضوع من الأساس ، لأنّ الضرر بحسب التحليل الشرعي لا يتناول - ابتداءً - مثل هذه الدرجات من النقص . . كما لا يسبّب شيئاً من النقص على المذهب . .
وهذا الوجه يختلف عن الوجهَين السابقَين . . فدليل الضرر من رأس لا يتناول الشعائر الحسينيّة من البداية . . نظير موارد عديدة ، مثل عمليّة جراحيّة يُجريها الإنسان لغرض معيّن . . فلا يُقال أنّ شقّ البطن مثلاً نوع من الضرر الوارد المحرّم . . بل هو نوع من المعالجة . . ومثلاً الحجامة في الرأس، أو في البدن تعتبر نوع من المعالجة . . فدعوى الضرر من الأصل هو أول الكلام . .
وأما تفصيل هذا الوجه فنقول:
مرّ بنا سابقاً أنّ الهلكة أو التلف أو النقصان إنّما يصدق إذا ذهب التلف هدراً أويضيع النقصان سدىً ومن دون أي نتيجة أو ثمرة، أما إذا كان هناك ثمرة من ذلك التلف والضرر، فليس من باب إلقاء النفس في التهلكة.
ولتوضيح الفكرة نقول: خروج المقام تخصّصاً وموضوعاً عن الضرر؛ وذلك بالإلتفات إلى ما حُرّر في قاعدة «لا ضرر» من عدم شمولها لجملة من الأبواب والأحكام الأوّليّة، كالجهاد والخمس والزكاة ونحوها ممّا يتراءى في الوهلة الأولى أنها ضرريّة; فإنّ آيات الجهاد، لا يُقال أنّها مخصِّصة لعموم: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) كما لا يُتوهّم شمول النهي لموارد الجهاد، وأنّ أدلة الجهاد مخصِّصة لها.. ولا يصحّ تقرير الظاهر من الدليلَين بهذه الصورة؛ لأنّ المراد من الإلقاء في التهلكة هو الإلقاء سدىً وبدون نتيجة وبلا طائل . . بخلاف ما إذا كانت هناك غاية فضيليّة مترتّبة على إلقاء النفس في فعل يستوجب معرضية التلف . .وأي فضيلة أعظم من تعظيم شعائر الله تعالى ومنها شعائر الإمام الحسين عليه السلام التي هي روحاً ولبّاً مرتبطة بشعائر الله عزّ وجل، ودونكم الروايات المستفيضة في هذا الباب المروية عن أكثر من إمام معصوم صلوات الله عليهم أجمعين، بل وتقرير بعض الأئمة عليهم السلام للموالين لهم في تعّرضهم للأخطار التي تحدق بهم في إقامة شعيرة الزيارة للإمام الحسين عليه السلام، بل وكان بعضهم يتعرّض للقتل أو للأذى في هذا الطريق مع ذلك لم نر أحداً من أئمة الهدى ينهى عن القيام بها..
وقد أشار سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي حفظه الله تعالى ذخراً للإسلام والمسلمين، في خطابه الأخير قبل حلول شهر محرّم الحرام لمثل هذا، وقال في تعامل الأئمة والعلماء مع القضية الحسينية:
إن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم كانوا يشجّعون الناس ويحثّونهم على الزيارة، وهناك الكثير من الروايات الصحيحة والمفصّلة في هذا المجال، وتجدونها في العديد من الكتب، بالأخصّ الكامل في الزيارات، وخصوصاً حول من يقتل في زيارته للإمام الحسين صلوات الله عليه، وحول من يتعرّض للأذى ونحو ذلك.
وقال أيضاً: في زمن الأئمة الأطهار، الباقر والصادق والكاظم صلوات الله عليهم، كم قُتل من الناس بسبب ذهابهم إلى زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه؟ وكم منهم عذّبوا؟ بل إن الكثير ممن ذهب إلى الزيارة كان يودّع أهله وعائلته وداع من لا يرجع إليهم أبداً! فهل تجدون نهياً واحداً من الإمام الباقر صلوات الله عليه عن عدم الذهاب إلى الزيارة، أم أنه صلوات الله عليه كان يشجّع الناس ويحثّهم على الزيارة؟
بل ولكثرة تشجيع الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم على الزيارة، كان الناس يخاطرون بحياتهم فكان الشخص منهم يذهب إلى الزيارة وهو يحتمل احتمالاً عقلائياً بأنه سيقتل. فلماذا لم ينه الإمام الباقر أو الإمام الصادق صلوات الله عليهما، الناس عن ذلك؟، فهل نحن نفهم أكثر من الأئمة صلوات الله عليهم، والعياذ بالله !!!؟ انتهى كلامه دام ظله الشريف.
ويشير إلى - ما إذا كانت هناك غاية فضيليّة مترتّبة على إلقاء النفس في فعل يستوجب معرضية التلف - مناظرة النبيّ يعقوب عليه السلام مع أبنائه . .
(قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) فأجابهم: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) سورة يوسف: الآيتان 85 و 86 . أي أنّه ردّ على دعواهم في كَون شدّة الحزن وطول البكاء هلكة، وأنّ تطبيقهم الهلكة عليهما هو بسبب جهلهم . . وفي الموضوع عنوان آخر وموقف آخر إلاّ أنهم يجهلون ذلك، وهذا الجواب يقتضى أنّ الحزن الشديد والبكاء الطويل وإن أوجبا ابيضاض العينين . . قابلان لأن يتّصفا بالرجحان والغرض الكماليّ، ويخرجان بذلك عن الهلكة المذمومة القبيحة .. وعليه فإن الظاهر أنّ الهَلكة وما شابهها إنّما تكون في الموارد التي تذهب فيها النفس سدىً . . ولا يترتّب عليها نتيجة فضيليّة ولا أثر سام.
وتعبير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: « لا يكون عندي ملوماً . . بل يكون به جديراً . . » أي يكون ممدوحاً.
والنتيجة: أنّ وجه ما قالوا في عدم شمول قاعدة الضرر للضرر الأوليّ في الأحكام الأوّليّة وشمولها للضرر الطارئ، هو أنّ الأحكام الأوّليّة المبنيّة على المشقّة والحرج والضرر هو عوضيّة الملاك والمصالح الموجودة في متعلّقات تلك الأحكام عن النقص والمشقّة الناجمة منها، وكذا الحال في الشعائر الحسينيّة، فإنّ ماهيّة الشعيرة الحسينيّة - كما هو مستفاد من الروايات المتواترة التي جمعت في أبواب عديدة ضمن مصادر معتبرة - متقوّمة بالحزن والتفجّع والحماس، كما هي متقوّمة بالمعاني السامية التي نهض من أجلها سيّد الشهداء عليه السلام، ومن الواضح أنّ الحزن والتفجّع بحماس فيه مكابدة وعناء وعبأ تحمّل روحيّ، سواء في زيارته عليه السلام، أو في المشي إلى زيارته، أو في إقامة مراسم العزاء بأشكالها المختلفة أو في غير ذلك من مراسم وصور الشعائر الحسينيّة.
وهذا مما يؤكّد أنّ تشريع الشعائر الحسينيّة في الشريعة المقدسة مبني من أساسه على المخاطرة والمكابدة والمجاهدة، ومن ثم يتّضح وجه ما ذهب إليه المحقّق الميرزا القميّ في جامع الشتات من إدراج الشعائر الحسينيّة في باب الجهاد.
على ضوء ذلك يتبيّن عدم شمول قاعدة الضرر لأبواب الشعائر الحسينيّة التي شرعّت في أصلها كباب الجهاد ونحوه على تحمّل الضرر والمشقّة . .
ومن الواضح أن النقص الذي يُشاهَد في الشعائر الحسينيّة بهذا المقدار هو ليس من الضرر شرعاً، بل ولا عند العقلاء، نظير جرح الشخص نفسه لإخراج الدم لأجل تحليله طبيّاً، أو مثل الحجامة، التي ورد الحثّ عليها من طرق العامّة والخاصّة ورجحانها أمر ثابت وطبّيّاً أيضاً.
فالبشر والعقلاء يمارسون العديد من التصرّفات اليسيرة في البدن، من دون أن يحرّموها أو يمنعوها.. فتحصّل أنّ هناك ثلاثة وجوه لدفع توهّم الضرر في الشعائر الحسينيّة بأقسامها . والله سبحانه الموفق لسبيل الرشاد، ثبّتنا الله وإياكم على القول الحق والأخذ بأيدينا لتعظيم وتقوية شعائر الإمام الحسين عليه السلام التي بها الدين قام واستقام، وبها استلهمنا كل قيم الدين الحقة التي ثار من أجلها الإمام الحسين عليه السلام.
صالح المنيان ـ قم المقدّسة. 4 / محرم / 1435 هـ