شبكة النبأ المعلوماتية: محمد علي جواد تقي
(الثورة)؛ مصطلح يستدعي معان ودلالات عديدة، ربما تعبّر عن حالة الغليان والتمرّد وعدم الاستقرار، بينما (الأخلاق)، من حيث المنطوق المفهوم، يستدعي دلالات الاتّزان والاحترام والإلتزام. فكيف يمكن للأخلاق أن تثور...؟
إنّه سؤال وجيه، ربما يطرحه القارئ، فالأفكار والنظريات هي التي تصنع الثورات، كما تكون نتاج عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية عديدة، لسنا بوارد الخوض فيها، لأننا مازلنا على خط الحديث عن (الثورة في سيرة آل الشيرازي)، ولدى توقّفنا في (محطة الأخلاق) في سيرة المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، فإنّنا نسلّط الضوء – بالحقيقة- على مشروع ثقافي واسع النطاق في المجتمع والأمّة، يهدف إلى البناء والإصلاح، قبل أن يسقط حجراً من هنا أو هناك، لأن القضية تمثّل عملية تغيير وبناء ذاتي، قبل أن تكون قرارات من جهات خارجية.
لذا نجد سماحته يؤكّد في معظم أحاديثه ومؤلّفاته على جيل الشباب بأن يحرص على التحلّي – ما أمكنه- بالصفات الأخلاقية والخصال الحميدة، كما يفعل الشيء نفسه مع سائر فئات وشرائح المجتمع، لمعرفته ما للأخلاق من دور مباشر في البناء الحضاري، وفي تقدّم الأمة والمجتمعات الإسلامية ونهوضها من جديد. علماً أن الأخلاق، مشروعٌ لم يبدأه أول مرّة، إنما هو يمثّل امتداد لمن سبقه من في الأسرة الكريمة، لاسيما سماحة المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي قدّس سرّه، الذي كان قد خصّص مكانة خاصّة للأخلاق في مشروعه النهضوي والتربوي العظيم، بيد أن المرحلة التي نعيشها اليوم، تتطلّب خطاباً خاصاً يقدّمه لنا سماحة المرجع الشيرازي دام ظله ليكون الأخلاق عضيداً لجملة من الاستحقاقات فيما استجدّ في مجالات الإعلام والثقافة والسياسة والاجتماع وغيرها.
اخفض جناحك، تسمو عالياً
كما ان الجناح، يمثّل مصدر قوّة ووسيلة يستعين بها الطير للتحليق عالياً، فإنّ الإسلام، وفي نصوص عديدة، يدعو الإنسان في طريقه إلى التكامل الأخلاقي، لخفض (جناحه) كنايةً عمّا ما لديه من قدرات تميّزه عن الآخرين، مثل المال والسلطة والعلم والمنزلة الاجتماعية، هذه الإمكانات والقدرات من شأنها أن تتحوّل إلى عامل خير كما يمكن أن تكون عامل شرّ في وسط المجتمع والأمة، لذا يذكر سماحته بأن هذه القدرات بالأساس، هي نعم من الله ـ تعالى ـ إلى الإنسان، فيجدر به أن يحسن التصرّف بها.
(إنّ خفض الجناح لدى الإنسان ـ كما يقول سماحته ـ يُعدّ من مصاديق الخلق الحسن الذي ينبغي أن يكون عليه، لكي يكون بواسطته أهلاً لأن يشقّ طريقه في الحياة بقليل من الصعوبة، وهذا يوجب محبوبيته عند الناس أيضاً، وهو أمر صعب جدّاً – خفض الجناح- إلاّ انه ممكن التحقيق).
ويوضّح سماحته كيفية تحقيق عملية التغاضي عن القدرات والإمكانيات وعدم التعكّز عليها في العلاقات الاجتماعية، في كتابه (حلية الصالحين)، مستنداً إلى حديث مروي عن الإمام الباقر، عليه السلام، حيث يقول: (إنّ الخلق منحة يمنحها الله خلقه، فمنه سجيّة ومنه نيّة). بمعنى أن الخلق الرفيع ربما يكون متأصّلاً في نفس الإنسان بفعل التربية والأجواء الخاصة التي يعيشها في الأسرة والمجتمع، فينمو طيّب القلب والسريرة، نظيف اللسان، سهل المعشر. كما أن الخلق يمكن أن يخرج إلى الواقع العملي بفعل النيّة والإرادة، وهو مصداق (التغيير الذاتي). لذا فإنّ السائر في هذا الطريق، (يعاني كثيراً لكي يلتزم بالأخلاق الفاضلة، وهذه المعاناة إنما تقف وراء تحمّلها نيّة صادقة وإرادة قاهرة لتجاوز الحالة أو الطبيعة السيئة). ويضيف سماحته حقيقة هامّة للغاية في هذا السياق بأن (صاحب النيّة، المكافح، أفضل درجة وأرفع منزلة من صاحب السجية).
من هنا يدعونا سماحته إلى المضي قدماً في هذا الطريق نافياً بشدّة أيّ عذر بعدم إمكانية التغيير، بأن (الذي يبدي عجزه عن إحداث التغيير في نفسه وسلوكه نحو الأحسن بذريعة الرواسب العالقة في ذاته، فهو غير صائب لأن عملية التغيير ممكنة، وإن كانت صعبة، والأمثلة على ذلك كثيرة).
نسيم الأخلاق يعمّ الجميع
بعد التوجّه نحو الذات، يأتي دور العالم الخارجي، حيث المجتمع المحيط بالإنسان، ولطالما أكّد سماحته في غير مناسبة، على أهمية الخلق الحسن في العلاقات الاجتماعية، رغم الظروف المعقّدة الملابسات التي ضربت جوانب عديدة في حياة الإنسان، حتى بات من الصعب تحديد الموازين الأخلاقية والمعايير الصحيحة. ولعل أقوى من هتف به سماحته في دعواته إلى الأخلاق الحميدة مستنداً إلى حديث شريف بأن (سيئ الخلق يعذّب نفسه). بمعنى أن سيئ الخلق، قبل أن يلحق الضرر بأفراد الأسرة والزوجة والأولاد والجيران وأفراد المجتمع، فإنّه ينعكس مباشرة على حالته النفسية هو، بمعنى أن الأخلاق التي تعدّ ـ بالحقيقة ـ نسمة طيّبة، عندما تبدأ من الإنسان، يفترض أن تعمّ الآخرين من الأقربين وحتى الأبعدين. وهذا ما يؤكّده سماحته في هذا الكتاب مستشهداً بدعاء الإمام زين العابدين، عليه السلام، المعروف بـ(دعاء مكارم الأخلاق)، حيث يدعو الإمام، عليه السلام، الله تعالى بأن يجري الخير على يديه لكل الناس، ويوضّح سماحته بأن الناس هنا، تشمل المؤمنين والمسلمين، وغير المسلمين أيضاً.
ويذكّرنا سماحته بأن هذا الخلق الرفيع، مستمدٌ من أخلاق السماء، (فكما ان الله تعالى يعطي النعم للمؤمن والكافر، فإنّ الإمام، عليه السلام، يسأل الله أن يجري على يديه الخير لجميع الناس دون تمييز). علماً ان هذه، لم تكن فقط أخلاق الإمام السجّاد، وإنما هي أخلاق النبي الأكرم، والأئمة المعصومين من بعده، صلوات الله عليهم. وربما هذه النقطة الفاصلة ترفعنا إلى مرحلة متقدّمة من البناء الاجتماعي والحضاري، بحيث تمكّننا التغيير الحقيقي لما نعيشه من واقع متردّي لاسيما على الصعيد الأخلاقي.
واعتقد جزماً، أن الحديث عن الأخلاق في حياة المرجع الشيرازي ومشروعه الثقافي، بحاجة إلى مساحة أوسع، بيد أننا نستفيد من ملاحظة واحدة ومحورية، وهي حالة (التوازن) في الحالة النفسية لدى الإنسان. فقد عبّر سماحته عن (النفس) بأنها (كالنابض الذي يهبط لأدنى ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة) في إشارة إلى حسّاسيّته ودقّته. كما انه يؤكّد على أهمية التوازن في كل الأشياء بالحياة، لأن اختلال التوازن يعني الفوضى والإرباك، وربما السقوط في المهاوي والمهالك. هذا التوازن في النفس الإنسانية، مقتبسٌ من دعوة للإمام السجاد إلى الله تعالى بأن يتحقّق لديه ـ وهو الإمام المعصوم ـ حيث يقول: (ولا ترفعني في الناس درجةً إلاّ حططتني عند نفسي مثلها). بمعنى أن الإنسان الناجح في الحياة هو ذلك الذي يحفظ نفسه من الطغيان والغرور، سواءً في العلم أو الجاه أو المال، بواسطة هذا التوازن البديع الذي، بدوره يحقّق للإنسان والمجتمع والأمّة سلامة الحاضر، من احتمالات التضخّم في القدرات وانفجار الأزمات، ثم استشراف المستقبل في طريق الأخلاق.