LOGIN
المقالات
alshirazi.org
لا للعودة إلى أنظمة الاستبداد
رمز 299
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 5 مارس 2016
شبكة النبأ: نتيجة لإخفاق الحكومات الحالية، قد يتمنّى بعض الناس العودة إلى الماضي، ونقصد به ماضي الاستبداد السياسي، وهذا في الحقيقة خطأ جسيم، لأن الطغيان مرض عقيم وخطير، لا يبقى في حدود السياسة، ولا تنحصر أضراره في الميدان السياسي، إنما تتعدّى ذلك إلى مجمل ميادين الحياة ومجالاتها، حيث ينعكس الاستبداد السياسي على الحريّات والإعلام والثقافة والاقتصاد والتعليم وسواه، فتغدو حياة الشعب كلها في قبضة الحاكم وتحت رحمة قراراته التي غالباً ما تكون جائرة متسرّعة.

لهذا السبب ينبغي رفض مثل هذه الأقوال التي تدعو إلى عود الطغاة، وهؤلاء نسبة قليلة من الجماهير، ومع ذلك ينبغي أن يتذكّر الجميع تلك الأحداث والمآسي التي تسبّبت بها الأنظمة السياسية الظالمة، إن الطغيان ظاهرة تاريخية ليست وليدة العصر الراهن، لها جذورها الضاربة في عمق التاريخ، ولها سماتها ومخاطرها المعروفة على مرّ التاريخ، حيث تصدّى لها علماء ومفكّرون وفلاسفة، تفسيراً وتوضيحاً.

في هذا المجال يرى سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في شرحه لظاهرة الطغيان وماذا يعني مضمونها، كما نقرأ ذلك، في كتابه القيّم الموسوم بـ(الحرية في الإسلام) قائلاً سماحته:

(الطاغوت من الطغيان وهو التجاوز عن الحدّ) والحد هو مجموعة الضوابط والقواعد المتّفق عليه، كي تستقيم حياة الناس وتنضبط وتتم من خلال ذلك حماية حقوق الجميع عبر الالتزام بالحد، والحد هنا هو حد الله تعالى، الذي تتفرّع منه جميع الحدود المتعارف عليها، في أحكام الشرع، وفي السنن والأعراف والأخلاق المتّفق عليها عموماً، ولا ينحصر التحجيم وكبت الحريات، على أفعال الناس وأعمالهم المختلفة، بل هناك طغيان فكري، يرفض الفكر الواعي المتحرّر ويقارعه، وغالباً ما يقف هذا الفكر الرجعي إلى جانب الطغاة ضد الشعوب، كونه يتجاوز القيم والقواعد المعروفة بصالح الإنسان واستقراره وتقدّمه.

لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (يستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمّة الفكر المنحرف).

من هنا لا يصحّ للإنسان أن ينسى جرائم الطغاة، لاسيما أن الضوابط الدينية والعرفية والأخلاقية تحدّد بوضوح ظاهرة الطغيان، وتصفها بالقمع والانفراد وفرض الرأي بالقوة الغاشمة حتى لو كان منافياً للحكمة والتعقّل، إذ كثير من الحكّام الطغاة تسبّبوا لشعوبهم بأفدح الأضرار بسبب فرض رأيهم بالقوة، أما بخصوص السياسة، فهناك حريّات وحقوق وواجبات، تدركها الدساتير لتنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، شريطة أن تحظى بالقبول الشعبي الواعي، وما عداها فهي دساتير شكلية، يدبجها كتَبَة الحكّام الطغاة، كغطاء لجرائمهم البشعة ضد شعوبهم، ولا تزال التجارب ساخنة، تلك التي تؤكد لنا أن الحكّام الطغاة لا يعترفون بالدستور، ولا بالحريّات الفردية أو الجماعية، ودائماً يعتقدون بأنهم على صواب، حتى لو أدّت قراراتهم الفردية إلى الخراب الشامل لحياة الشعوب.

حرية الاختيار في الدين
من أهم المزايا التي يقدّمها الإسلام للإنسان، الحريّة، فالإنسان حرّ في القول والفكر والسلوك، والشرط الوحيد في ذلك عدم إلحاق الضرر بالآخرين، لذلك فالدين الإسلامي في جوهره هو دين الحرية، استناداً للنصّ القرآني الذي ينصّ على أنه (لا إكراه في الدين)، لذا ليس هناك حالة إكراه في الدين الإسلامي، ولا ينبغي أن تكون.

لذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي، في كتابه المذكور نفسه حول هذا الجانب بوضوح: (من أصول الإسلام المسلّمة والمؤكّدة مسألة حرية اختيار الدين؛ قال تعالى: لا إكراه في الدين). أما الحكّام الطغاة، فالمعروف أنهم يقبلون بما يتفق مع مصالحهم وآرائهم فقط، أي يوافقون على ما يدعم سلطاتهم فقط، أما الرأي المعارض لهم، فهو حتى لو كان على حق ومن صالح الشعب، يُنظر له على أنه رأي معادي لا يجوز السماح به مطلقاً.

ولذلك فإن هذا الأمر يأخذ طابعاً آخر مع الحكّام الطغاة وحكوماتهم الفاشلة، حيث يوجد هناك مسار واحد يفرضونه على الشعوب بالقوة وبكل الوسائل والأساليب من دون تردّد، وهو أن تسير الناس في طريقهم ومسارهم، من دون رأي أو صوت معارض، وإلاّ فإن القصاص، أرواحهم وأملاكهم وأبناءهم، وبهذا تنتهك الحريات أيما انتهاك، وتصادر الآراء أيما مصادرة، بينما في الإسلام والحكومات الإسلامية التي خلّدها التاريخ في حلقاتها المشرقة، لا يوجد تجاوز على حرية الفرد، ولا يوجد استبداد في الحكم أو فرض الرأي وما شابه.

ولدينا في تاريخنا المشرق، نماذج خالدة في هذا المجال حيث يذكر لنا التأريخ، أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهو قائد الدولة الإسلامية في نشأتها الاولى، قدّم انموذجاً للقائد المتحرّر والمتسامح مع الجميع، حتى مع أعدائه الذين ظلموه، وتجاوزوا عليه وعلى ذويه وأصحابه الأطهار، فماذا كان ردّ فعل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وهو القائد الأعلى للمسلمين ودولتهم القوية؟، هل تعامل معهم تعامل القساة الظالمين؟؟ كلا، بل تعامل بأخلاق القائد العظيم القوي المؤمن.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع: (هكذا روى التاريخ عن سلوك نبيّنا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟!). هذا هو سلوك القائد الداعم لمنهج الحرية، وهذا درس لمن ينادي بعودة الطغيان تحت حجج واهية لا تصمد أمام الحقائق، لأن الاستبداد في جميع الحالات لا يمكن أن يمثّل النظام العادل مطلقاً.

بين رعاية الحقوق وانتهاكها
مؤشّر واضح وفارق لا يقبل الشكّ، يوجد بين الحاكم العادل والحاكم الطاغية، وهذا المؤشّر أو المعيار يتمثّل بدرجة انتهاك حقوق الأمة، الفرد والمجتمع، النموذج على ذلك الإمام علي بن أي طالب عليه السلام، فهو القائد الذي رعى حقوق الجميع من دون استثناء، أو تفريق أو تفضيل بين شخص وآخر، والجميع في ظل حكومته سواسية، وفق مبادئ العدل والرأفة والمساواة، حيث يتكرّر منهج التحرّر، فنجد في حكم الإمام عليه السلام، النموذج الأمثل للحاكم الذي يرعى شعبه، ويساعدهم على معرفة حقوقهم والعمل بحرياتهم، بعيداً عن القسر والظلم والإجبار، تحت ضغط المصالح السلطوية، التي غالباً ما تعمي بصيرة الطغاة، بل التسامح والنصح والتوجيه يشمل حتى المعادين لحكومة الحاكم العادل، من هنا ينبغي أن نتذكّر دائماً أن نموذج الطغيان والاستبداد لا يصلح مطلقاً أن يقود الناس مهما كانت الحجج والذرائع.

فقد جرّبنا الطغاة كثيراً، وعرفنا عن قرب انحرافهم عن جادة الحق، وهم يعرفونه حق المعرفة، لكنهم كانوا يتمسّكون بالباطل، تحت ضغط أطماعهم، ومصالحهم ونفوسهم المصابة بالضعف والهوان، وهم يعطون بذلك صورة واضحة عن قمع الحريات ومصادرة الآراء، حماية لعروشهم التي ستهتز وتسقط عاجلاً أم آجلاً (وقد سقطت عروش الكثير منهم)، ومع ذلك ينسى الطغاة، مصيرهم الذي ينتظرهم، فهم مهدّدون بالسقوط في الدنيا، ومحاسَبون على جرائمهم في الآخرة.

لذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي على: (أنّ من عرف الحقّ ولم يترك الباطل فإنّ مصيره يوم القيامة إلى جهنّم وبئس المصير. أمّا في الدنيا ف‍ـ(لا إكراه في الدين) ليتمّ الامتحان ويُعرف الطالح من الصالح، ويُميّز الخبيث من الطيّب) وعلى هذا الأساس ينبغي أن نتمسّك بالنظام العادل التعددي الذي يضمن لنا عدم العودة إلى الاستبداد مطلقاً.