شبكة النبأ: (السياسة الإسلامية بُنِيتْ على أسس العدل الكامل والكرامة الإنسانية) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
تقوم فلسفة العدل في سياسة الإمام علي (عليه السلام)، على ثوابت مهمة تعد من مميزات سياسته العادية، ومن بين هذه الثوابت، عدم محاسبة الخصم أو العدو إلا إذا قام بفعلٍ مُعادٍ ملموس، أي مثبت بالأدلة القاطعة وبالحدوث الفعلي، وليس على التوقع المسبق بقيامه بهذا الجرم الجنائي أو ذاك، ولا يجوز محاسبة الناس لمجرد أنهم ينوون إلحاق الأذى بك.
عدالة الإمام علي (عليه السلام) تقتضي مسك المسبّب متلبسا، أو مرتكبا لهذه الجناية أو تلك، ثم يتم اتخاذ الإجراءات الجزائية بحقه، أما أن يُسجَن أو يعاقب قبل قيامه بالجرم أو الجناية، فهذا غير وارد في فلسفة عدالة الإمام (عليه السلام).
هذا بحد ذاته يعدّ من الدروس الكبيرة التي تُقدَّم للحكام، مسلمين كانوا أو من أديان أخرى، وهو مبدأ مهم وإنساني كبير، من المبادئ والثوابت التي تقوم عليها فلسفة عدالة الإمام علي (عليه السلام)، وهناك دليل تاريخي حاسم ومعروف يثبت هذه العدالة في تعامل الحاكم الأعلى مع الناس جميعا، وحتى مع المناوئين له.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
(حينما كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على عرش الرئاسة الكبرى للدولة الإسلامية العظمى التي كانت قد ضربت بأطرافها الممتدة على أعظم رقعة من المعمورة، والتي كانت تحسب لها الحساب كل الدول في العالم آنذاك، تراه يعرف قاتله، ويذكر لـه أنه هو القاتل له، لكنه لا يمد إليه يداً بعنف أبداً، لفلسفة العدل، وهي مادام أنه لم يمارس جناية فلا يستحق القتل).
وكان الإمام علي (عليه السلام) يعرف قاتله (الملعون بن ملجم)، لكن مبدأ العدالة في فلسفة الإمام يمنع محاسبة شخص ما عن جناية لم يرتكبها بعد، ومع أنه كان الحاكم الأعلى لأعظم دولة في العالم آنذاك، من حيث سعة الأرض والموارد وحتى القوة الضاربة.
وقد كان (عليه السلام) يعرف بقاتله بن ملجم، بل ويخاطبه بشكل صريح وعلني ويقول له على رؤوس الأشهاد (بأنك قاتلي)، إلا أنه لم يمسه بأي نوع من الأذى، ولم يضايقه بشيء، كأن يحبسه، أو يوعز باستدعائه للتحقيق معه حول ما يروم القيام به من جناية بشعة.
من دروس العدالة العلوية
لكن فلسفة العدالة العلوية لا تتبنى المحاسبة المسبقة القائمة على المعرفة قبل ارتكاب الجناية، حتى القاتل الملعون نفسه، حين كان يخاطبه الإمام (عليه السلام) ويقول له (أنت قاتلي)، كان يقول مخاطبا الإمام (يا أمير المؤمنين إذا عرفت ذلك مني فاقتلني)، فكان الإمام يرفض ذلك، ويقول له بوضوح وفي إطار فلسفة العدل:
(لن أقتل رجلا قبل أن يفعل بي شيئا). بمعنى طالما أن الدليل الفعلي للجناية غائب، فإن المقاضاة لا تجوز، والمحاسبة غير جائزة إلا في حالة ارتكاب الفعل الجنائي، وهي عدالة لا مثيل لها سواء في التاريخ الماضي أو الحاضر، وهي دليل على سمو وعظمة الإمام علي (عليه السلام)، والقيمة العظيمة لهذه المدرسة القائمة على فلسفة عدل لا شبيه له في التاريخ.
لذلك يضيف سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(كان علي (عليه السلام) يقول لعبد الرحمن بن ملجم: أنت قاتلي وكان يكرر عليه هذا البيت:
أريـد حيـاتـه ويـريـد قتلي عذيـرك من خليلك من مراد
فيقول لـه ابن ملجم: يا أمير المؤمنين إذا عرفت ذلك مني فاقتلني.
فيقول له: إنّه لا يحلّ ذلك أن أقتل رجلاً قبل أن يفعل بي شيئاً).
لم ينتهِ درس العدالة العلوية عند هذا الحدّ، فحين سمع عدد من رجال أمير المؤمنين (عليه السلام) وشيعته، هذا الحوار وتوجيه الكلام للملعون (بن ملجم) مباشرة، هبّ عدد من الرجال واثبين وجرّدوا سيوفهم من أغمادها، وطلبوا أمرا من الإمام (عليه السلام) بقتل (بن ملجم)، لكن قائد المسلمين ورئيس أكبر وأعظم دولة في ذلك الحين منعهم عن القيام بذلك، وحمى (قاتله) من القتل، تُرى لماذا لم يسمح لهم بقتله؟، الجواب:
لأن فلسفة العدالة العلوية تنص على أن القيام بالجناية فعليا هو المبرر للمحاسبة والمقاضاة، ولا يصح القتل قبل ارتكاب الجناية، وهو ما حدث بالفعل، حين طلب الإمام (عليه السلام) من رجاله أن يغمدوا سيوفهم، ولا يلحقون ضررا بالملعون (بن ملجم).
هذا الدرس الكبير في العدالة، والنابع من المدرسة العلوية، هو بمثابة درس عظيم ليس للمسلمين وحدهم، وإنما للبشرية كلها، وهو درس بفضح ساسة اليوم وحكام الظلم، فكم من حاكم قتل الناس على الظن، أو على التوقّع، أو على الوشاية الكاذبة والنميمة والحقد الأجوف، وكم من حاكم طاغية قتل الناس بسبب أحلام حلموا بها.
حكاية من حكايات الطغاة
إذْ يُحكى أن هناك رجلا حلم في منامه بقتل الطاغية صدام، وحين علم جلاوزة الطاغية بهذا الحلم بطرقهم الخاصة، تم إلقاء القبض على الحالم بقتل الطاغية، وتم محاكته وأصدر عليه حكم بالإعدام، علما أنه مجرّد حلم في المنام، ولم يتحقق في الواقع، وغير هذه الحكاية توجد آلاف الحكايات التي ارتكبها حكام ظالمين طغاة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(سمعتْ الشيعة ذلك، فوثب مالك الأشتر، والحارث بن الأعور، وغيرهما من الشيعة، فجردوا سيوفهم وقالوا: يا أمير المؤمنين من هذا… الذي تخاطبه بمثل هذا الخطاب مراراً وأنت إمامنا وولينا، وابن عم نبينا، فمرْنا بقتله؟، فقال لهم: اغمدوا سيوفكم، وبارك الله فيكم، ولا تشقوا عصا هذه الأمة… أترون أني أقتل رجلاً لم يصنع بي شيئاً؟).
هذه هي فلسفة العدالة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن الواجب على حكام المسلمين، بل حكام البشرية كلها، أن يدرسوا هذا التاريخ، ويتعمقوا في دروس فلسفة العدالة العلوية، ويستفيدوا من هذا الثراء الإنساني الباهر، ويطبقوا ذلك في حياتهم السياسية، وتعاملهم مع من يختلف معهم.
فهل يمكن أن يصل حاكم معاصر، مسلما كان أو غير ذلك، إلى هذا الحد من العدالة التي تمنعه عن قتل (قاتله)؟، علما أن هذا الدرس متشعب الأهداف ومتعدد الغايات، وأهمها هو أن يكون الحاكم عادلا مع عدوّه، فما بالك مع بقية الناس من شعبه وأمته، كيف يجب أن يتعامل معهم، لاسيما في قضايا الحقوق والاختلاف في وجهات النظر وما شابه من أمور قد لا تلتقي فيها الآراء، ولا تذهب لتأييد الحاكم، وهو حق مكفول في الإسلام.
الذي فهمناه من درس الإمام علي (عليه السلام)، هو تطبيق العدالة بحذافيرها، وإجراء العدل حتى مع الخصوم، وعدم إلحاق الأذى بمن لا يؤذيك مطلقا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هذه هي فلسفة العدل والإنسانية.. إنها فلسفة الحكم والسياسة الإسلامية عند رئيس الدولة الإسلامية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، أترون أني أقتل رجلاً لم يصنع بي شيئا؟).
ختاما ونحن نعيش هذه الأيام فاجعة استشهاد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حريّ بنا جميعا، وبالساسة والرؤساء المسلمين وغيرهم، استيعاب درس العدالة هذا، وهضم فلسفة العدالة العلوية جيدا، لكي يصبح المسلمين في مأمن من الأزمات، ويعيش العالم بشكل أفضل، بعيدا عن الظلم والاستبداد والطغيان.