شبكة النبأ: ليس معيباً أن يواجه علماء النفس مصاعب في قراءة أسرار النفس البشرية وتفكيكها على نحو مقبول، لكن المعيب عندما يعجز هؤلاء عن بلوغ الفهم الدقيق لتلك المجاهِل التي تضجّ بها النفس، فالحقيقة العلمية في هذا المضمار تنبّه بقوة على أن الإنسان يواجه معضلة من طراز خاص، تتجسّد في طبيعة علاقته بنفسه، حيث يدور بينهما ما يشبه الصراع مستعرّ الأوار على مدار الساعة، يبدأ من لحظة الوعي ولا ينتهي إلاّ بعد أن يغمض الإنسان عينيه للمرة الأخيرة مودّعاً هذه الحياة إلى الدار الأخرى.
في الخط البياني لعمر الإنسان، ستكون هناك هزائم وغنائم في حلبة السجال القائمة بين الإنسان ونفسه، فتارة تجد الخط البياني للتفوّق على النفس مرتفعاً، وربما يبلغ مستويات عالية، وتارة أخرى قد يهبط هذا الخط البياني إلى درجة مخيفة، حينما تتحكّم النفس بحاملها فتجعل منه عبداً لها، يأتمر بأوامرها، وينفّذ كل رغباتها، حتى تلك التي تتجاوز الحدود المقبولة، لهذا ليس أمام الإنسان سوى أن يخوض معركة ترويض النفس بضراوة وذكاء وحكمة، إلى أن يبلغ شأو الانتصار المحقّق.
فالقضية أولاً وأخيراً تتعلّق بالكيفية التي تقوم عليها علاقة الفرد بنفسه، وهل يمكنه ترويض هذه النفس وكبح اندفاعاتها صوب الخطيئة، علماً أنّ عملية الترويض ممكنة ويمكن أن يبدأها الإنسان وفق تخطيط هادئ سليم ويبدأ بها كما تبدأ بذرة الخير بالنمو الناجح.
ثمّة قول دقيق متفائل لسماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يرد في كتاب من عبق المرجعية، حول هذه القضية يقول فيه سماحته: (من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة، وشهر رمضان مناسبة جدّاً للتغيير).
من الجميل حقّاً أن يكون شهر رمضان مناسبة رائعة لبدء عملية الترويض، حيث الأجواء مناسبة لخوض معركة رابحة ضد النفس، مع ضمان تحقيق فوز بدرجات عالية، وليس هنالك ضير إذا كان الفوز بدرجة أقل، فالمهم أن يبدأ الإنسان رحلة الترويض، وأن يحقّق تفوّقاً وتغييراً حتى لو كان بسيطاً.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (نحن، جميعاً، بحاجة إلى ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه يكون قد تغيّر ولو قليلاً).
ويضيف سماحته في هذا الجانب أيضاً: (ليخصّص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته ويخلو فيه، ليراجع ما قد مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى، وكيف تصرّف مع زوجته وأصدقائه وزملائه؟ وباختصار.. ليدقّق مع نفسه فيم صرف وقته؟ وليصمّم بعد ذلك على أن يزيد من حسناته ويقلّل من سيئاته).
شهر رمضان فرصة الاهتداء
إذاً هي عملية مواجهة بين الإنسان ونفسه، وكل مواجهة من هذا النوع الصعب، تحتاج إلى تهيئة واستحضار لعوامل خوض تلك المواجهة حتى يستكمل ذلك بالتفوّق المضمون، ولعلّ شهر رمضان هو الزمن الأنسب لضمان النجاح، بسبب تلك الأجواء الروحانية العامرة بكل ما هو جميل مناهض للشر ومقرّب للخير، ومما يتميز به هذا الشهر المبارك، أنّه يمثل الزمن الأنسب والأفضل من حيث استمالة نفس الإنسان صوب الاتزان والحكمة، ولا شكّ أن الله تعإلى جعل من هذا الشهر فرصة لكل من يخطّط ويرسم لخوض التفوّق على نفسه، فيما يمكن أن نسميها بـ(خطوة الترويض الكبرى). فهذه الخطوة إذا ما بادر الإنسان بها، فإنها ستكون بمثابة إعلان أهم مواجهة يخوضها على مدى العمر كله، وثمة عوامل مساعدة وضعها الله تعإلى في خدمة الإنسان إذا قرّر البدء برويض النفس، ومن أهم العوامل المساعدة، أن هذا الشهر هو الوقت المناسب جدّاً لمثل هذه الخطوة الأهم في حياة الإنسان.
لذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي قائلاً: (لقد خصّ الله عزّ وجلّ شهر رمضان الفضيل بالخصائص العظيمة دون سائر الشهور، لذا فهو فرصة مهيّأة من أجل الاهتداء والهداية).
وهناك تسلسل عملي في الخطوات، لا يجب إغفاله، فالمطلوب من الانسان أن يبدأ رحلة الصراع بما يطلق عليه بمحاسبة النفس، حيث يقف المرء إزاء نفسه في وقت محدّد من كل يوم، ويحاسبها على ما فعلت وعملت، ذلك أن هذا النوع من الحساب يتيح للمرء أن يتحكّم بنفسه وليس العكس، وهذا أولى ثمار الفوز الذي سيقطفها الإنسان في مواجهته المستمرة مع النفس، ومما يتوجب على الإنسان في هذه المرحلة، أن يواصل حسابه لنفسه بطريقة منتظمة طوال شهر رمضان.
حيث يرى سماحة المرجع الشيرازي أنه: (ينبغي التوجّه في شهر رمضان الكريم إلى محاسبة النفس كل يوم، ولو دقائق، يستعرض الشخص فيها ما قال وعمل، وما سكت عنه وترك، خلال يومه وليلته).
الإحساس بآلام الفقراء
وفي هذا الشهر الكريم، تسمو الروح، ويتمكّن الإنسان من ترويض نفسه، فتصبح مشاعره أرقى، وأحاسيسه أفضل، ويتعاظم شعوره بالآخرين، ويتعاطف معهم، وهذا جزء مهم من عملية الترويض التي تدفع بالنفس نحو الإيثار وتقديم الدعم النفسي والمادي لمن يحتاجه، حيث تكمن السعادة في العطاء والوقوف إلى جانب الآخرين، فلا خير في حياة الأنانية التي لا يرى فيها الإنسان سوى ذاته، ولا ينفّذ فيها سوى أوامر نفسه التي غالباً ما تأمره بما يصب في مصلحتها، أما ما ينفع الناس فهي منه براء.
لذا ينبغي أن يشعر الإنسان بآلام الآخرين، وحرمانهم، خصوصاً أنّ شهر رمضان يمنحه القدرة على خلق مثل هذه المشاعر والأحاسيس الإنسانية التي ترقى إلى مصاف المشاعر التي تفرزها حالة المواجهة مع النفس، حيث يقرّر الإنسان أن يجعل من شهر رمضان توقيتاً مناسباً للبدء بخوض هذه المعركة، حتى يصبح أكثر تفوّقاً على نفسه، ويحصل على المشاعر التي تجعل منه إنساناً متفوّقاً على نفسه بمساعدة المشاعر الراقية التي يمنحه إيّاها شهر رمضان بجمله ولطفه.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب: (إنّ شهر رمضان المبارك يلطّف المشاعر والأحاسيس، بما جعل فيه من البرامج، وخاصة الصيام، الذي يجعل الإنسان يشعر بآلام الفقر ويعيش، ولو بنسبة، مآسي المحرومين).
وعندما يتحقّق المكسب الأهم في إطار المواجهة بين الإنسان ونفسه، سوف يكون أكثر قدرة على إبداء التعاون مع الآخرين، ممن هم في حاجة إلى المعاونة المادية أو المعنوية، ولا شكّ أنّ النجاح في خطوة الترويض الكبرى، سوف تكون هناك خطوات أخرى أهم وأكبر، منها وربما أكثرها نجاحاً، أن الإنسان يعتاد على الاهتمام بالآخرين، ويساعد في تذليل المشاكل التي تواجههم، ويكون معنيّاً بكل قضايا الفقر والحرمان ويسعى للمشاركة في القضاء عليها بطريقة مسؤولة ومدروسة، من خلال تحقيق النجاح في ترويض النفس، وهذا بدوره يجعل من الإنسان الذي ينجح في ترويض نفسه، قادراً على النجاح في تقليل الفقر والفقراء، وقادراً على أن يسهم بطريقة فعّالة في تقليل الحرمان والمحرومين في العالم أجمع.
كما يدعو سماحة المرجع الشيرازي إلى ذلك قائلاً: (ينبغي على المؤمنين الكرام الاهتمام أكثر من ذي قبل بالفقراء والمحرومين في كل بلاد العالم، وخاصة في بلدهم، فقد استشرى الحرمان والفقر في كثير من البلاد من جرّاء المناهج الوضعية الناقصة).