شبكة النبأ: من الأعمدة الأكثر قوة التي ينهض عليها كيان الأمة ووجودها وتطورها، الأخلاق، فإذ تم نشر وتثبيت قواعد الأخلاق في أنشطة الإنسان المختلفة، الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، فإن ضمان تقدمها وتطورها ومواكبتها للعلم الحديث ونظرياته وتطبيقها بشكل صحيح، سوف يكون مضمونا ومتحققاً بقوة الأخلاق وتأثيرها القوي، فالاقتصاد لا يمكن أن ينحرف ويفشل إذا سادت فيه التعاملات الأخلاقية، والسياسة ستنجح نجاحا كبيرة بتغلغل الأخلاق فيها ضوابط إيقاعها، أما إذا تحكمت الأخلاق في العلاقات الاجتماعية فإن الجميع سيكون في مأمن من الانحراف وينجو من الغرق في المجهول.
ولكن هنالك مشكلة كأداء تقف في طريق الأخلاق ونشرها في شرائح ومقاصل المجتمع، أما السبب فهو صعوبة امتلاك الخصال والملكات الأخلاقية من قبل الفرد والجماعة، فهذا الأمر يتطلب جهودا جبارة للوصول إليه والفوز به، وقد يبقى الإنسان الباحث عن الأخلاق في حالة ضياع كما يتيه البشر في المجهول بسبب عمق المسائل الأخلاقية والبطء في تحصيلها، خصوصا إذا لم يكن هناك تخطيط علمي نظري تطبيقي للوصول إلى الأخلاق وتحويلها من خصلة أو ميزة مكتسبة إلى ملَكة تُغرَس في كينونة الإنسان وتصبح جزءاً لا يتجزأ منه.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتاب (من عبق المرجعية):
إن (عمق المسائل الأخلاقية وعدم الوصول السريع إلى نتائجها يجعل المرء يشعر وكأنه غارق في المجهول).
إذاً ينبغي التمهيد النفسي لامتلاك الأخلاق حتى ينجو من الغرق في المجهول، ومثلما يخطط الإنسان لملء بطنه ويده وبيته، عليه أن يخطط بنفس الحرص والجدية والمثابرة لملء روحه بالغذاء الذي تحتاجه، وغذاء الروح الأخلاق والعلم والقيم العظيمة، ولا ينبغي أن يتكاسل البشر في قضية غذاء الروح الأخلاقي بالدرجة الأولى، لأنه الطريق إلى تهيئة الروح لدورها القيادي في جعل الإنسان نموذجيا في تفكيره وسلوكه، وإذا تطرقنا إلى العراقيين فإننا سنلاحظ أنهم في هذه المرحلة الحرجة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، هم أحوج المجتمعات إلى دور الأخلاق في صقل الروح ورعايتها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي مؤكدا على أهمية رعاية الروح وتطويرها:
(لنخطّط لأرواحنا قبل أن نخطّط لبطوننا وأيدينا وبيوتنا وأهلينا)، كي نتحاشى الغرق في دوّامة المجهول، ولأنّ هناك من يعتقد بأن الأخلاق الإسلامية تنحصر في إطار (المستحبات والمكروهات) فقط، فإن سماحة المرجع الشيرازي يؤكد على دخول الواجبات والمحرمات في الأطر الأخلاقية أيضا.
حيث يقول سماحته منبّهاً:
(علينا بعلم الأخلاق... فليست أخلاق الإسلام وآدابه كلّها مستحبّات ومكروهات فقط، بل إن فيها الواجبات والمحرّمات أيضاً).
علاقة الفرد بالمجتمع
إن العلاقة بين الفرد والمجتمع تبقى من أهم العلاقات الجدلية المتداخلة في بعضها، فلا الفرد قادر على اعتزال المجتمع، ولا ينبغي للأخير أن يهمل الفرد أو يتعالى عليه كونه أكبر حجما وقدرات ومؤهلات وموارد من الفرد، فالحقيقة أن أساس المجتمع واللبنة الأصغر لتكوينه هو الفرد، ومن دون الأفراد لا يمكن أن يتكون أي مجتمع في الوجود، ولكن لابد من تنبيه الفرد على أنه مطالب بتحسين علاقته بالمجتمع، والالتزام بما يظهره المجتمع من قواعد وضوابط، وأفضل أسلوب للفرد في هذا الجانب أن يتحلى بالأخلاق الإسلامية والالتزام في التعامل مع المجتمع.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع:
(المطلوب من كل واحد منّا تقوية العلاقة مع المجتمع، وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالتواضع والوقار والبشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم).
فقد يكون الفرد مصابا بالتضخّم الذاتي، حينها سوف يكون مصابا بما يسمّى بـ (العزة بالاثم)، أي أنه يتعالى على الآخر، حتى لو كان عارفا بخطأ شخصه تجاه الآخرين، وهذا بالطبع يجافي الأخلاق السامية ويتناقض معها، لذلك يدعو سماحة المرجع الشيرازي الفرد إلى المبادرة في تصحيح الأخطاء من خلال التقرّب من الآخر والاعتذار له، بل يطالب سماحته الأفراد إلى قبول حتى ما لا يروق لهم، إذا كان يكمن في صلاح النفس والآخر.
فيقول سماحته في هذا الشأن:
(حاول أن تخالف هواك في كل الأمور، فإن كنت لا ترغب في أمر رغم اعتقادك بصوابه، حاول أن تخضع له بكل رحابة صدر). ومثل هذا السلوك يحتاج إلى إرادة قوية وروح مستعدة للتنازل، وهذا لن يتحقق إذا كانت الأخلاق بعيدة عن ذات الإنسان، أو أنه يعاني نقصا فيها، لذلك حتى يكون الفرد قادرا على إجبار نفسه والسيطرة عليها، لابد أن يكون ساعيا لامتلاك الأخلاق بالجد والمثابرة والإيمان حتى يبلغ الإنسان مرتبة عالية من الأخلاق تؤهله لتحويلها من الاكتساب إلى الملَكة، وهذا بالضبط ما يحتاجه العراقيون اليوم في ظل التدني في منظومة الأخلاق وتداعياته.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(تحتاج الأخلاق إلى التفرّغ والجدّ والمثابرة من أجل بلوغ المراتب العالية فيها).
الوصول إلى مراتب الأخلاق العليا
إن نجاح الفرد في رفع مستوى الأخلاق من السلوك الآلي المعتاد، إلى درجة الملَكة أمر ممكن الحدوث، بالأسباب والعوامل المساعِدة التي تم ذكرها فيما سبق، وحين يتحقق ذلك سوف يشعر الإنسان بلذّة امتلاك القواعد الأخلاقية التي ترفعه من السلوك الآلي إلى جعل الأخلاق من ضمن الملَكات التي يمكن أن يحصل ‘ليها الإنسان بالمثابرة والجد، ولأن الهزة الكبرى التي حدثت في حياة العراقيين غيّرت أوضاعهم بصورة كلّية، حيث تغير الأوضاع رأسا على عقب، واستدارت عقارب العلاقات الاجتماعية والسياسة وحتى الاقتصادية 360 درجة، فإن ذلك أحدث تغييرا كليا في البنية الاجتماعية، لهذا يحتاج العراقيون لمعالجة مشكلات إلى ملَكة الأخلاق.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي أن (الأخلاق والفضائل تصبح ملكات لدى الإنسان، عندها يشعر بلذّة الأخلاق والوصول إلى مراتبها العالية، وعندها يعرف قيمة ترويض النفس ومخالفة الشهوات).
ويمكن للإنسان أن يتخلص بهذه الطريق من محاصرة المجهول له، فهناك أساليب وتخطيط وعمل لتحصيل الأخلاق وجعلها ملَكة لدى الإنسان، ومن هذه الأساليب محاربة الفرد لنفسه، وتحجيمها، وعدم منحها الدور القيادي الحاسم في سلوكه وتفكيره وأنشطته المختلفة، لذلك على الإنسان أن يخالف نفسه ولا يجاريها في تريد وتفرض عليه، وإذا ما تحقّق له ذلك، سوف يكون أكثر قدرة على حب الخير للغير.
وهذا ما أكّده سماحة المرجع الشيرازي في قوله:
(لا تصبح الأخلاق ملكة عند الشخص إلاّ بعد أن يحارب نفسه ويخالفها ثم يخالفها ويخالفها حتى تنمو عنده ملكة حبّ الخير في كل أبعاده).
وهكذا يمكن للعراقيين أفراد وجماعات، أن يغيّروا حياتهم عبر الوصول إلى تحويل الأخلاق إلى ملكة وليس عملا آليا معتادا، وإذا ما باتت الأخلاق ملَكة، فإنها تدخل في جميع تفاصيل حياة المجتمع، فتكون الأخلاق هي المعيار السائد والمتحكم بالسياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والاجتماع وسوى ذلك من مجالات حياتية أخرى.
وبهذه الطريقة يتحول العراقيون، أو أي مجتمع ثانٍ ينتهج هذا التخطيط وهذا الأسلوب، إلى مجتمع تحكمه الأخلاق كملَكة قادرة على أن تمنح الإنسان إرادة عظيمة في مقاومة الانحراف والفساد ومكافحة جميع الظواهر المؤذية للفرد والمجتمع، وعند بلوغ هذه الدرجة من الأخلاق وحب الخير للآخر، سوف يشعر الإنسان بلذّتها، وبالنتائج الكبيرة التي تقود الإنسان ومجتمعه إلى أعلى المراتب والدرجات.
يختم سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (إذا حصل الإنسان على ملكة حبّ الخير في كل أبعاده، شعر باللذّة، وبدأ يلمس نتيجة أتعابه في مجال الأخلاق والفضائل).