شبكة النبأ: لكل منهج فكري أسلوبه في التعامل التطبيقي، فإذا حدث خللٌ بين الفكر والتطبيق، سوف تتشوه المضامين النظرية لذلك المنهج، وسوف تنعكس على هذا التباين بين الفكر والتطبيق الكثير من العيوب التي تعود على الجميع بالخسائر وقد يكون بعضها جسيما، فالحكومة التي تُنسب نفسها إلى المنهج الإسلامي في إدارة الحكم، ينبغي أن يتطابق منهجها في إدارة الحكم مع منهج الإسلام في هذا المجال.
فهناك ركائز ومقومات ثابتة يرتكز عليها الحكم في الإسلام، وأي تباين واختلاف بين نظرية المنهج الإسلامي ومنهج الحكومات التي تدّعي الانتساب له، سوف يعود على الحكام والحكومات بالسمعة السيّئة، ومن مقومات ومبادئ الحكم عند الإسلام أن يعتمد الشورى، وأن يكفل حرية الرأي، وأن يتوخى العدالة بأرقى صورها ومراتبها، وأن يتحاشى الإكراه بدرجة تامة، تبعاً للنص القرآني الكريم:
(لا إكراه في الدين).
أما ضمان حرية الرأي المعارض فهو من أهم مقومات وركائز الحكم في الإسلام، ومن باب أولى أن تراعي الحكومة الإسلامية هذا المبدأ وتلتزم به، وتحرص أشد الحرص على السماح بالرأي الآخر حتى لو كان يتعلق بشخص الحاكم نفسه، أو يحدد بعض الأخطاء المنهجية لدى حكومته، ففي عهد الإمام علي صلوات الله عليه كان هناك من يعلن صراحة وعلنا وبحضور القائد الأعلى للدولة معارضته للحكم، وكان الإمام صلوات الله عليه يتقبّل الرأي المعارض بصدر رحب ويستجيب ويناقش، ولا يكتم الصوت المضاد، ولا يصادر حرية الرأي ولا يزج قائله في السجن أو يقصيه.
أليس هذا السلوك العظيم مدعاة للتطبيق من لدن حكام المسلمين وحكوماتهم الحالية؟ ولماذا يرفضون الرأي الآخر ويقصونه ويحاربونه، بل لماذا يخشونه أصلا وهو رأي ينبغي أن يكون محميّا من الحاكم الإسلامي وحكومته؟.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في الكتاب الموسوم (من عبق المرجعية):
(أسلوب الإسلام, لا ضغط فيه ولا إكراه).
ولا مبالغة في الرأي الذي يذهب إلى منح الرأي صفة القداسة في الإسلام، لأن الله تعالى بذاته ونظامه الإلهي جعل من حرية الرأي مقدسة، وطالما أن القدسية درجات، فقد جعل تعالى والإسلام أيضا من (حرية الرأي) أكثر قدسية حتى من الشهادتين في الإسلام، فإذا كانت هذه هي مكانة وقيمة (الرأي) عند الله تعالي، وعند الإسلام، فلماذا من يدّعي الانتساب إلى الإسلام يلغي حرية الرأي ويعتقل أصحابها ويرمي بهم في السجون، أليس من الأجدر بالحكومات الإسلامية أن تستهدي بالذات الإلهية وبتعاليم الإسلام الذي تنتمي له تلك الحكومات، فتعمل بنفس التعاليم والمبادئ؟.
يذكّر سماحة المرجع الشيرازي: بأن (حريّة الرأي في نظام الله وقانون الإسلام أكثر تقديساً حتى من الشهادتين، فالإسلام يريد أن يجعل الناس أحراراً).
الحرية في الإسلام لا نظير لها
مما تقدم من كلام، ومن الشواهد التاريخية في الفضاء السياسي، فإن أية حكومة تعلن أنها تنتهج المنهج الإسلامي في إدارة الحكم، لابد أن تصون مبادئ الحكم الإسلامي، وفي المقدمة من تلك المبادئ (حرية الرأي)، وعد الإكراه، والتخلي منذ لحظة استلام الحكم عن أسلوب القمع والاعتقال والتعذيب والتصفية والاختيال، فهي لا تلتقي من قريب أو بعيد مع المبادئ والضوابط التي أقرّها الإسلام في التعامل بالسلطة ومن خلالها مع الأمة ومع المعارضين للحاكم الأعلى وحكومته.
وإننا هنا نتساءل، ما هو التوصيف الذي ينطبق على الحاكم الذي يُنسب نفسه وحكومته وحكمه إلى الإسلام وهو لا يطبق مبادئ ومنهج الإسلام في التعامل مع الرأي الآخر وحرية الرأي؟؟، تُرى هل الحاكم الإسلامي الذي يتعامل مع الرأي بمنهج الاعتقال والإكراه والتحجيم، يستجيب إلى ما وضعه الإسلام من شروط على الحاكم الإسلامي وحكومته؟، بالطبع الإجابة معروفة، لذلك لابد للحكومة الإسلامية أن تكون حامية للرأي وليست قامعة له تطبيقا للمنهج الإلهي الإسلامي.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال:
لابد أن تكون (الحكومة الإسلامية حكومة استشارية).
لهذا ينبغي أن يعرف الحكام المسلمون وأن يؤمنوا بأن الحريّات التي يضمنها الإسلام للبشر لا نجد لها ما يشابهها في العالم أجمع، لا توجد مغالاة أو مبالغة في القول حين نتتبع تأريخ الإسلام، وحين نهضم مبادئه ومضامينه بصورة جادة وعميقة، سنعرف بأننا نقف بإزاء منهج يحمي الحريات ويكفلها ويأمر الجميع بحمايتها واحترامها، وأولهم الحكام وحكوماتهم.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أن: (الحريّات الموجودة في الإسلام لا نظير لها في التاريخ).
ومن الأهمية بمكان أن يقدّر الحاكم الإسلامي هذه الحرية، وأن يعطيها حقها من الاهتمام والالتزام فهي نعمة عظيمة أهداها الله إلى البشر، وما عليهم سوى استثمار بأفضل وجه، وطالما أن الحرية وحمايتها من ضمن أهم واجبات الحاكم، لذا عليه أن يحميها ويجعلها في متناول الأمة، لا أن يفعل العكس ويكمم الأفواه ظنّا منه أن هذا الأسلوب يحمي سلطته، بل العكس هو الصحيح، فكلما اشتدت قبضة الحاكم على الحكم تضاعف فرص زواله وفقدانه لتلك السلطة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (الحريّة نعمة إلهيّة عظمى ينبغي اغتنامها على أحسن وجه).
حكومات الشعارات الفارغة
إن منهج الإسلام يتعارض بصورة كليّة مع الأنانية والتمسك بالحكم من دون حصوله على الشرعية من الأمة، لهذا سُمح للرأي الآخر بتصويب زلات الحاكم وتنبيهه على كبواته، وتحذيره في حال إصراره على منهج الاستبداد المناقض لتعاليم الاسلام خصوصا إذا كان الحاكم متشبثا بالإسلام ويردد بمناسبة وبدونها بانتمائه الاسلامي، فهذا يلزمه بالتطبيق الصحيح للمنهج الإسلامي المعارض للقمع في إدارة السلطة، لكن للأسف الشديد واقع الحكومات الإسلامية يقول غير ذلك.
فهناك من بين هذه الحكومات والحكام ينسى نفسه ويتصرف بعيدا عمّا يريده الإسلام، فيناقض بنفسه بين ما يريده المنهج الاسلامي وبين ما يريده هو بشخصه كحاكم يرى نفسه الأعلى والأقوى، فيذهب إلى الطغيان وتوجيه الأجهزة القمعية باعتقال أصحاب الرأي الحر الذي حماه الإسلام بمبادئه وتعاليمه، فينمّ مثل هذا الإجراء القمعي بمخالفة صريحة للمنهج الإسلامي في حماية الرأي وعدم إكراه الآخرين في التوافق مع آراء السلطة والكف عن تأشير أخطائها، فيكون هناك تناقض واضح بين ادعاء الحاكم بالانتماء إلى المنهج الإسلامي ومخالفته في نفس الوقت.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في الكتاب نفسه:
(تطبيق الإسلام بصورة ناقصة يعطي صورة مشوّهة عن الإسلام، وهذا هو حال بعض الدول الإسلامية اليوم المتبجّحة بتطبيق الإسلام).
ومع ذلك يبقى بعض الحكام الإسلاميون متمسكون بانتمائهم هذا، فيطلقون الأقوال والوعود والشعارات التي تقترب وتحاكي تعاليم الإسلام وتجاري ما يوجبه على الحاكم، فيطلق الوعود للمجتمع بالرفاه والحرية وحماية الحقوق، لكن الواقع يعطينا غير ذلك تماما، وهنا يكمن سرّ المشاكل التي تعج بها الدول الإسلامية، فكلها تنطلق من هذا التناقض بين ما يعلنه الحاكم (قولا) وما يفعله تطبيقا، وهذا التناقض يمكن أن نلمسه على نحو يومي لدى بعض الحكومات الإسلامية والحكام الذين نصبّوا أنفسهم في عروشهم بأوامر قاطعة ترفض أي رأي آخر وتصادره وتلقي بأصحابه في السجون والمعتقلات.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي: بأن (السبب فيما نراه في البلاد الإسلامية اليوم من نواقص، ومشاكل، يعود إلى أنها إسلامية بالاسم فقط، والشعار فحسب، وليس أكثر من ذلك).