العراق بلد يكاد يتميّز عن غيره بأمور تنحصر به، فهو أرض خيرات وثروات طالما كانت محطّ أطماع الاُمم الاُخرى، وهو مهبط عدد من الأنبياء، ناهيك عن وجود مراقد أهل البيت صلوات الله عليهم المقدّسة التي تنتشر في ربوع العراق وتدرّ عليه أموالاً إضافية وموقعاً متميّزاً أيضاَ، لهذا من الملاحظ ان تاريخ العراق لم يخلُ من الأزمات.
العراق وتأريخ الأزمات
إن تنوّع الشعب العراقي، دينياً وعرقياً ومذهبياً، يجعله ساحة للتناقضات، ناهيك عن الغنى الذي يتمتع به من حيث الثراء، لذا بقي العراق مأزّماً عبر فترات طويلة ومتعاقبة، حتى انه لم يهنأ بحكومة جيدة منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة في عام 1921، والسبب أن الحكومات ورؤوسها تأتي لتأخذ فقط، ولا تعطي شيئاً، حالها حال المستعمر، لأنها غالباً ما تربط مصيرها بإرادة الاستعمار.
العراق الجديد ينطوي على أزمات جديدة وقديمة أيضاً، وهناك مسؤولية كبيرة على المسلمين تجاه هذا البلد، لكي يعيش باستقرار وهناء، كونه بلد مسلم، ويحتضن مراقد دينية مقدّسة كثيرة، في المقدمة منها مراقد أئمتنا صلوات الله عليهم, لهذا يؤكّد سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في محاضرته القيّمة الموسومة بـ(محنة العراق) قائلاً: (في حديث شريف مروي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله أنه قال: - كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته- فالمسؤولية هي تشريعٌ وحكمٌ وإحساس، كما يُفهم من هذا الحديث النبوي الشريف؛ فأما كون المسؤولية تشريعاً وحكماً، فهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وأما كونها إحساساً فهذا يرتبط بنا نحن؛ فبأي قدر يحسُّ كل واحد منّا بهذا التشريع وبهذا الحكم؟).
إذن هي مسؤولية الجميع، لكن هناك فرق شاسع بين مسؤولية الفرد العادي، والفرد الذي يتربّع على منصب مهم وكبير، فكلما زادت قيمة المنصب كلما زادت مسؤوليته تجاه الناس والبلد معاً، هذا هو لبّ الفارق بين المسؤوليتين، ولا نعني هنا المسؤولية الوظيفية الرسمية فقط، فرجل الدين الكبير تتضاعف مسؤولياته أيضاً، والمثقّف والمصلح والمفكّر المهم أيضاً تتضاعف مسؤولياته، والجميع يعلم بالظروف المعقّدة التي يمرّ بها البلد حالياً، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الخصوص، في المحاضرة نفسها: (هذه المسؤولية، هي مسؤولية عامة الناس، ولكن في الوقت الحالي هي مسؤولية خاصة، وقسمٌ منها مسؤولية عامة بالنسبة لعراق اليوم والمستقبل.. فقد ابتلي العراق اليوم – رجالاً ونسـاءً وشيباً و شباباً – بأزمةٍ مزدوجة؛ فهو منذ خمسين عاماً ينتقل من أزمةٍ إلى أزمة، ومن أمر شديد إلى أمر أشد، ومن صعب إلى أصعب.. وفي الوقت الحاضر تضاعفت هذه الأزمة بالنسبة إلى كل فردٍ عراقي.. والجميع يعلم سواءٌ عن طريق وسائل الإعلام العامة، أو طرقهم الخاصة، أن العراق يمر بأوضاع معقّدة جداً، لا يعلم مداها ومنتهاها إلاّ الله).
نهاية نظام القمع وسلبياته
لقد تخلّص العراق من نظام الاستبداد، ونظام الطاغية وحكومته القمعية الظالمة، وكل العراقيين يعرفون ما جرى في السجون المظلمة، وطرق التعذيب المتوحّشة التي تعرّض لها أبناء العراق، لاسيما الشيعة والأكراد وغيرهم، وقد وردت قصص مؤثّرة بل مرعبة جرت على المعتقلين آنذاك، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (مضى أربعون عاماً ونيف، وهذه الأزمة مستمرة. هناك الكتب التي ألّفت، والتقارير التي نُشرت، والأشخاص الكثيرون –رجالاً ونساءً – الذين تحرّروا من معتقلات النظام الديكتاتوري، فتحدّثوا عن المصائب العظيمة التي لاقوها في الأقبية والطوامير المرعبة، وأحياناً تخرج امرأة من المعتقل وتكتب، بعد مرور عدّة سنوات، قصصاً عما جرى لها ولنساء أخريات على أيدي جلاوزة النظام الغاشم. في الواقع أنها قصص فضيعة ومهولة).
ونظراً لعدم قبول الوضع العراقي الجديد، كونه يؤثّر على الأنظمة السياسية الاُخرى في المنطقة، ناهيك عن طبيعة الحسابات الإقليمية والدولية وتداخلها مع الوضع العراقي، فقد تضاعفت أزمات العراق وازداد وضع الشعب سوءاً، كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال:
(لقد تضاعفت الآن مأساة الشعب العراقي، وفي الحقيقة أن هذه المأساة لها نظير في تاريخ الأئمة المعصومين سلام الله عليهم ؛ ولذا يجب علينا أن نأخذ الدرس من أئمتنا سلام الله عليهم، ونتعلّم منهم، ماذا علينا أن نفعل؟ وما هو طريق الخلاص؟).
خطر الجهل بالثقافة الإسلامية
ومما يزيد الطين بلّه، حالة الجهل بالثقافة الإسلامية، حيث تعيش نسبة كبيرة من الشعب في حالة عدم فهم ومعرفة بالثقافة الإسلامية، مما يزيد الأمر سوءاً وتدهوراً، فالدين هو الحصانة الأكيدة ضد الأخطاء والانتهاكات المتنوّعة في بلد غني مثل العراق يريد أن يبني نفسه من جديد بصورة سليمة، لاسيما وان الفوضى لم تترك مجالاً إلاّ ودخلت فيه، لذا لابد من الوعي لتجنّب الأخطاء والانحرافات، يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(إن ما نسبته 40%، أي أكثر من (10) ملايين إنسان، من مجمل سكان العراق الذين يبلغ عددهم – حسبما يقال – أكثر من (25) مليون نسمة، هم من الفتية والشباب، جاءوا إلى الدنيا وعاشوا بعيدين عن الثقافة الإسلامية الأصيلة، ولا يعلمون عنها شيئاً، ويريدون أن يتعلموا ويفهموا حقيقة الدين.. فلنا أن نعرف، إذا ما تهيّأت الأرضية اللازمة، كم يحتاجون من الكتب والأقراص الممغنطة وألاشرطة الدينية؟! وكم يحتاجون من المربّين والمبلّغين ومن المدارس الدينية والحوزات العلمية؟ لقد سبقنا الآخر في التفكير بهذا الأمر؛ إذ قرأت قبل أيام منشوراً، جاء فيه أن الغربيين يخططون لبناء (25) ألف مدرسة، وتوزيعها على سائر مناطق العراق، فلنقدر كم هو عدد التلاميذ الذين ستتولى تربيتهم كل واحدة من تلك المدارس؟!! فإذا ما قدّرنا أن المعدل العام هو مئتا طالب، فالناتج الإجمالي لذلك العدد من المدارس، سيكون (5) ملايين طالباً، جلّهم طبعاً من الشيعة، وبالطبع، فإن الغربيين لديهم من الإمكانات المادية ما يجعلهم قادرين على تنفيذ مثل هذه البرامج).
من هم أولى ببناء العراق
ولكن أهل البلد والمسلمين أولى ببناء العراق وتثقيف شعبه، لذا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص قائلاً: (من هم الأولى بإعادة إعمار العراق؟ لا يتصوّر أحد منّا أننا لسنا قادرين أن نفعل شيئاً حيال مستقبل العراق. صحيح أن أولئك عبارة عن حكومات لديها إمكانات وأموال هائلة، بيد أننا لدينا شيئاً يفتقدون له، ألا وهم أهل البيت سلام الله عليهم. إذن فنحن نتحمّل مسؤولية خطيرة، وعلينا أن نعتقد بأنها مسؤوليتنا جميعاً وبلا استثناء؛ فلو مرض لأحدنا طفل – مثلاً – فستراه يترك عمله، ويدع برامجه ومشاريعه، ويضحّي بوقته وراحته ليصحبه إلى الطبيب، وكذلك يفعل إذا ما واجه ابنه مشكلة معيّنة في المدرسة، أو احتاج شيئاً ما؛ إذ يبذل ما بوسعه لتسوية تلك المشكلة، أو رفع هذه الحاجة، فِلَم يفعل ذلك؟ لأنه يحسّ بمسؤولية إزاء أولاده.. فلنسع لأن تأخذ المسؤولية إزاء العراق موقعها في نفوسنا).
إذن ثمة حاجة كبيرة بل ومصيرية لقضية الوعي والتثقيف، لاسيما أن هناك حالة من التعطّش للمعرفة والتعلّم، وهي مسؤولية جماعية، كما انها لا تتعلّق بالجهد الرسمي حصراً، وإن كانت الدولة هي الجهة الأولى المعنية بالتثقيف وزيادة وعي الناس، ولكن يجب أن يكون هناك دور واضح للجانب الأهلي والمؤسسات الخيرية وما شابه، لذا يؤكّد سماحة المرجع الشيرازي قائلاً:
(هناك في العراق، حاجة ماسة إلى برامج تثقيفية وتوجيهية، فكما ينقل أن الشباب العراقي لديهم تعطّش للدين ولكنهم يفتقرون لمن يقوم بتعليمهم وتربيتهم).