شبكة النبأ: ثمة إشكالية يطرحها مفهوم العدالة والأمن في الدول التي لم تستقرّ فيها أنظمة الحكم، لأسباب كثيرة منها سياسية واقتصادية وثقافية وسواها، تلك الإشكالية تتعلّق بكيفية تعامل الحكومة مع هذا المفهوم، وطبيعة رؤية الحاكم الأعلى ومدى فهمه للأمن والعدالة، وسبل تحقيقها في المجتمع.
هناك حكّام لا يعرفون من الحكم سوى تحقيق الحماية القصوى للعرش، وهناك من الحكّام الذين يسعون بكل قوّة إلى تضخيم الذات، والسعي إلى السيطرة على مقدّرات الدولة وثرواتها وتوظيفها لصالح رغبات فردية جامحة، تنطلق من قاعدة نفسية مريضة، قوامها الاستئثار والاستحواذ ومراعاة النفس والرغبة الذاتية على حساب مصالح المجتمع ككل، وهنا تغيب العدالة، ويتزعزع الأمن بسبب حالات الغبن التي تطال الطبقة الساحقة من الشعب، وغالباً ما تكون الطبقة الفقيرة، الأمر الذي يجعل من إشكالية العدالة والأمن سبباً رئيسياً للصراع بين الحاكم والمحكوم.
لهذا يرى سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في الكتاب الموسوم بـ(من عبق المرجعية) في: (مواصفات الحاكم الإسلامي أنه رجل مؤمن، متفقّه في الدين تماماً، يعرف شؤون الدنيا، ويتحلّى بالعدالة التامة، فكلما توفّرت في الإنسان هذه الشروط، ورضى به أكثر الناس صار حاكماً، واذا فقد أحد هذه الشروط عزل عن منصبه فوراً).
الحاكم العادل والمعرفة
يعاني بعض الحكّام من قلة المعرفة، وفي الوقت نفسه يتعاظم لديهم التضخّم الذاتي، لذلك ترى انهم من جهة العلم وسعة الاطلاع يعانون من نقص واضح، وفي الوقت نفسه، يجتاحهم مرض التعالي والكبر والغرور، بسبب انعكاسات السلطة وتأثيرها عليهم، ومن الإشكاليات الخطيرة التي تعاني منها الدول الإسلامية، أن حكّامها أو بعضهم يعاني من قلّة المعرفة والاطلاع على مفهومي العدالة والأمن، والربط بينهما، ومن ثم استخلاص النتائج المهمة التي تترتب على هذا الفهم، ولا شكّ أن تبعات عدم معرفة الحاكم تنعكس على الإجراءات الفعلية التي تنطوي عليها قيادته، فيكون المجتمع والمواطن هو ضحيّة هذا الجهل المعرفي بأهمية العدالة والأمن، وأهمية أن يتّصف ويتّسم الحاكم بالعدل.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي عن الحاكم العادل وأهمية ذلك في ترسيخ قواعد السلم والأمن في المجتمع: المقياس لاختيار الحاكم المناسب (هو الفقه والعدالة في أيّ شخص توفّرا، من أيّة قومية كان، وبأيّ لغة كان يتكلّم، وأيّاً كان لونه ومولده. فلا الشخص هو المقياس، ولا القومية، ولا الإقليمية، ولا اللغة، ولا اللون، ولا نحو ذلك).
ولا شكّ ان الناس يفضّلون الحاكم الذي يقدّم لهم نتائج ملموسة في تطوير حياتهم، ونقلهم من حالات التردّي والفقر والحرمان، إلى حياة الرفاهية والسعادة والسلام، ولن يتحقّق هذا من دون معرفة الحاكم لأهمية العدل والأمن في ترسيخ السلم الأهلي، فضلاً عن ان العدل لا يمكن أن يسود إذا لم يكن الحاكم نفسه عادلاً في إجراءاته التي تتعلّق بحياة المجتمع ككل.
ومن الواضح ان العدل سوف ينعكس على الحياة، فتكون أكثر تطوّراً وازدهاراً في ظل المعرفة النظرية والتطبيقية لمفهوم العدالة والأمن من لدنّ الحاكم العادل، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بالكتاب المذكور نفسه: (تزدهر الحياة بجميع أبعادها وجوانبها في ظل النظام العادل).
الإنسان وطبيعة الطغيان
من الأسباب التي تجعل الإنسان جاهلاً بأهمية ثنائية العدالة والأمن، حالة الطغيان المزروعة في النفس البشرية، والتي ستنمو وتظهر وتنمو إذا وجدت الأجواء المناسبة لذلك، وغياب قوّة الردع الذاتي لها، بمعنى حتى الإنسان الصالح إذا لم يراقب حالة الطغيان في ذاته، فإنه معرّض إلى أن يكون طاغية، لذلك يحتاج الأمر أن يراقب الإنسان لاسيما الحاكم والمسؤول، يراقب نفسه بصورة مستمرة ودائمة، لكي يكبح الطغيان في نفسه قبل أن يستفحل ويتحوّل إلى ظاهرة ذاتية لا يستطيع الفكاك منها، كما يخبرنا تأريخ الحكّام الطغاة، الذين يبدؤون حياتهم السياسية ثوّاراً معارضين لأنظمة حكم متجبرة، وعندما يصلون إلى الحكم يتحوّلون هم أنفسهم إلى الطغيان، لأنهم أهملوا مراقبة أنفسهم، فضلاً عن سحر السلطة الذي يفشل بعضهم في مقارعته والحدّ من تأثيره عليهم.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إنّ الحاكم الذي يتّخذ من هواه إلهاً، فإنه تهمّه ذاته قبل كل شيء، ولا يكترث إن عصى الله في هذا السبيل، فالمهم عنده توفير ذاته، وتلبية رغباتها وتحقيق احترامها). وهكذا فإن كل إنسان استناداً إلى تركيبة النفس البشرية، يكون معرّضاً للطغيان بصورة دائمة، لذا يستوجب هذا الأمر حذراً مضاعفاً ومراقبة دائمة للذات وأهواء النفس، لأن الطغيان هو الآفة التي تقضي على العدل، وبالتالي سيكون هذا الأمر سبباً كافياً للمجتمع للشعور بالغبن، والتجاوز على الحقوق، وتفضيل المقرّبين للحاكم والسلطة على غيرهم، وكل هذا يحدث بسبب وقوع الحاكم والمسؤول في فخ الطغيان، وهذه كلها أسباب كافية لزعزعة الأمن وتهديد السلم الأهلي، وبالتالي فقدان العدل والأمن في وقت واحد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الخصوص بالكتاب نفسه: إنّ (الإنسان كائناً من كان يطغى، أو في معرض الطغيان، فيجب ألاّ يستبدّ أي شخص بإدارة البلاد، ويجب ألاّ ينفرد أيّ إنسان بالحكم). والمفارقة ان الحكّام الطغاة غالباً ما يبعدون عنهم صفة الطغيان، وينكرون ذلك مع أن أعمالهم تشي بأنهم تحوّلوا إلى طغاة بالفعل، ولكنهم يحتمون بالأقوال الجميلة والشعارات التي تروّج لها ماكنة الإعلام ولكنها بعيدة عن الحقيقة، فتصبح إشكالية مفهوم العدالة والأمن واضحة، خاصة عندما نكتشف من دون عناء كبير ان كل ما يقوله الحكّام غير العادلين، لا يعدو أكثر من شعارات وأسماء وكلمات منمّقة سرعان ما تكشف الوقائع زيفها، لهذا يرفضها المجتمع ويرفض معها الحاكم الذي يجهل أهمية مفهوم العدالة والأمن في الفكر والتطبيق.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (إننا لا نسير خلف الاسماء والشعارات بل خلف الواقع).