LOGIN
المقالات
alshirazi.org
"من كتاب العلم النافع للمرجع الشيرازي:"
العلم ملتقى الدين والحياة
رمز 45
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 5 مارس 2012
بقلم: محمد علي جواد تقي
كيف يثبت الإسلام اهتمامه الكبير بالعلم؟ أو بالأحرى ما هو المصداق على أرض الواقع...؟
بين أيدينا عدّة أحاديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، مثل: (طلب العلم فريضة على مسلم ومسلمة)، (اطلبوا العلم ولو بالصين). ولأئمة الهدى صلوات الله عليهم أحاديث وتأكيدات مكرّرة حول ضرورة طلب العلم, أبرزها ما ورد عن الإمام الصادق صلوات الله عليه، لكن بين أيدينا حديث مرويٌ عن النبي صلى الله عليه وآله يقول فيه: (نوم مع علم خير من صلاة مع جهل).
هذا الحديث من شأنه أن يجيب على السؤال المذكور، لما فيه من الإثارة والخصوصية في تناول مسألة العلم ومفاضلته مع فريضة الصلاة حتى وإن كان صاحب العلم أو العالم في حالة نوم، بينما لا فضيلة للمصلّي القائم والمؤدّي للفريضة العبادية وهو جاهل.
(إن الصلاة التي هي عمود الدين، إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدت رُدّ ما سواها). وهذا حديث شريف ومعروف، بمعنى ان صلاح الأعمال العبادية مرهونة بصلاح هذه الفريضة العبادية، ثم ان الله تعالى يقول في كتابه المجيد: (وما خلقت الجنّ والانس إلاّ ليعبدون). أي ان علّة الخلق بالأساس هي العبادة لله وحسب. وإذا نعرف ونؤمن أن النبي الأكرم هو رسول الله تعالى وترجمان الوحي، وهو الذي فيه وفي أهل بيته تتجلّى الصلاة وجميع أنواع العبادات, بل تكتسب فيهم صورتها الكاملة. علينا أن نعرف أيضاً انه صلى الله عليه وآله لا يريد لأحد من أبناء امّته أن يكون مثل عابد بني إسرائيل الذي جاءه موسى ورآه قائماً وجالساً وراكعاً وساجداً يتعبّد الله، فطلب منه تعالى أن يشمله بكرامته، فأوحى الله إليه، أن اسأله عن دوافع هذه العبادة وما الغاية من ورائها؟ فسأله عن أمره، فما كان من ذلك العابد إلاّ أن قال: أنا آسف على كل هذه الأرض الشاسعة والخضراء, حيث انها متروكة ولا ينزل الله تعالى حماره ليأكل من هذا العشب الكثير!!
وفي أوساطنا الكثير ممن يدّعون انتسابهم إلى الدين، لكن لا نجد من يدّعي الانتساب إلى العلم والعلماء، ربما لأن الفرائض الدينية من صلاة وصوم باتت من السهولة أن لا يشعر أحد في معظم الأحيان بثقل مسؤوليتها وآثارها على النفس والسلوك، طبعاً تقليل ركعات الصلاة من (51) إلى (17) ركعة، جاء بفضل رأفة ورحمة نبي الإسلام بأمّته، لكن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول لنا: (الناس ثلاثة: إما عالم متعلّم أو طالب على سبيل نجاة أو همج رعاع). والصنف الثالث هم الذين يستسهلون الصلاة والصيام، ويعدّون العلم وطلبته، وأيضاً مدارس العلوم الدينية على أنها مراكز للترف الذهني، لاحاجة لهم به، في حين تحيط بالإنسان الإشكالات في عديد من المسائل والأحكام لمختلف شؤون الحياة، لابد من إضاءتها بنور العلم وحلّها للحؤول دون الوقوع في المحذور وارتكاب المعصية.
وفي كتابه (العلم النافع) يستبعد سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله وجود جاهل قاصر، لاسيما في أوساط المتعلّمين، وهي شريحة لابأس بها في المجتمع، لذا فإنه يذهب إلى ان الجاهل إذا كان مقصّراً، فإنه يكون رديفاً للمتعمّد والعاصي، فيقول سماحته في كتابه: (إنّ الفقهاء والمحقّقين الأعاظم يذهبون إلى ان حكم الجاهل المقصّر، هو حكم المقصّر في درجة العالم خطاباً وعقاباً). طبعاً هذا لا يبرئ الآخرين المشغولين بتدبير شؤون حياتهم، وإن وضعوا أنفسهم في خانة (الجاهل القاصر) الذي لا ذنب عليه، لكن يعني هذا ان يبقى الإنسان طيلة حياته راضياً قانعاً بحالة الجهل؟!
فكم من مصلٍّ وصائم وحاجّ، قد قضوا سنين من عمرهم، ثم بعد أن يلجوا قليلاً في المسائل والأحكام يكتشفوا انهم كانوا يصلّون ويصومون وحتى يخمّسون بالطريقة الخاطئة التي لا ترضي الله تعالى. وأمضّ ما نشهده في حالة الجهل بالأحكام خلال موسم الحجّ، حيث نصادف بعض الحجّاج وقد انصرمت أيام أعمال الحجّ، ثم يتبيّن أنه لم يؤدّ أعمال الحجّ بصورة صحيحة بمعنى أن حجّه باطل، وقد أفسد حجّه وضيّع فرصة العمر.
هذا في جانب العلم بالأحكام الشرعية، أما العلم بالجوانب الاُخرى التي لا تقلّ أهمية عن مسائل الحلال والحرام، التي يشير إليها الحديث النبوي الآنف، فإذا ألقينا نظرة خاطفة على وضع الساحة الثقافية الراهنة، نجد أن الجهل سيّد الموقف، ونحن نضع الإصبع على الجرح مباشرة في النزاع الطائفي العميق الجذور, الواسع الأبعاد حالياً، فكما يجهل هذا الطرف بأن أمامه مسلم يحرم عليه دمه وعرضه وماله، ولا يجوز تكفيره ثم ذبحه، يعجز الطرف المقابل – في بعض الأحيان- عن إزالة هذه الغشاوة وتمزيق حجب الظلام ليستبصر الجميع بنور الإسلام الحقيقي المتكامل الذي يمثّله الرسول الأكرم وأهل بيته صلوات الله عليهم. إذن؛ فالقضية تشمل مسائل الحلال والحرام، كما تشمل أيضاً مسائل العقيدة والتفسير والأخلاق وغيرها مما يسمّى في الحوزة العلمية بـ(علوم أهل البيت صلوات الله عليهم)، التي بشّر بها رسول الله بنفسه حيث قال صلى الله عليه وآله: (أنا مدينة العلم وعليٌ بابها).
طبعاً هذا لا يعني أن يكون الاهتمام بالعلم دون الالتزامات الدينية والطقوس العبادية، من أعمال مندوبة مثل الصلاة والصيام وتلاوة الأدعية والزيارات. ويدعو سماحة المرجع الشيرازي في كتابه إلى حالة التوازن حيث يقول: (مادام المؤمن باذلاً عمره في سبيل الله سبحانه وتعالى، منفقاً وقته وساعاته ودقائق حياته في طاعة الله، مصلّياً أو صائماً أو حاجّاً أو معتكفاً أو قارئاً للقرآن، فليخصّص حظّاً منه للعلم، وأعني به العلم بأصول الدين وأحكام الإسلام وأخلاقه وآدابه).
يروي سماحة المرجع الشيرازي أنه دعا (أحدهم...) لمطالعة كتب الأخلاق، فأجابه بأنه مشغول بالفرائض، فقال له سماحته على الفور: وكتب الأخلاق مشحونة بالفرائض. هذه الرواية التي يستشهد بها المرجع الشيرازي في كتابه (العلم النافع) توضّح لنا أهمية العلاقة بين العلم والأخلاق في المسيرة الرسالية للإنسان المؤمن الذي يرغب أن يسمّى موالياً لأهل البيت صلوات الله عليهم. (يقول الراوي: كنت عند أبي جعفر الثاني - وهي كنية الإمام الجواد صلوات الله عليه بين أصحابه حينذاك- إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل، وكان يتولّى له الوقف بقم، فقال: يا سيّدي اجعلني من عشرة آلاف في حلّ، فإنّي أنفقتها. فقال له: أنت في حلّ، فلمّا خرج صالح قال أبو جعفر سلام الله عليه: أحدهم يثب على أموال حقّ آل محمّد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلنـي في حلّ..!! أتراه ظن أنّي أقول لا أفعل؟ والله، ليسألنّهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً).
لنتصوّر وجود هكذا نماذج من الشيعة المرتبطين بإمام معصوم، وكيف أن حبّه للمال واغتراره بالمكانة الاجتماعية التي حظي بها بفضل الإمام المعصوم، دفعه لأن يسقط من هذا الشاهق وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً. فالإمام صلوات الله عليه يبيّن لنا ان استئذانه بعد التصرّف بالأموال لن يفيده بشيء يوم الحساب أمام الله تعالى، لأن ما أخذه من الإمام إنّما أخذه حياءً، و(المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً).
من هنا نفهم قيمة العلم والأخلاق معاً في حياتنا اليومية، كما يجب أن نحذر الصلاة والصيام والحجّ وسائر الأعمال العبادية الخالية من العلم والأخلاق، وهنا يتبيّن لنا معنى الحديث النبوي الشريف بأجلى معانيه: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). فالعلم كما الأخلاق ليس من الفرائض في حكم الشريعة، يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله موضّحاً لنا هذه النقطة: (لا يتصوّر أحد أنّ الأخلاق الإسلامية كلّها علوم لا اقتضائية، فكثير مما يعبّر عنه اصطلاحاً بالأخلاق إنّما هو من الواجبات، وضدّه من المحرّمات، فإنّ التكبّر والعُجب – مثلاً- ليسا من المكروهات ـ بالمعنى الأخصّ ـ بل هما من المحرّمات، وكذلك المِراء ـ وهو الجدال بالباطل ـ وغير ذلك ممّا يوصف بالأخلاق الذميمة).
فإذا كنّا حقّاً حريصين على العقيدة والإيمان والقيم الأخلاقية في المجتمع، وهي أمور لا ينكر أهميتها وفضلها عاقل، لابد من إعطاء العلم بها أو تعلّمها ودراستها الأهمية القصوى لاسيما في هذه المرحلة الراهنة، في وقت تتطوّر فيه الحياة ومستلزماتها وأيضاً مسلتزمات وحاجات الإنسان، وفي الوقت نفسه تطوّر الحالة الذهنية والفكرية له، مما يستوجب أن يتسلّح الإنسان المؤمن بقدر كبير بالعلم والمعرفة والأخلاق ليقدّم صورة مقبولة للعالم بحيث يجعلونه مصدراً لمراجعة طريقة تفكيرهم ومنهج حياتهم.
مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
shrsc.com/index.htm