شبكة النبأ: يقترن عيد الغدير بشخصية إنسانية إسلامية فذة، هي شخصية الإمام علي عليه السلام، ولا مبالغة أو مغالاة في أن تعامل الإمام علي صلوات الله عليه، مع السلطة، كحاكم أعلى، أثبت بأنه يندر وجوده في عالم اليوم، ولذلك هناك تلاصق وارتباط لا انفصام فيه بين الغدير وعلي صلوات الله عليه، فهذا اليوم وهذا العيد الأغر منبثق من مدرسة الإمام علي صلوات الله عليه، وأسلوبه في إدارة الدولة والسلطة وشؤون الأمة.
القيم التي رسّخها حكم الإمام علي صلوات الله عليه، حُفِرَت في قلب التاريخ، فلا مجال لمحوها أو التنكّر لها، أو حتى تشويهها، كونها تتربع على قمة النماذج الناجحة في تاريخ التعامل مع السلطة، وإذا أردنا المقارنة تاريخيا بين طبيعة حكم الإمام علي صلوات الله عليه، وغيره من تجارب الحكم، فنجده يتصدرها ويتفوق عليها، هذا ما استنتجه مؤرخون وباحثون محايدون وتفوهوا به في محاضراتهم وكتبوه في مؤلَّفاتهم، لهذا فإن مدرسة الإمام علي صلوات الله عليه، والقيم التي أنشأتها واتكأت عليها تصلح لإدارة شؤون العالم.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يصف مبنى ومعنى يوم الغدير بالكلمات التالية التي وردت في كتاب (من عبق المرجعية): (الغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه التي تصلح لإسعاد البشر أجمع).
من المسلَّم به، أنّ هناك شروطاً لبناء المجتمع المتفوق، وكما هو متعارَف أن هذا النوع من المجتمعات يرتكز على قيم أساسية وصولا إلى بناء مجتمع الحرية، فما هي هذه القيم، ومن أي النماذج الناجحة يستقيها المعنيون ببناء المجتمع، العراقيون والمسلمون في عموم الدول الإسلامية، بحاجة إلى القيم الأصيلة المتوازنة في التعامل مع الحكم والسلطة، وهذه القيم يجب أن تؤخَذ من نبعِها الأصيل، وهي متوافرة في جوهر يوم الغدير.
فحوى تلك القيم ترتكز على الحرية والعدالة والأخلاق، وهذه بالضبط هي قيم الغدير التي تنبع من مدرسة الإمام علي عليه السلام، ومن الغريب حقا، أن الحكام المسلمين في مقدورهم أن ينهلوا من قيم هذه المدرسة، ويتقنون التعامل من خلالها مع السلطة وشؤون إدارة شعوبهم، لكنهم للأسف يبتعدون يوما بعد آخر عن قيم الغدير، ولعل من أكبر أسباب فشل الأنظمة الإسلامية يكمن في الابتعاد عن هذه القيم، أو التعلّق الشكلي المزيّف بها، فنراه ينطقون بها ويبجحون بالانتماء لها، لكنهم يبتعدون عنها حين يتعلق الأمر بالتطبيق!
ما هي شروط وقيم الغدير؟
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(أحد الشروط المهمة والرئيسية للوصول بنا إلى مجتمع الحريّة والبناء القائم على أساس العدالة والأخلاق وسيادة القيم والفضائل الأخلاقية الإنسانية.. أن نسلّم لما بلّغ به رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله في يوم الغدير، وأن نقبل عملياً بولاية الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه).
ومع ابتعاد الحكام وحكوماتهم عن قيم الغدير، يتوهّج هذا العيد بقيمه وأصالته ويسطع أكثر يوما بعد يوم، وهذا ما يزيد من مسافة القطيعة بين الأصل والفرع، بين الجذر والأغصان، لهذا وجبَ على حكام اليوم التمسك بقيم الغدير، والتمعّن بأصالتها، والتروّي الدقيق في معرفتها وتأملها وتطبيقها، كونها تضمن مكيالاً عادلا لمتطلبات المجتمع الروحية والمادية، فلا انشغال تام بالروحانيات واعتزال العالم المادي كليا، ولا غوص تام في الماديات حدّ الغرق وفقدان بوصلة التقدم.
قيم الغدير هي قيم التوازن والاعتدال المنمّي للعدالة الاجتماعية، والحامي للحريات، والضامن لطرح الرأي المعارض أو سواه، وهذا بدوره يحمي الحقوق لجميع الأطراف ويرسخ العلاقات المتوازنة بين الحاكمين والمحكومين، تُرى هل يعمل حكام اليوم المسلمين بكنوز المدرسة الغديرية، أم في حالة من الجفاء والابتعاد عنها، وإذا كان هذه القيم تضمن سعادة الجميع، لماذا هذا الإيغال في التنكّر لها؟ ومن هو الخاسر في حال استمرت الجفوة بين المسلمين ومبادئ الغدير؟
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(تتجلى عظمة الغدير أكثر فأكثر، وتسطع أنوار القيم والتعاليم السامية التي يحملها يوما بعد آخر، بتلك القيم التي عمل بها الإمام عليّ سلام الله عليه والتي تؤمّن التوازن السليم بين المتطلبات الروحية والعقلية والمادية والمعنوية للبشر، لتحقّق السعادة للجميع, أفراداً وجماعات، وحكّاماً ومحكومين).
متى يهتدي الحكّام لقيم الغدير؟
قد تُثار بين حين وآخر كيفية الإحاطة بقيم الغدير، كونها ليست متاحة لمن كان أو يكون ضعيفا إزاء مغانم السلطة ومغرياتها، فالإمام علي عليه السلام، لم تكن السلطة بحد ذاتها تعنيه بشيء، ولا يعبأ بمغرياتها، لكنها كانت تعنيه ضمن إدارة شؤون الدولة والأمة، وكانت المعايير والقيم التي تحكمها، العدالة، الحرية، الأخلاق، وهذه القيم العظيمة العميقة، لا يمكن الإحاطة بها من قبل الجميع، إنها تكون متاحة لمن يتشبّع بها كاملا، ويحصد الكثير من فيضها!.
ما عدا ذلك ستبقى هذه القيم عصيّة على الحكام الذين يتعاملون مع الناس بالقمع والاستبداد والقوة غير المشروعة، هذا النوع من الحكام لن يهتدي إلى قيم الغدير، كونه غير مستعد للتزوّد من فيضها، لذلك أينما تجد حاكما مستبدا وحكومة فاسدة، ستجد فجوة هائلة بينهما وبين قيم الغدير الخالدة، والحاكم الفاسد حتى لو أراد التبجّح بهذه القيم وتمسكه (كذباً) بها، فإن هذا النوع من التمسك والتبجح، سيكون زائفا ومكشوفا للجميع.
حكام اليوم عليهم أن يعوا هذا الدرس، وأن يفهموا ويهضموا جيدا هذه المعادلة، فكلما تناءيت عن قيم الغدير، ضاعت منك فرص الحكم السديد، وكلما نهلت من هذه القيم وتسلحت بها، فإنك ستكون في منجى من الزلل، وتتحلى بقدرة هائلة ضد مغريات السلطة ومغانمها.
سماحة المرجع الشيرازي (يقول): (لمدرسة الغدير مبادئ واسعة وعميقة لدرجة أنه لا يستطيع أحد الإحاطة بها وبكنهها جميعها، إلاّ بقبسات من إشعاع فيضها).
من شروط بناء مجتمع الحرية والعدالة وفقا لثقافة الغدير، أن تسود قيم العدالة، وأخلاق المساواة، واحترام حقوق الآخرين، لاسيما الفقراء والضعفاء منهم، بل الحفاظ على حقوق الجميع، هكذا كانت قيم الحكم في حكومة الإمام علي صلوات الله عليه، لدرجة أن سلب نملة حقها غير مسموح به، النملة التي لا حول لها ولا قوة، لا يصح ولا يجوز التجاوز على حقها في الطعام والرزق والحياة، السؤال هنا، هل حكومات الراهن الإسلامية تطبّق هذا الشرط وتحترمه؟، وهل المسؤولون في هذه الدول من ذوي النفوذ والقوة يراعون العدل في التعامل مع حقوق الناس؟
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (حسب ثقافة الغدير، فإن في سلب النملة جلب شعيرة معصية، فما بالك بقتل الأفراد بالظنّة والشبهة!)، فأين حكامنا وحكوماتنا من هذا الشرط.
وحين نبحر في إجراءات حكومة الإمام علي عليه السلام، التي تماهت مع قيم الغدير وانبثقت منها، سنلاحظ بلا أدنى ريب، رعاية غير منقوصة لحريات الناس، وضمان غير قابل للريب للرأي المعارض، هذا هو الدرس البليغ الذي قدمه الإمام صلوات الله عليه لدول ذلك العصر، حيث كان العالم كلّه يغوص في لجج الظلام والبطش والاستبداد، لكن دروس الغدير التي تنبثق وتقترن بشخصية علي عليه السلام، قدمت للعالم درسا في حماية الحريات واحترامها بغض النظر عن مصدرها.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(منح الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه الحريّات للناس في عصر كان العالم كلّه يعيش في ظل الاستبداد والفردية في الحكم).
ونحن نعيش ذكرى الغدير في أيامنا هذه، علينا أن ننهل من نبعها الثرّ، لاسيما حكام المسلمين، هؤلاء أول المسؤولين عن بناء مجتمع الحرية والعدالة والقيم العظيمة، هل اطلعوا على قيم الغدير، وإذا كان جوابهم بـ نعم، سوف يلاحقهم سؤال رديف، هل طبقتم قيم الغدير في حكمكم وحكوماتكم؟
الإجابة قد تبقى مجهولة أو غير متحققة حتى الآن.........