شبكة النبأ: المظاهرات الحالية التي انطلقت في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول، هي امتداد لمظاهرات بدأت قبل عقد من السنوات، لكنها تعد الأولى من نوعها من حيث قوة الزخم، والأعداد الهائلة التي شاركت فيها، وانخراط طلبة الجامعات والمراحل الدراسية الأخرى بما في ذلك (أطفال رياض الأطفال)، ومشاركة قوية وكبيرة للنقابات والمنظمات المهنية، فضلا عن شرائح المجتمع كلها.
ليس الكم والعد الهائل وحده ميزة هذه المظاهرات، بل نوعية المطالب الكبيرة والجوهرية، والتي غادرت سقف المطالب الخدمية والوظيفية إلى مطالب سياسية يصعب على (العملية السياسية) الراهنة الموافقة عليها وتطبيقها، كون المطالب تهدف إلى تصحيح النظام من الجذور أو الأسس التي بدأت خاطئة لتنتهي إلى نتائج خطيرة تهدد اليوم حاضر ومستقبل العراق والعراقيين جميعاً.
وبسبب هذا الزخم الهائل من الاندفاع الجماهيري في ساحات الاحتجاج، الذي فاجأ الحكومة والطبقة الحاكم كلها (الكتل والأحزاب السياسية)، تمّ مواجهة المتظاهرين بعنف غير مسبوق إذ وصل عدد الشهداء إلى أكثر من 250 شهيدا وأكثر من تسعة آلاف جريح، لهذا كان يجب على الطبقة الحاكمة والحكومة على وجه الخصوص أن تستوعب هذه المظاهرات العارمة، ولا تواجهها بعنف وشراسة، كون العنف يقود إلى عنف مقابل والدخول في دوّامة لا مخرج فيها!.
أدى ذلك إلى حدوث مأساة لا يستحقها العراقيون، ولا يستحقها العراق وهو مهبط الأنبياء ومسكن الأئمة والأولياء، وصاحب أعظم حضارة في التاريخ، لذا انطلقت دعوات شريفة وحريصة بالكف عن هدر الدم العراقي وإيقاف هذه المأساة التي أضافت أوجاعا وانتهاكات جديدة على ما تحمّلهُ العراقيون من مظالم وويلات.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) قال في بيان حول المظاهرات الأخيرة في العراق والأحداث الفجيعة التي تلتها: (يؤسف للعراق هذا أن يصبح أتوناً للقتلى والجرحى للمؤمنين).
وقد أوصى سماحته (دام ظله) جميع العراقيين بالعمل سوية وبجهود مخلصة لوقف نزيف الدم العراقي، وعلى كل الأطراف المتعارضة، سواءً كانت مدنية أو رسمية حكومية أن تقوم بكل الخطوات الصحيحة التي من شأنها المساعدة في وقف سفك الدماء، وهذه الخطوات والإجراءات واضحة ومعروفة، لكنها بحاجة إلى آليات تطبيق.
السلمية عنوان عريض للمظاهرات
المتظاهرون عليهم الالتزام بسلمية التظاهر، وأن يبقى العنوان العريض لها هو (سلمية)، ولا تعطي أي مبرر للحكومة بمواجهة المحتجين بأساليب عنيفة، وتبقى تتمسك بمطالبها المشروعة التي هي محط احترام الجميع، ويجب أن تؤخذ بالحسبان في جانب التطبيق من قبل الحكومة والمؤسسات والدوائر المعنية بتطبيقها، مثلما على الأجهزة الأمنية الالتزام بقواعد الاشتباك الدولية المعروفة بين الجماهير والقوات الحكومية.
لذا يركّز سماحة المرجع الشيرازي دام ظله على مطلب وقف سفك الدماء العراقية فيقول:(إنني وفي هذه المأساة الجارية والأليمة أوصي الجميع بالسعي الحثيث لإيقاف هذه المجازر التي يندى لها جبين التاريخ).
بالطبع هنالك أسباب لهذه الاحتجاجات الكبيرة، فعلى مدى أكثر من عقد ونصف مرّ على هذه العملية السياسية والطبقة الحاكمة بكتلها وأحزابها وشخصياتها، تزايدت الأخطاء والتجاوزات بحق الشعب، وسُرقت ثروات وأموال عامة كبيرة، وأُهدِرت ثروات العراقيين بلا وجه حق، في حالة هدر متواصلة ارتكبتها حكومات متعاقبة، مما أثار سخط ونقمة الجماهير التي خرجت للشوارع تطالب بالقضاء على الفقر الذي فتك بها كما خرج أبو ذر الغفاري طاب ثراه، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: (لو كان الفقرُ رجلاً لقتلته).
لهذا يطلب سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) من الحكومة ومن جميع الأجهزة الأمنية الكف فورا عن استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين، وفسح المجال أما استمرارها من دون اعتراض أو مضايقات وسماع صوت الناس والإصغاء لأصواتهم ومطالبهم المشروعة والعمل الفوري بالاستجابة له، مسترشدين بذلك إلى تعامل الإمام علي عليه السلام مع الأصوات الأخرى إبان حكومته، فالقمع لن يقود إلى إطفاء الحقوق والأصوات المطالبة بها، وإن حدث ذلك، فإنه سرعان ما ينهض من جديد بصورة أكبر وأشد وأكثر قوة، كما حدث في هذه المظاهرات التي لم يكن السياسيون الحاليون والحكومة يحسبون لها أي حساب، مما أدى إلى مفاجأتهم بما يجري في عراق اليوم.
سماحة المرجع الشيرازي قال: (أوصي الحكومة والجيش والشرطة والأمن لفسح المجال للمظاهرات السلمية أيّاً كانت، والمسارعة إلى تنفيذ مطالب المتظاهرين الكرام وترك المساس بهم، كما كان يصنع أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أيام حكومته العظيمة العادلة والفضيلة).
استحقاق الشعب العراقي الغيور
بموازاة هذه الوصية التي تدعو الحكومة والأجهزة الأمية على حماية المتظاهرين والحرص كل الحرص على عدم سفك الدماء، هناك وصية أخرى لا تقل أهمية يوجهها سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) إلى المواطن العراقي الغيور ويطالبه باعتماد المنهج السلمي في التظاهر، والابتعاد الكلي عن أي نوع من أنواع العنف، حتى تبقى السمة الأعظم لهذه المظاهرات هي السلمية التي ترعب من يتربص بها من بعض المسؤولين الذين قد لا يعيدوا حساباتهم، أو يعجزوا أو يفشلوا في قراءة مشهد ما بعد الاحتجاجات الجديدة.
خصوصا إن تراكم معاناة العراقيين بسبب الحيف والحرمان والظلم الذي طالهم، هو الذي فاقم من حالات السخط والتذمر والنقمة على الحكومة والطبقة السياسية بأحزابها وكتلها، ومع ذلك فإن وصية سماحته (دام ظله) لم تتوقف عند الطلب من الحكومة عدم مواجهة المظاهرات بالعنف، بل يوصي سماحته العراقيين جميعا بكل الأعمار أن يلتزموا السلمية كخيار لا بديل له في مظاهراتهم واحتجاجاتهم.
ودعا سماحته (دام ظله) إلى الحذر من بعض الأفراد والمجاميع المشبوهة التي تسعى لتشويه الصورة الحضارية الناصعة لثورة الشباب، وأن لا يسمح المتظاهرون إلى أي كان من هؤلاء أن يلطّخوا مظاهرتهم بالعنف والعنف المقابل، فيكون من المؤسف والمحزن أن تلوّن الدماء هذه المظاهرات بصفحتها البيضاء، فالشعب العراقي معروف بشجاعته والتزامه وشموخه وذكائه الكبير في كشف الذين يسعون لتشويه مطالبه وحقوقه التي لا يشوبها أي أهداف أو أمور لا شرعية، فبقاء هذه المظاهرات نظيفة هو الذي يخلّدها في صفحات التاريخ.
لهذا قال سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (كما أوصي الشعب العراقي الأبيّ والمظلوم والمثابر، والذي عانى ومنذ العقود العديدة الأخيرة عبر الحكومات الظالمة كل حيف واستبداد وطغيان، بالالتزام في المظاهرات (بالسلمية) وبكل تأكيد، وان لا يسمحوا بكل إصرار بأن يتوغل في صفوفهم من يشوهون سمعة هذا الشعب الغيور).
وفي ختام البيان، هناك دعاء لله، أن يحفظ العراقيين جميعا، وأن يعجّل تعالى بنهاية هذه المأساة التي طالت الكثير من الأبرياء، وأن يخرج العراق من هذه التجربة الكبيرة، أكثر قوة وإيمانا بأن حقوق المظلومين لا يمكن أن يتطاول عليها حاكم أو حكومة أو نظام لا يراعي حرمة الحقوق، فالنتيجة كما هو واضح مما يجري اليوم لا يمكن أن تضييع طالما بقي الشعب مستيقظا واعيا ومؤمنا بقدرته على استرداد حقوقه التي كفلها له القانون والشرع والأعراف.
سماحة المرجع الشيرازي قال: (إنني اسأل الله عز وجل أن يأذن عاجلاً بالنهاية لهذه المأساة وان يعود العراق إلى الأمن والاستقرار كاملاً بجاه محمد وآله الطاهرين، انه القريب المجيب).
ومما جاء في أعلاه، هناك دعوة واضحة للطبقة السياسية والحكومة على إعادة النظر بمنهجها، بما يكفل ويضمن حقوق الشعب العراقي الكريم، وبما يجعله أكثر تحضّرا في مواجهته لمن سعى أو يسعى للتجاوز على حقوقه المكفولة.