LOGIN
المقالات
alshirazi.org
متى وكيف يكون الإنسان في نور الله تعالى
رمز 49
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 27 مارس 2012
كثيراً ما يطمح الإنسان للتطوّر المادي ويسعى لتحقيق هذا الهدف لنفسه ولذويه، من أجل العيش بكرامة وحرية، وهذا أمر مشروع تماماً، فالغنى من المال الحلال والموارد الصحيحة ليس محرّماً، بل من الأفضل أن يكون المسلمين أغنياء وأثرياء من خلال استثمارهم للموارد المالية غير المحرّمة.

سعي الإنسان لحياة أفضل
لذلك من حق الإنسان أن يسعى ويجدّ في تطوير حياته ماديّاً، ولكن هناك جانب مهم آخر، هو الجانب الروحاني والمعنوي، على الإنسان أن لا ينساه، بل عليه أن يعرف أهميته الكبيرة ويعطي هذا الجانب ما يستحقه من سعي وجهد كبيرين، كون الجانب الروحي وتعميقه وتطويره بالصورة الصحيحة، يجعل الإنسان في كنف الرحمن ورعايته دائماً، فيمنحه النور الإلهي الذي يقيه الزلل ويحميه من الوقوع في فخ الطمع المادي الخطير.
يقول سماحة المرجع الديني الإعلى آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله بهذا الخصوص، في محاضرة قيّمة له تحت عنوان: (كيف نكون في نور الله؟): (إذا كان الإنسان في نور الله عزّ وجلّ فلا يزلّ ولا ينحرف ولا يطغى ولا تسيطر عليه نفسه الأمّارة بالسوء، ولا يسمح للشيطان أن يغويه، وتكون الدنيا بنظره كأهون ما يكون، لأنه يرى بهذا النور حقائق الأشياء، كما يرى بالنور المادّي الأجسامَ ويميّز بعضها عن بعض، فيُقبل على ما يرغب منها ويُدبر عمّا يكره).

تطوير الجانب الروحاني
وشتان بين من يحتضنه النور ومن يحتضنه الظلام، إذ يمكن للأول أن يرى ويفهم مع من أو مع ماذا يتعامل من الناس والأشياء، أما الثاني فإنه محاط بالظلام لا يعرف ماذا أمامه أو خلفه ولا يعرف كيف يتصرّف وهو مطوّق بالظلام الكثيف، هذا هو الفرق بين من تغمره رعاية الله ونوره، وبين من يفتقد لهذا النور بسبب عدم سعيه إليه، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إنّ مَن يجلس على مائدة في ظلام لا يعلم بما وُضع أمامه هل هو من الأطعمة أم لا؟ فقد يمدّ يده وإذا بعقرب أو حشرة ضارّة أو سمٍّ وجدَ طريقه عمداً أو خطأً إلى مائدته فيتناوله وهو لا يعلم. أما الجالس في النور فهو يرى الطعام الذي أمامه فيميّزه عن غيره ولا يمدّ يده إلى ما يشكّ أو يحتمل الضرر فيه). ويضيف سماحته قائلاً في المحاضرة نفسها: (وهكذا الحال في المعنويّات؛ إن لم يكن الإنسان في نور الله تعالى، فسيكون في تيه وظلام وحيرة وضلال وإن كان لا يدرك ذلك ويتصوّر نفسه عارفاً بما حوله).
لذلك مثلما يجتهد الإنسان لتحصيل رزقه وقوته، عليه أن يسعى لتحصيل النور الإلهي، عبر الكثير من الطرق، ومنها فهمه وتعمّقه في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إنّ الحديث النبوي الشريف الذي افتتحنا به الموضوع يخبرنا أنّ قول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» يجعل الإنسان في نور الله تعالى أي أنّ الله يمنحه النور ليرى ما ينفعه وما يضرّه، وفيم يصرف عمره، وكيف يعاشر الناس، وكيف يسيطر على نفسه وشهواته، وكيف يتخلّص من حبّ الدنيا وزخارفها، بل كيف يستطيع أن يعرف ما هو اللائق فيُقبل عليه وما هو المذموم فيصدّ عنه، لأنّ هذا هو حال الإنسان الذي في نور الله عزّ وجلّ).

الصدق والتعمّق في العبادة
إن تعمّق الإنسان في قضية العبادة يحتاج إلى تركيز وجهد مضاعف، بمعنى أن يعيش الإنسان حالة (الانقطاع إلى الله)، وينفصل كليّاً عن الواقع ليتصل عبر العبادة الخالصة بخالقه العظيم، وهذا ما يضاعف وينمّي الجانب الروحاني لديه لكي ينعم بنور الله تعالى، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (نُقل عن بعض العبّاد أنه كان يقول: كلما أشرع بأداء الصلاة وأبلغ قوله تعالى: «إياك نعبد وإياك نستعين» يقشعرّ جلدي ولا أستطيع ـ لولا الوجوب ـ إنشاءها؛ لذلك أقوم بقراءتها وكلّي شعور بالتقصير؛ فإن «إياك نعبد وإياك نستعين» تعني أن العبادة منّي لك وحدك؛ إذ لا معبود غيرك). ويضيف سماحته قائلاً في هذا المجال: (قد لا يعرف قارئ «إياك نعبد» عمق معناها، وقد يعرف ولكنه لا يعرف من يكلّم بها، فكلاهما قراءة سطحية! ولكن قد يعرف الشخص معنى العبارة ومع من يتكلّم ومع ذلك يعبد مع الله سواه كالدرهم والدينار والزوجة والأطفال والجاه والشهوات أو يرتكب ما حرّم الله، فهذا معناه أنه أشرك بالله سبحانه ولم يصدق في دعواه، وإن لم يكن شركاً اعتقاديّاً مستوجباً للنجاسة والكفر ولكنه على كلّ حال مرتبة من مراتب الشرك كما ورد في أحاديث الرياء).

الاستحضار الدائم لمعنى العبادة
لذلك تتطلب تنمية الجانب الروحاني في ذات الإنسان، استحضاراً دائماً لمعنى التعبّد، وأدائه بالطريقة الخالصة، حيث الخلو إلى الله تعالى، وترك انشغالات الحياة المادية كلها جانباً، وعندما يتواصل الإنسان في سعيه وبحثه عن نور الله سوف يصل إلى مبتغاه، ولكن بعد أن يبذل الإنسان ما يستحق هذا الجانب من الجهد والسعي الدؤوب، يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في محاضرته القيمة نفسها: (هذا الأمر لا شكّ يحتاج إلى استحضار دائم بأن يذكّر الإنسان نفسه في كلّ آن أنّه عبد لله، بحيث يسري إقراره لله بالملك في جميع أحواله، فإنّ الإنسان ليس معصوماً من الخطأ والزلل، ولكن كلّما ذكّر نفسه قلّت أخطاؤه حتى يلقى الله وهو مغفور له، وانطبق عليه الحديث المتقدّم الذكر).
ويضيف سماحته قائلاً: (وهذا الإقرار من قبل العبد لله بالملك، وللنفس بالعبودية والرجوع إليه تعالى، يعدّ أصلاً من أصول الأخلاق؛ لأنّه يميّز المتصّف به عن غيره من حيث تصرّفاته وسلوكه، ولا تعود شهوات الدنيا وزخارفها ومشاكلها تؤثّر فيه، فلا ينفلت بعد لأنّه أضحى دائم الشعور بكونه عبداً ومملوكاً لله تعالى، وإذا كان كذلك فإنّ الله لا يختم على قلبه بل ينوّر قلبه فينتبه إلى المخاطر والمنعطفات والمزالق التي في طريقه فيتجنّبها).
إذن هناك صراع بين الإنسان ونفسه، أي رغباته وميوله التي غالباً ما تدفعه النفس إليها، لذلك على الإنسان أن يقرّ بالعبودية لله، كونها الطريق الصحيح للبقاء في كنف الرحمن، ونوره الذي يقي الإنسان من الوقوع في الطمع المادي واللهاث على مكاسب دنيوية لا ريب أنها زائلة، لذا ينهي سماحة المرجع الشيرازي محاضرته هذه بالقول:
(كوننا عبيداً لله تعالى هو الواقع شئنا أم أبينا، ولكن الدوافع الأخرى الموجودة تدفعنا إلى عدم الالتفات إلى هذا الواقع أي العبودية، ولذلك تبدو شيئاً نحاول إقحامه على أنفسنا. الأمر الآخر الجدير ذكره في المقام أنّ مَن يقرّ بالعبودية لله ويُشعر نفسه بها لا يطرده المولى من رحمته وإن صدرت منه بعض المخالفات لأنّه سرعان ما ينتبه فيعتذر ويعزم على أن لا يعود لمثلها).