شبكة النبأ: قد يغفل أو يتغافل المعنيون في بناء المجتمع، قيمة الاحترام ودروها الأساس في ترميم البنية الاجتماعية، والنهوض بها، بما يحقق للدولة والمجتمع قفزة مشهودة نحو الاستقرار والتحضّر، وهناك مسؤوليتان في هذا الإطار، الأولى مسؤولية المجتمع عن تشجيع التوازن بين أفراده، أما الثانية فهي مسؤولية الفرد عن تطويع وتربية أناه ومحاولة تحقيق الانسجام مع المحيط المجتمعي.
لذلك يجب أن يتنبّه الفرد إلى مهمة ضبط الأنا، وترويضها بقيمة الاحترام والتواضع، لأن الأنا غالبا ما تتنمّر على الآخرين إذا لم يتم ردعها وتحجيمها، سوف تكون سببا كبيرا في تأجيج الصراعات الفردية وتفجير الخلافات الجمعية، والسبب كما يقول علماء النفس، أن تضخيم أنا الإنسان تحجب الرؤية الصحيحة والمتوازنة، وتضع حواجز بينه وبين القيم الضامنة للتماسك المجتمعي.
لذلك يجب أن يركّز المعنيون بترسيخ منظومة القيم في المجتمع، على قيمة الاحترام والتواضع، لاسيما أن الإنسان حين يضع القيم خلف ظهره، فهذا سوف يقوده إلى الكف عن التفكير بالآخرين ويكون غير قادر على التوازن النفسي، كما أنه سيكون في حالة ميول دائمة لمصالحه ومنافعه الذاتية، بغض النظر عن مشروعية الأساليب التي يستخدمها مع الآخرين، وهذا يجرده من قيمة احترام الآخرين، وهي مشكلة قد تؤدي بالفرد والمجتمع إلى الانهيار.
تكمن الطامة الكبرى في خلخلة البنية الاجتماعية، عندما يرى الإنسان نفسه أهم من الآخرين، ويعتقد أن الحق معه دائما حتى لو كان مخطئا، هنا سيحدث اختلال خطير في توازن الإنسان، ويصبح التضخم الذاتي لديه عاليا وسيكون ذلك سببا أساسيا في تفجير الصراعات بين الأفراد والجماعات وحتى بين الشعوب، مع افتقاد أهم قيمة تدعم التكافل والتعاون المتبادل والاستقرار وتتمثل باحترام الآخرين.
في حال حدوث العكس، أي عندما يسود الاحترام في التعاملات المختلفة، فها لا يتناقض مع التخلي السيطرة عن الأنا نوعا من الإذلال، أو التذلل للآخرين، بل هو نوع من التواضع المحبب، لأن المقابل سوف يشعر بأسلوب التعامل الإنساني ويقدره كثيرا، وسوف يُشعره بالسعادة والامتلاء والتوازن.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يؤكد هذه النقطة في كتاب (من عبق المرجعية) فيقول:
(ليس المقصود من التخلي عن (الأنا) التذلل للناس، كما ليس المقصود التكبر عليهم).
ولكن ليس جميع الناس لديهم نفس الاستعداد لكبح ذاتهم، فهناك من يسعى لتنمية أناه على حساب الآخرين وحقّهم في التعامل الحسن، إذ يوجد أفراد ليس لديهم الاستعداد لتحجيم ذاته والسيطرة عليها، وهناك من لا يحبذون التغيير، ولا يجعلونه ضمن تفكيرهم أو أهدافهم، وهم بذلك يصبحون مصدر إرهاق لعائلاتهم ومجتمعهم، وذلك بإثارة الفتن وتفجير الصراعات بمختلف أنواعها وتشعبها.
لماذا لا يسود الاحترام في تعاملاتنا؟
هذه المشكلة تكمن في ضعف قيمة الاحترام، وفي ظاهرة التنمر التي تسود التعاملات المختلفة، أما السبب فهو دائما، تضخم أنا الإنسان مع ضعف او غياب الرغبة لديهم من اجل التغيير، وهم غالبا يتطيرون من الأوضاع والأساليب السليمة التي تتطلب قبولا وانصياعا جماعيا وفرديا، لاسيما أن المطلوب هو ترميم وبث قيمة الاحترام والتواضع بين رائح المجتمع.
تحتاج قيمة الاحترام أن يؤمن بها الفرد ويتربى عليها، في حاضنة اجتماعية صالحة، تبدأ بالعائلة، وفي حال رسخت في سلوكه، واعتاد عليها، وأصبحت جزءاً مكملا لكينونته، هنا سوف تتشذب كلماته وأفعاله من التنمّر، وتتخلص أناه من التكبر، وتعبأ بمصالح الآخرين وحقوقهم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، ينصحُ بالتالي:
(حاول أن تخالف هواك في كل الأمور، فإن كنت لا ترغب في أمر رغم اعتقادك بصوابه، حاول أن تخضع له بكل رحابة صدر).
طالما أنك لا تعيش بمعزل عن الناس، وأنك جزء من الجماعة (المجتمع) فهذا يحتّم عليك احترام الناس، حتى يتبادلون معك هذه القيمة المتحضّرة، لهذا يركز سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على هذه النقطة المهمة، وهي حتمية تحسين الفرد لعلاقته بالمجتمع، لأن التخلي عن الأنا العالية المتكبرة سيكون لصالح الآخرين والذات معا، ولكن يتطلب ذلك إجبار النفس على احترام الآخرين، ومراعاة حقوقهم ومشاعرهم ومصالحهم بشكل متبادَل.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(المطلوب من كل واحد منا تقوية العلاقة مع المجتمع، وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالاحترام والتواضع والبشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم).
مما لا جدال فيه، أن حالة التغيير من الأنا الفردية إلى الكليّة، تتطلب جهودا استثنائية في مقارعة الذات، بمعنى مخالفة النفس التي تحث على تحقيق الرغبات حتى غير المشروعة منها، وهذا ينم عن ضعف قيمة الاحترام، فحتى لو تم تحقيق هذه الرغبات على حساب مصالح وحقوق الآخرين، وحتى لو أدت الى الصراع وتأجيج الفتن، لذلك يتطلب صد النفس سعيا كبيرا وحثيثا، كما أن هذا الهدف يحتاج إلى جهود تربوية تعليمية منسقة، ومنتظمة على المستوى الأعم والأوسع.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يؤكد على سبل تحصيل القيم وتعميقها فيقول:
(لا تصبح الأخلاق ملكة عند الشخص إلا بعد أن يحارب نفسه ويخالفها ثم يخالفها ويخالفها حتى تنمو عنده ملكة حب الخير في كل أبعاده).
كيف الخلاص من الاختلال الاجتماعي؟
إذا أبدى الفرد احترامه للمجتمع، ومنحهم جانبا من اهتمامه، فسوف يكون ردهم هو إبداء الاهتمام به، وهذا يعني انتشار المراعاة المتبادَلة بين الجماعة والفرد، مما يؤدي بالنتيجة إلى متانة البنية الاجتماعية، لأن حب الخير يفرض على الإنسان أن يحترم من هو اضعف منه، وهذا لا يتحقق إلا عندما يتم تطوير ملكة حب الخير لدى الإنسان، وزيادة احترامه لهم.
لا أحد مستثنى من الشروط في أعلاه، بل إن قادة المجتمع، من ساسة وغيرهم، يقع عليهم الجزء الأكبر في تثبيت قيمة الاحترام، ونشرها في السلوك الاجتماعي والرسمي، ولن يُستثنى أحد من أهمية تعضيد القيمة الاعتبارية للإنسان، في تعامل اجتماعي يتبادله الجميع بغض النظر عن مركزه الوظيفي، وفي هذه الحالة سوف يسود شعور بالانسجام والرفعة والسعادة، ومن ثم استقرار المجتمع.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذا حصل الإنسان على ملكة حب الخير في كل أبعاده، شعر باللذة، وبدأ يتلمس نتيجة أتعابه).
مما هو متعارف عن الناس، أنهم لا يتساوون في فعل الخير، وبعضهم لا يحترم سوى مصالحه ليس إلا، فهناك من يسير بالضد من القيم الجيدة، وهناك من يصد الخير ويحاول أن يثير الحقد والضغينة بين المتناقضين، وإذا سعى احدهم للخير وبث روح الانسجام سنلاحظ أن هنالك أناساً لا يرغبون بذلك ولا يشجعون عليه، بل كل ما يسعون إليه هو بث الفرقة والتناحر، نتيجة لإهمال احترام الآخرين.
حول هذا الأمر، يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (لو أردت الإيثار او غيره من الأخلاق الحميدة، لا يدعك من حولك حتى يشتبه عليك الأمر).
بمعنى هناك أناس حولك، أو بالقرب منك، قد يخلطون عليك الأوراق، وربما يمنعونك من نشر القيم، لاسيما الاحترام المتبادل، لأنه يتوافق مع طبائعهم الشريرة.
وهناك ملاحظة بالغة الأهمية على الإنسان التنبّه لها ومراعاتها في أقواله وكل تصرفاته مع الآخرين، وهي تتعلق بصدق التواضع وعدم جواز التصنّع فيه، خصوصا في قضية التحرك في المجتمع، لأن التصنع سوف يدخل في باب الرياء أو الاحتيال على الناس، لهذا يجب أن يكون الإنسان صادقا عفويا في تعاملاته واحترامه للناس.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هب أنك لست متكبرا ولكن هذا وحده لا يكفي، بل ينبغي ألا تترك انطباعا يوحي بذلك).
في خلاصة الأمر، لا سبيل لدعم البنية الاجتماعية، وترميمها، إلا من خلال نشر قيمة الاحترام المتبادل بين الجميع، ولعل المشكلات والأزمات بمختلف تعقيداتها، إنما السبب الأول لها، شعور الإنسان بعد احترام الآخرين له، لذلك يجب أن تُنشَر هذه القيمة، وتسود تعاملات الجميع، فهي الحجر الأساس، لتطور وتقدم وازدهار الدولة والمجتمع.