LOGIN
المقالات
alshirazi.org
كيف ينتصر الإنسان على نفسه؟
رمز 539
العلامات
نسخة للطبع ينسخ رابط قصير ‏ - 17 ديسمبر 2020
شبكة النبأ:(إنّ التغيير صعب ولكنّه ممكن) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

زاخرة هي حياة الإنسان بالمواقف المختلفة من حيث اصطفافها إلى جانب الخير أو نقيضه، ولذا يبقى الإنسان منذ ولادته ونشأته، وحتى مماته، تتقاذفه الرغبات والمشاعر والغرائز والطموحات والمصالح، وهو ما بين هذه وتلك، مطالَبٌ بالسيطرة على نفسه، وتحجيم غرائزه، أو المسك بزمامها في المسار الصحيح، حتى طموحاته يجب أن تأتي في إطار المشروع فقط.

ونظرا لتعقيد الجانب التكويني الغريزي للإنسان، فإن نفسه تحثّه وتدفع به نحو الاستعباد المادي، وتُبقِي عليه تحت سطوتها ورغباتها، فإذا خضع لها أصبح عبداً مكبّلا بأغلالها، منساقا مع شهواته، وأهوائه، مستَعبَدا ضعيفا لها، حيث تقوده نفسهُ نحو الهاوية والانحراف، ولا يتحدد هذا بمرحلة عمرية بعينها.

فمن المفارقات الغريبة حقا، حين يقع الإنسان فريسة للجاه أو المنفعة أو المصالح الزائلة، بعد عمر طويل من الكفاح كي يبني شخصيته ومكانته بين الناس، نعم هناك من سقط في حبائل سوء الرغبات، فصار تغييره نحو الأسوأ، بينما يجب أن يكون التغيير نحو الأفضل لاسيما في أواخر العمر لأنه يقترب من عالم الحساب، لهذا من الغرابة بمكان أن ينزلق الإنسان في حطام الدنيا وهو يقترب من محطة وجوده الأخيرة.

وحين يضع الإنسان مصيره تحت تصرف النفس والغرائز، فإنه سوف يفرح لأي مكسب يحصل عليه، ويحزن على أي شيء يفقدهُ، وهي طبيعة تكوينية لا يمكن التنصّل منها، ولكن يمكن السيطرة عليها، في حال تمكّن الإنسان الإفلات من عبودية النفس، حينئذ لا تُفرحُ المكاسب الزائلة، ولا تُحزنه الخسائر أيّا كان نوعها.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة:

(إنّ الآية ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ لا تعني عدم التأثّر مطلقا، فإنّ الإنسان بطبعه يحزن إذا فقد أيّ شيء، كما يفرح إذا أوتي خيراً سواء أكان مادياً أم معنوياً. إنما تنهى الآية عن الحالة التي تكشف عن عبودية النفس لتلك الأشياء، وتدعو الإنسان لتحرير نفسه من هذا الرق).

إذاً ليس المقصود بتغيير النفس، أن نُلغي ما جُبل عليه الإنسان في خَلْقه أو تكوينه، فالطبيعة التكوينية ليست قابلة للتغيير، بمعنى من المحال إلغاء غريزة حب التملّك عند الإنسان، أو غريزة الخوف، أو نزعة الاستحواذ، وحب الجاه، وغيرها من الغرائز، وإنما تشذيب غرائز الإنسان والسيطرة عليها.

أين تكمن أهمية التغيير؟

إنها حالة صراع يعيشها الإنسان في قاعة الاختبار الصعب، (قاعة الحياة)، وأصعب العقبات أمامه هي عقبة النفس، والقدرة على التغيير، وهذا لن يتحقق بمجرد الرغبة في التغيير، لأن هذا ساحة هذا الصراع هي (نفس الإنسان) التي تطالبه دائما بالتماشي مع أهوائها، ومجاراة رغائبها، ولا يعنيها سقوط الإنسان في الامتحان الدنيوي، فهي تسعى بمساعدة الغرائز لتحقيق مآربها.

البشر يميلون إلى الراحة بطبيعتهم، يبحثون عن الدعة، ويتهرّبون مما يُتعبهم، ويتجنبون الأعمال المجهِدة، وهذا أمر يدخل في إطار رغبات النفس، لكنه يهدد حياة الإنسان ومكانته، لهذا فهو مطالَب على الدوام بتوجيه النفس وليس العكس، والسعي نحو تغييرها إلى الجادة الصواب، وهناك نماذج جيدة أمكنها التخلص من عبودية النفس لتدخل النجاح من أوسع أبوابه.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يوضِّح هذه النقطة فيقول:

(ليس المقصود تغيير جذور الطبيعة والعنصر الثابت فيها، بل المقصود درجات الشدّة والضعف والآثار التي تترتّب عليها. فنفوس الناس ميالة في الغالب للدعة والراحة، ولا رغبة لها في الأعمال التي تتطلّب جهداً مضاعفاً كطلب العلم مثلاً، ولكنّا نرى بعضهم يتغيّر بفعل الضغوط المختلفة سواء من ذاته أو من الآخرين، فيشمّر عن ساعد الجدّ ويصبح عنده شوق إلى الدراسة بحيث يتحمّل سهر الليالي وشظف العيش من أجل الوصول إلى هدفه).

ما الأسباب التي تستدعي تغيير الإنسان لنفسه، وما هي المشاكل في حالة عجز عن ذلك؟

هناك أسباب كثيرة تحتم على الإنسان أن يتغير، وأن يتخلص من عبودية النفس، يقف في المقدمة منها، قدرته على تكوين شخصية ناجحة، سواءً على مستوى فردي أو مجتمعي، فمن يكون ذا شخصية ناجحة، سوف يكون مقبولا اجتماعيا ومحبوبا، لأنه يمنح الآخرين طاقات إيجابية تساعدهم على التغيير.

ما هي مشاكل عدم تغيير النفس؟

المشاكل تتوزع على جانبين فردي وعام:

المشاكل الفردية:

- الشخص الذي ينقاد إلى نفسه سوف يكون فريسة لها، تمضي به إلى مستنقع الأخطاء، فتجعله من الفاشلين في اختبار الدنيا.

- يكون ذا شخصية أنانية، لا يشعر بالآخرين، ولا تعنيه حقوقهم، ويكون الجشع عنوانا لأعماله وأنشطته وسلوكياته.

- يمثل نقطة ضعف للعائلة التي ينتمي إليها، فقد يتأثر به أبناؤه، أو أصدقاؤه، ومن يحيط به، وهذا خسارة تتعدى شخصَهُ إلى الآخرين.

- مثل هذه النماذج، غالبا ما تنتهي بهم المحطة الأخيرة من العمر إلى الفشل، والندم، يوم لا ينفع ندم أو اعتذار.

المشاكل العامة:

- طالما أن الإنسان يعيش في محيطه الاجتماعي، فهو يؤثر به، لذلك كل ما ينتج منه على المستويين المادي والمعنوي سوف ينعكس على الآخرين.

- وبدلا من أن يكون الشخص نموذجا جيدا يساعد المجتمع على الصلاح، يحدث العكس فيساعد على الجشع والاستحواذ وعدم الشعور بالمسؤولية.

- بالنتيجة يؤدي ذلك إلى تكاثر هؤلاء، وتأثيرهم على سلوكيات الآخرين، وهي خسارة اجتماعية كبيرة، تجعل من الناس يلهثون في مسارب الدنيا، يتصارعون، يتقاتلون، يتناحرون، والسبب كنز الأموال بغض النظر عن قانون (الحلال والحرام)، واللهاث المحموم نحو الجاه والقوة، مما يؤدي إلى تدمير القيم وتهشيم البنية الاجتماعية.

إذاً نحن نقف أمام مهمة واضحة، وهدف جليّ، إننا يجب أن نتغير، وهذا يتطلب جهودا وإصرارا وتدريبا وسعيا حثيثا، وتبقى درجة هذا التغيير محكومة بالشخص نفسه، فهناك من يتكاسل ولا يثابر من أجل هذا الهدف، أو أنه لم يصرّ عليه كما يجب، في هذه الحالة قد يحصل التغيير لكنه بطيء وربما يستغرق مساحة واسعة من العمر.

في حين قد يحدث العكس، فنهاك من يحقق إنجاز التغيير في وقت قياسي سريع، وتبقى النتائج محكومة بحسابات النتائج، ومحصلة المنافع والأضرار، حيث يقوم الإنسان بجردها جيدا، وتبعا لذلك تأتي سرعة أو بطء التغيير.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(يختلف الناس في سرعة التغيّر وشدّته. فبعض الطباع تتغيّر بسرعة فيما بعضها الآخر يتغيّر ببطء. وكلما استحضر الإنسان المنافع التي سيجنيها والمضارّ التي سيدفعها من التغيير، زاد من سرعة تغيّره).

المهم في كلامنا هذا، هو إمكانية التغيير، هل هي متاحة أم مغلقة؟، الجواب يتلخص بوضوح، بأن الإنسان يمكنه تغيير نفسه، والسيطرة على غرائزه، مع العلم أن الأخيرة متباينة الضعف والقوة، تماما مثل النفوس التي تتوزع على نقيضين، القوة والضعف، (فكما تختلف النفوس، كذلك تختلف الغرائز والطباع في قوّتها وضعفها، فلقد أُثر أنّ «آخر ما يخرج من قلب المؤمن حب الجاه»، وهذا يعني أنّ حب الجاه من الطبائع الأصيلة والقويّة عند الإنسان. وكذلك قد تختلف الأجواء والظروف وعوامل الوراثة والبيئة والتربية وغيرها. إلاّ أنّ الأمر المسلّم أنّ أصل التغيير ممكن) كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).

الخلاصة يواجه الإنسان مشكلة وجودية في غاية الصعوبة، ونعني بها إمكانية تغيير النفس من عدمها، وإذ حُسمت قدرة الإنسان على تغيير نفسه، فإن المتبقي هو الكيفية التي تقوده إلى هذا الهدف، وقد تم توضيحها في أعلاه، وما على الإنسان إلا الخروج من (قاعة اختبار الدنيا) منتصرا على نفسه، أما في حالة حصول العكس - لا سمح الله-، فإن يوم الحساب له بالمرصاد، وحينها لات ساعة مندم.