الحكومة الاستشارية تقابل في معناها المفهوم المعاصر للحكومة الديمقراطية، ولكنها تتقدم عليها في جوانب عديدة سنأتي على ذكرها، وتتكون الحكومة الاستشارية من منظومة إدارية منسجمة ومتجانسة من حيث الفكر والتطبيق، حيث تدمج بين السياسة والاقتصاد والضمان الاجتماعي، في إدارة تعتمد الاستشارة والابتعاد عن رأي الفرد أو الحاكم الأعلى أو حتى الحزب الواحد.
الاصلاح التدريجي للمجتمع
لذلك ليس هناك جانب قسري في إدارة شؤون الدولة، بل هناك ضوابط متفق عليها مسبقاً، وهي في الغالب مستمدة من تعاليم القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة، وسيرة أهل البيت عليهم السلام، لذلك غالباً ما يأتي الإصلاح بصورة متدرجة، فيكون أكثر وضوحاً وسهولة في التطبيق، وليس هناك فرض على الإنسان ما لم تتم القناعة التامة لديه، لهذا يجري الإصلاح تدريجياً وفقاً لقناعات الأفراد من دون قسر أو إجبار.
عن هذا الجانب يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في كتاب: (من عبق المرجعية): إن (الإسلام لا يفاجئ الأمة بإصلاحاته، وانما يتدرج معهم في تطبيق الإصلاحات، فأولاً يهيئ لمن يعترف بأعمالهم ما يناسبهم من أعمال، ثم يدر عليهم من خزينة الدولة ما يساعدهم في شؤونهم، حتى يتم لهم العمل الذي يريدون مزاولته، فهل يسمح أحد لنفسه ممن لا يقرّ الإسلام عمله ولا يعترف به، أن يتمرّد على النظام الإسلامي بعد أن هيّأ الإسلام له عملاً يناسب مقامه، من الأعمال الحرّة النافعة، وساعده حتى تمكّن من مزاولته بكل عزّ ورفاه؟).
سياسة الحكومة الاستشارية
إن الربط واضح في الحكومة الاستشارية، بين السياسة والاقتصاد، لأن نجاح الحكومة في إدارة شؤون الرعية، مرتبط بنجاح العلاقة بين السياسة والاقتصاد وتداخل أحدهما مع الآخر، والاعتماد المتبادل بينهما، فلا سياسة مستقلة ناجحة من دون اقتصاد ناجح, ويصح العكس أيضاً، ولذلك كانت الحكومة الإسلامية الاستشارية الناجحة، تحرص أشد الحرص على سلامة الاقتصاد وعدالة السياسة، لأن الأمور الحياتية التي تخصّ الأمة تتعلق بهذين الجانبين، ومن البديهي أن نقول، كلما صحّت السياسة صحَّ الاقتصاد وبالعكس، الأمر الذي ينعكس بدوره على الأوضاع العامة التي تخصّ أفراد المجتمع. يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص في الكتاب المذكور نفسه: لقد (أكد القرآن أكثر من مرّة على الاقتصاد السليم، والسياسة العادلة، والفضيلة، وقد أعلنها رسول الله صلى الله عيه وآله والإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه قولاً، ومارساها في أعمالهما طيلة حكومتهما المثالية الفريدة).
لذلك عندما يطلق النظام السياسي على حكومته تسمية الحكومة الإسلامية، ينبغي أن يعطي هذه التسمية وهذه الصفة حقّها، وطالما كان الهدف هو تطبيق التعاليم الإسلامية من لدن الحكومة، فإن النتائج ستكون سليمة حتماً، لاسيما في الجانب الاقتصادي، فلا يجوز أن ينتشر الفقر والحرمان والجهل في ظل الحكومة الاستشارية الإسلامية، كما أن الحاكم الإسلامي ملزم بالقضاء على الفقر وتطبيق برنامج شامل للضمان الاجتماعي والصحّي وسواه، ليكفل العيش الكريم للناس عموماً، ويعمل هو ومنظومته الحكومية المتشعبة على نشر حالة الرفاه بين عموم مكونات المجتمع، يقول سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص: (في البلد الإسلامي في وقت حكم الإسلام الصحيح، يلزم أن لا يوجد حتى فقير واحد، فالضمان الاجتماعي في الإسلام يحتم على الحاكم الإسلامي أن يزيل الفقر نهائياً).
العدالة وتطبيق المساواة
وتضمن الحكومة الاستشارية الإسلامية شرط العدالة وتطبيق المساواة، وإتاحة الفرص أمام الجميع، ولعل المفارقة الكبيرة في هذا المجال، أن الإسلام لا يفرّق بين الكافر والمسلم في قضية الضمان الاجتماعي والحماية من الفقر وغير ذلك مما يهدد طبيعة حياة الإنسان، وهذا دليل قاطع على خلو الإسلام من التطرّف والعنصرية أو الروح المتعصّبة، بل هناك وسائل إقناع يتمّ من خلالها نشر الإسلام والإيمان بتعاليمه ومبادئه، لذلك نقرأ في هذا المجال قولاً لسماحة المرجع الشيرازي يؤكد فيه قائلاً حول هذه النقطة: (حتى الكافر في بلد الإسلام حين يسأل الناس، يكون هذا أمراً غريباً).
بمعنى يستغرب الناس أن يستجديهم حتى الكافر الذي يعيش في مجتمعهم المسلم، فالدين هنا لا يسمح بتوجيه الإهانة للإنسان من خلال تعريضه لآفة الفقر أو العوز أو إهدار الكرامة، تحت أي سبب كان حتى لو كان الكفر نفسه، وهنا تكمن عظمة الإسلام والحكومة الإسلامية التي تلتزم بصورة صحيحة ودقيقة بتعاليمه، فتحمي مواطنيها من الفقر وسواه، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي أو غيره، فالكل له حقّه المكفول بحياة كريمة تليق بالإنسان الذي فضّله الله تعالى على كل الكائنات، علماً أن هذا النهج السليم في إدارة شؤون المجتمع كافة، يؤدي بدوره إلى نجاحات متصاعدة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضاً، ويعيش الناس في حالة من الرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي، وغياب الفقر الكلّي عن أفراد المجتمع من دون استثناء، إذ يتساءل سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (لماذا الفقر، والاقتصاد سليم، والسياسة عادلة، والمجتمع فضيل؟).
القضاء الكلي على الفقر
نعم هذا ما حدث في عهد الحكومات الإسلامية التي انتهجت تعاليم الإسلام الصحيحة، طريقاً ومساراً لها، حيث التطور في مجالات الزراعة والصناعة والتعليم، والانتقال من مجتمع الظلامية والقهر والاستعباد، إلى مجتمع التنوير وحبّ العلم والعمل والابداع في مجالات عملية وفكرية مختلفة، ساعدت على نقل المجتمع إلى مرحلة تنوير جديدة، تم فيها القضاء كليّاً على الفقر، الأمر الذي زاد من تطوّر المجتمع الإسلامي بوتيرة متصاعدة، وقد يستغرب العالم المعاصر كيف تستطيع حكومة ما أن تقضي على الفقر فعلياً، لذلك يتساءل سماحة المرجع الشيرازي بهذا الخصوص قائلاً: (هل يوجد، حتى اليوم، وفي أغنى بلاد العالم بلد لا يوجد فيه حتى سائل واحد؟). إن أسباب تطوّر الدولة الإسلامية واضحة، حيث النهج الاستشاري هو المعلم الأهم في الحكومة الإسلامية وطبيعتها الاستشارية، فكما يقول سماحة المرجع الشيرازي إن (الحكومة الإسلامية حكومة استشارية). ويضيف سماحته قائلاً أيضاً: إن (الاستشارية نظام متفوّق على نظام الديمقراطية، على ما أوضحه الإمام الشيرازي رضوان الله عليه في كتبه). وهكذا أثبتت تجارب التأريخ أن الحكومة الاستشارية تستند في نجاحها إلى منظومة أفكار ومبادئ وتطبيقات ناجحة ومتطورة.