شبكة النبأ: قال تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) سورة الشورى: الآية 23
نعيش في هذه الأيام ذكرى وقوع كارثة هدم قبور أئمة البقيع، ومن الغرابة بمكان أن يستمر الصمت على هذه الجريمة، وأن يتلكأ المسلمون وقادتهم باتخاذ القرار السليم الذي يسعى لمعالجة هذا الخطأ الإستراتيجي، فحتى هذه اللحظة لم نشهد مبادرة جادة تعيد الأمور الى نصابها وتنصف أئمة أهل البيت الذين تم تهديم قبورهم في البقيع الغردق، فطالما بقيت المراقد المقدسة مُزالة من الأرض ولم يُعاد بناؤها واعتبارها، فإن مرارة هذا الفعل الكارثي تبقى قائمة، طالما بقيت معالمها المحمدية مغيّبة، ولا يمكن أن يزال الحيف عن السلالة المحمدية ولا عن المسلمين، طالما لم يتخذ المسلمون قرارا بإعادة قبور البقيع، بالتعاون من العالم الاسلامي والمجتمع الدولي كله، وخصوصا المؤسسات والمنظمات الدولية التي تُعنى بالتراث العالمي الإنساني.
انتهاك لـ المودة في القربى
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله):
(هدم قبور أئمة أربعة من أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين هو في الواقع تجاسر على الله تعالى الذي أمر بمودّة أهل البيت صلوات الله عليهم وطاعتهم وإكرامهم، وتجاسرٌ على القرآن الحكيم الذي صدع بقول الله سبحانه في الآية الثالثة والعشرين من سورة الشورى: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»، وتجاسرٌ على الإسلام العظيم الذي عظّم أمر أهل البيت وجعلهم امتداداً للرسول الأمين، وتجاسرٌ على الرسول الكريم الذي جعل أهل بيته المعصومين عِدل القرآن الحكيم، كما في حديث الثقلين المتواتر عند المسلمين جميعاً خاصة وعامّة، بقوله : «إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، ولاتقدّموهما فتهلكوا، ولاتعلّموهما فإنهما أعلم منكم» وتجاسرٌ على المقدّسات والقيم، والعلم والفضيلة، والأخلاق والإنسانية، وعلى كل الأحرار والأبرار، بل على كان الناس والبشر أجمعين.
مسؤولية الجميع بلا استثناء
لا يستثنى أحد من مسؤولية إعادة هذه القبور، فهذه مسؤولية شرعية، فكل فرد عليه أن يقدم ما يستطيع في مجال إعادة بناء قبور البقيع، ومن خلال تجميع الجهد المجموعي يكون هذا الهدف ممكنا ومتاحا خصوصا أن بقاء الأوضاع الخاطئة على ما هي عليه الآن، يمثل شرخا في تاريخ المسلمين وعيبا على واقعهم الذي لا يزال مثقل بهذا العيب الذي يصل الى مرتبة العار، من حيث درجة التجاوز على حرمة الرسول الكريم وعلى أبنائه من الأئمة المعصومين، لذلك ينبغي أن تتضافر جميع الجهود ويشترك كل المسلمين في معالجة هذه الكارثة التي تقف وراءها حواضن التطرف والتكفير والتعصب الأعمى.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الشأن تحديدا:
إن (مسألة معالجة هذه الفاجعة المؤلمة ورفع هذا التجاسر البذيء المتطاول على الله والرسول، والإسلام والقرآن، والقيم والأخلاق، لابد وأن يكون من جميع المسلمين بل من جميع الناس الأحرار على نحو العام المجموعي، يعني: العلاج يحتاج إلى تضافر جهود الجميع وتضامن نشاطات الكل: في إبداء الآراء المطالبة بالتعمير، وإنجاز المساعي الحميدة لإعادة البناء).. (كل واحد حسب قدرته وطاقته، وإدراكه وإمكاناته، ولا يعتذر بأنه واحد والواحد لا أثر له في قبال الآلاف. إذ الوحدات تجتمع فتشكّل جيشاً عارماً، كما ان القطرات تجتمع فتصبح سيلاً كاسحاً وجارفاً، وإلا كان الجميع مقصّراً ومسؤولاً).
دور الرأي العام
عملية إعادة بناء قبور البقيع تحتاج إلى جهود جبارة، منها التهيئة المستدامة والتمهيد الكبير لهذا العمل، من خلال الجهد الإعلامي العالمي والمطالبات العالمية والإسلامية بأهمية إعادة بناء البقيع وإعادتها كما كانت، لأسباب ترجّح ذلك منها إن هذا المشروع يصب في صيانة التراث العالمي والإسلامي، فهو مطلب إسلامي وإنساني عالمي شامل، يصب في تأمين الحماية اللازمة للمخزون التراثي دون أن يمسه التطاول أو التهديم أو المحو القسري، ولابد من استخدام مختلف الوسائل القانونية والإعلامية ووسائل الضغط لتحرك الرأي العام من اجل إعادة بناء البقيع.
ويرى سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن عالم اليوم يختلف عن السابق كثيراً، من حيث الحريّة المتاحة وكثرة وتنوّع وانتشار وسائل الإعلام وسهولة الاستفادة منها وتأثيرها على الرأي العام العالمي)... (فأحرى بالمؤمنين لاسيما العلماء والمفكرين وأصحاب القلم والمبلّغين أن يستفيدوا من هذه الحريّة وهذه الإمكانات الموجودة، وأن يعيروا قضية – هدم قبور البقيع- أهمية قصوى).
التغيير على الأعتاب
ان لحظة إعادة بناء قبور البقيع ماثلة أمام العيون والقلوب المؤمنة، فالجميع يتطلع الى هذا اليوم الذي بات في مرمى النظر بل هو أقرب مما يتوقع الجميع، خصوصا أن بقاء البقيع بهذا الوضع الموحش لم يعد يطيقه أحد، فهو عار تم إلحاقه بالمسلمين جميعا بفعل ما قام به التكفيريون المتطرفون الذين تجاوزوا على حرمة النبي الأكرم وأبنائه من الأئمة المعصومين، عندما قاموا وبكل وقاحة وجرأة بإزالة وتهديم هذه القبور، فكانت الإساءة الكبرى التي تم إلحاقها بأئمة أهل البيت عليهم السلام.
لذلك يطالب سماحة المرجع الشيرازي أمة المسلمين ويستحثهم ويدعوهم الى الإسراع بمعالجة ما ارتكب من أفعال شنيعة بحق النبي الأكرم وأبنائه من الأئمة المعصومين، على أن يتهيأ الجميع بلا استثناء، حتى أولئك الذين يشعرون بأنهم غير قادرين بالمساهمة في انجاز هذا الهدف، فالعمل أيا كان نوعه أو حجمه ومهما بلغ من الصغر، فإنه من خلال تجميع الأعمال والأفعال فإنها سوف تكون قادرة بإنجاز بناء قبور أئمة البقيع عليهم السلام.
وفي هذا يرى سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(بقاء البقيع الغرقد موحشاً، والمراقد الشريفة مهدّمة، منكر من أشدّ المنكرات، وهو بمرأى من المسلمين جميعاً ومسمع، ولابدّ من يوم وهو في الطريق، وساعة صفر هي على الأعتاب، يزول فيه هذا المنكر ويغسل عاره وشناره، فهنيئاً لامّة ناشطة وقوم غيارى يستطيعون صنع العام المجموعي واتخاذ الموقف الموحّد، للقيام برفع هذا المنكر ودفعه، وسدّ هذا الصدع وردمه، كيف لا والدنيا برمّتها في طريقها إلى الانفتاح، والبلاد على وسعتها وتبعثرها في سيرها نحو القرية الصغيرة الواحدة، فلنكن نحن تلك الأمّة التي تستطيع إنجاز ذلك، حتى ننال وسام المودّة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله بعزّ وافتخار إن شاء الله تعالى، وذلك بأداء كل فرد مسلم وظيفته في المطالبة، واتخاذ الموقف الحاسم، والقرار اللازم بحسب موقعه واقتضاء علمه وشغله، سفراً وحضراً، حجاً وعمرة، دائماً وأبداً في طريق انجاز هذه المهمة الإنسانية العليا، وما ذلك اليوم ببعيد بإذن الله تعالى).
ان صناعة السلام والاستقرار في عالم اليوم تبدأ من حماية المعتقدات الدينية وحرية ممارسة الشعائر وصيانة التراث الديني والإنساني، لذلك هي مسؤولية شرعية وقانونية وإنسانية لإعادة بناء البقيع مع ما يحققه هذا الاعمار من إقرار للسلم الاجتماعي وحماية الحريات والحقوق وتحقيق التقارب والتعارف والوحدة الإسلامية والإنسانية وترسيخ للتعددية والتنوع الانساني.