محمد علي جواد تقي: في مثل هكذا أيام من شهر شعبان المعظّم عام 1339للهجرة الموافق لشهر نيسان عام 1920م نستذكر بكل فخر واعتزاز أوّل ثورة جماهيرية في العراق بقيادة المرجعية الدينية ضد الاحتلال البريطاني، والتي نعرفها باسم (ثورة العشرين)، بل نحن على مشارف الاحتفال بالذكرى المئوية لهذه الثورة المجيدة، عام 2020 ، لكن المؤسف حقّاً، أن المعاناة والويلات التي مرّت على العراقيين خلال العقود الماضية، أنستهم أن هنالك ملاحم بطولية سُجّلت بالدماء، وأن معارك طاحنة خاضها المجاهدون ببسالة، وتحدّيات ومواقف مشرّفة سطّرها أبناء العشائر الغيارى وعلماء الدين والخطباء والوجهاء لتلقين المحتلّ درساً لن ينساه، وهو ما حصل بالفعل. وقبل استعراض الدروس والعبر في هذا الحيّز المحدود، لابد من التساؤل عن أسباب عزوف كتّابنا ومثقّفينا عن تناول هذه القضية التي تترابط حلقاتها بين الماضي والحاضر والمستقبل..؟
في وقت يسطّر عدد لا بأس به منهم اليوم، المقالات الرنّانة عن معاناة الشعب العراقي جرّاء الظروف الراهنة، وما يزال البحث في الدوامة المفرغة، عمن هو السبب: الشعب؟ أم النخبة السياسية؟ أم النخبة الثقافية؟ وراح البعض يتحدّث عن الطبيعة النفسية ودورها فيما آل إليه العراقيون. ولكن من أهم عوامل استمرار الويلات والمعاناة على هذا الشعب، انقطاعه عن جذوره التاريخية والعقائدية، بل يكاد ينطبق عليه القول الشائع: بأن (لا يقرأ التاريخ)!
العراقي وعزيمة التغيير
عندما توجّهت الجيوش البريطانية المعبّئة بالمجنّدين الهنود صوب منقطة الشرق الأدنى، لم تواجه مقاومة شديدة كالتي تلقته من سكان الجنوب العراقي، فقد تم احتلال المناطق الساحلية لجنوب ايران، ومنها منطقة خوزستان ذات الأصول العربية، كما دخلت دونما مشاكل أرض الجزيرة العربية، وبلغت الأراضي الصحراوية المحاذية للجنوب العراقي، والتي تشكّل اليوم دولة الكويت، فكانت هناك الملحمة والمواجهة التي تفاجأ بها البريطانيون في أوّل تجربة لهم باحتلال العراق عام 1914، والسبب الواضح، هو العلاقة الوطيدة التي كانت تربط العشائر العراقية بالمرجعية الدينية، ومسألة مقاومة محتل وكافر، لا تحتاج إلى قرار، إنما إلى إرادة وعزيمة، وهو ما كان متوفراً آنذاك. فجاءت فتوى الجهاد إلى أرض خصبة أثمرت عن مواقف بطولية مشرّفة، وكيف لا، والجماهير العراقية تشاهد أبناء مراجع الدين الكبار يشاركونهم الجهاد ضد المحتل البريطاني، فقد أرسل كل من المرجع الأعلى للشيعة آنذاك السيد محمد كاظم اليزدي والمرجع الديني الميرزا محمّد تقي الشيرازي، أبنائهما إلى الخطوط الأمامية من الجبهة، فيما التحق بهما الشيخ محمّد سعيد الحبوبي والشيخ مهدي الخالصي، فكانوا يعبّئون النفوس و يثيرون الحماس في طريقهم إلى جبهات القتال ويجمّعون السلاح والأموال للمجاهدين.
هذه المقاومة على بساطة أدواتها وأسلحتها، أجبرت الحكومة البريطانية على إعادة النظر في أمر العراقيين، وللعلم فقط، فإن لندن عيّنت ضابطاً شابّاً لا يتجاوز عمره الخامسة والثلاثين من العمر يدعى آرنولد ويلسن، حاكماً عسكرياً على العراق عام 1918، خلفاً للضابط المخضرم (السر بيرسي كوكس) الذي تم نقله إلى طهران، و(ويلسن) هذا، هو خريج المدرسية الهندية التي لاتؤمن بحقّ الشعوب بتقرير المصير، وتروّج لنظرية الوصاية البريطانية على الشعوب المستعمرة، والقول: إن هذه الشعوب غير جديرة بالمرّة بإدارة شؤونها بنفسها.
وأول شرارة أسقطت القناع المزيف للمستعمر، كانت انتفاضة النجف الأشرف في تشرين الأول عام 1917، حيث ثأر الناس لكرامتهم، فقد كان عليهم السكوت على دخول مدينتهم قافلة مؤلّفة من (120) جملاً محمّلاً بالحبوب مرسلة من أحد شيوخ القبائل الوهابية إلى حاكم النجف العميل لبريطانيا، في وقت كانت المدينة تشكو الجوع وشحّة المواد الغذائية، فكانت الانتفاضة الجماهيرية ثم الثورة المسلّحة، التي وإن وصلت إلى نهايتها المأساوية، وسقط عدد كبير من الشهداء والجرحى من أبناء المدينة، لكنها أثبتت أن بريطانيا، لا يمكنها أن تفي بوعودها بتوفير الرخاء والأمان للشعب العراقي.
هذه الروح الثورية، ألقت بظلالها الثقيلة على المشروع الاستعماري المقنّع باسم (الاستفتاء)، لكسب الشرعية الداخلية والدولية للاستعمار، وقد تم إعداد السؤال في لندن لأبناء الشعب العراقي: (هل تؤيّد دولة عربية تحت وصاية بريطانية)...؟! وكان بطل هذا الاستفتاء هو نفس ذلك الضابط البريطاني الشاب – ويلسن- الذي سارع بعد أربعين يوماً فقط من الاستفتاء الصوري الذي تم في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، لإرسال برقية إلى لندن مفادها: (إنّ الشعب العراقي لا يريد إلاّ حكومة بريطانية..! ).
ومنذ تشرين الثاني عام 1918 وحتى شهر آب عام 1919، كانت القيادة العسكرية البريطانية في العراق تحاول التضليل والخداع وكسب الوقت لانتزاع فتيل الانفجار من الشارع العراقي، ولكن خاب فأل البريطانيين لسبب نأتي إليه لاحقاً.
القيادة المرجعية للثورة
قبل خوض هذه النقطة المحورية، لابد من توضيح حقيقة طالما ظلّت غائبة عن الساحة السياسية في العراق، وهي أن فتاوى مراجع الدين الشيعة بالجهاد ومقاومة المحتل الكافر، لم تكن بدوافع طائفية بحتة، إنما كانت تنطلق من مبادئ الدين الحنيف والحرص على كيان الإسلام، وكرامة المسلمين وحقوقهم. ومن ثم فإنّ فتوى الجهاد عام 1914 لدى أول احتلال بريطاني لمدينة البصرة، والفتوى الثانية عام 1920 كانت بالحقيقة تخاطب كل العراقيين من سنّة وشيعة، وجاءت الاستجابة من الطرفين، كما تؤكد المصادر التاريخية. ومرة اخرى يفشل البريطانيون في اللعب بالورقة الطائفية، بوجود قيادة علمائية حكيمة، متمثلة بالإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي، كما فشلوا من قبل في عهد المرجع الكبير والمجدد الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي الذي قاد ثورة (التبغ) في ايران من مقر إقامته في مدينة سامراء. وعليه يمكننا تسجيل ثلاث نقاط مضيئة في سجل قائد ثورة العشرين:
أولاً: نبذ الطائفية
في حزيران عام 1919 قام آرنولد ويلسن بزيارة للإمام الشيرازي في كربلاء المقدّسة، ليعرض عليه ثلاث مطالب رفضها كلّها، الأول: تعيين رجل شيعي في منصب كليدار الروضة العسكرية في سامراء، فكان الرد: أن لا فرق لدينا بين أن يكون الكليدار سنيّاً أو شيعياً، ولا مشكلة عندنا في هذا الجانب. والثاني: تأييد المعاهدة الاستعمارية المذلّة التي وقّعها رئيس وزراء ايران القاجارية (وثوق الدولة)، مع بريطانيا ، فبعد أن شرح الحاكم البريطاني فوائد الاتفاقية لإيران، ردّ عليه الإمام الشيرازي: نحن الآن نتحدّث عن العراق، أما حكومة ايران وشعبها فهم أعرف بشؤونهم. أما العرض الثالث، فهو الافتاء بوقف القتال للقبائل الثائرة جنوب إيران (حقناً للدماء)، فردّ عليه: لا يجوز لي الإفتاء بشيء لا علم لي به، وإن حكومة إيران أعرف بشؤون الإيرانيين.
وبعد أن يأس البريطانيون من التأثير على الإمام الشيرازي، شنّوا عليه الحرب النفسية المعهودة ورموه بمختلف التهم والافتراءات، فكتب وسلن في مذكّراته: (انه مثل البابا ليو التاسع.. قدّيس بسيط ذو مزاج مثال لتضليل نفسه والعالم، وانه كثيراً ما يفعل باسم التقوى والدين....)، كما أبرق إلى لندن: (المجتهد الرئيس في كربلاء ميرزا محمد تقي الشيرازي في سن الخرف ومحاط بعصابة من طلاب المال الذي ليس لديهم ضمير ويعملون ضد الإنجليز!...).
ثانياً: الشورى
أوّل خطوة اتّخذها الإمام الشيرازي بعد وفاة المرجع الديني الأعلى السيد محمد كاظم اليزدي، تشكيله هيئة استشارية في كربلاء المقدّسة، مؤلّفة من كبار العلماء بينهم الشيخ مهدي الخالصي الذي انتقل من الكاظمية إلى كربلاء، وهو من جملة العلماء الذين أفتوا بالجهاد ضد الإنجليز عام 1914 لدى احتلالهم البصرة، والسيد هبة الدين الشهرستاني من علماء الكاظمية أيضاً، والسيد أبو القاسم الكاشاني الذي كان وقتها يبلغ من العمر (35) سنة، وكان في عداد الفقهاء المجتهدين، وآية الله الميرزا أحمد الخراساني من علماء النجف الأشرف، والسيد محمد علي الشهرستاني من علماء كربلاء إلى جانب نجله محمد رضا الشيرازي. هذه الهيئة الاستشارية كان لها دور بارز في اتخاذ أصوب القرارات وأكثرها دقّة في تلك الظروف الدقيقة والاستثنائية من تاريخ العراق.
ثالثاً: الأفق البعيد
في ظروف سياسية واجتماعية عصيبة كالتي مرّ بها العراق، ربما ينزلق البعض من النخب السياسية أو القيادات الجماهيرية نحو قرارات فجائية وانفعالية لتحقيق أهداف تكتيكية للحصول على مكاسب آنية. إلاّ أن الإمام الشيرازي لم يكن من هذا النوع، وأكبر دليل على هذا فتواه الشجاعة بحرمة الانتساب إلى دوائر عمل المحتل البريطاني. وهذا يشكل تحديّاً لأي إنسان في العراق، إذ ان الوظيفة تشكّل مصدر رزق جيد، يغنيه عن الأعمال الحرّة والصعبة في تلك الفترة. لكن أهمية هذه الفتوى نجدها في مذكرات المسز بل الجاسوسة البريطانية المعروفة، التي تقول: بدأت حملة استقالات جماعية من السلك الإداري والبوليس في الفرات الأوسط، كما ان السلطة عجزت عن توظيف الأفراد الجدّد، ولقد كان ويلسن يحلم بإقامة حكم بريطاني مطعّم بعدد من العراقيين..!
حتى الفتوى الشهيرة بجواز الكفاح المسلّح ضد المحتل البريطاني، لم يكن بالسهولة التي نسمع بها اليوم. لأن خيار حمل السلاح، له تبعات واستحقاقات ثقيلة لابد من تقبّلها، في مقدّمتها الدماء.. لذا فإن الاحتكام إلى السلاح آخر ما تفكّر فيه القيادات الدينية الحكيمة والمسؤولة، لكنه في الوقت نفسه هو أشجع قرار يمكن أن يتّخذه زعيم في حياته. لذا عندما توافد زعماء العشائر على كربلاء المقدّسة، أرض الثورة والإباء، للقاء الإمام الشيرازي، وقد تزامن ذلك مع أيام الزيارة الشعبانية عام 1338للهجرة ، قال الإمام رضوان الله عليه: (إنّ الحمل ثقيل وأخشى أن لا تستطيع القبائل أن تحارب الجيوش المحتلة)..!، فأكّد له الحاضرون المقدرة التامة للقبائل العراقية على الثورة، لكنه أردف بالقول: (أخشى أن يختل النظام وتفقد البلاد الأمن فتعمّ الفوضى، وحفظ الأمن أهم من الثورة).
تعهّد الحاضرون وهم خمسة مثّلوا شيوخ القبائل وزعماء الثورة، وهم: جعفر أبو التمن، نور الياسري، عبد الواحد سكر الحاج سكر، عبد الكريم الجزائري، علوان الياسري، بأنهم سيحافظون على الأمن خلال الثورة، عند ذاك قال لهم الإمام الشيرازي: (إذا كانت هذه نيّاتكم، وهذه تعهداتكم فالله في عونكم).
وهكذا وافق الإمام الشيرازي على إصدار فتوى الجهاد والكفاح المسلّح ضد الاحتلال البريطاني في العراق. ومن ذلك البيت المتواضع والعظيم، ومن جوار مرقد الإمام الحسين صلوات الله عليه، انطلقت أوّل ثورة جماهيرية مسلّحة في تاريخ العراق بقيادة المرجعية الدينية.
وربّ سائل عن جدوائية هذه الثورة في مواجهة امبراطورية روّج لها أنها (لا تغيب عنها الشمس)، وهل حقّقت الانتصار العسكري على الأرض؟ وهل أصبح الإمام الشيرازي قائداً وزعيماً للدولة في العراق؟
الإجابة بكل بساطة؛ إن المبادئ والقيم هي التي يستمد منها الإمام الشيرازي قراراته وفتاواه بشأن مصير الأمة، وليست المصالح السياسية أو الاجتهادات الشخصية، وهذا أعظم درس نتعلّمه من هؤلاء القادة الكبار، وهم بدورهم استلهموه من القدوات العظيمة متمثلة بالنبي الأكرم وأهل بيته صلوات الله عليهم، وهذا تحديداً هو الحدّ الفاصل الذي أوقف الدوائر السياسية والمخابراتية في الغرب عند حدّهم، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم وفي المستقبل، وجعلهم يبحثون في الطرق الملتوية للالتفاف على هذا الطود الشامخ المتمثّل بالحوزة العلمية والمرجعية الدينية، التي خرّجت الخطباء والعلماء والمفكّرين والمؤلّفين.
هذا بالنسبة للمستعمر والمحتل، أما بالنسبة لضعاف النفوس الذي لا يحتملون المسؤولية الأخلاقية ولا الدينية، ولسان حالهم (أكل الخبز بسعر يومه)، والذين يشكّلون دائماً الأمل الكبير للدوائر الغربية، فإنّ الثورة الجماهيرية تكشف نواياهم وتزيح أقنعتهم مثل (الوطنية) أو (القومية) وغيرها من الشعارات التي يحاولون من خلالها إيجاد محورية جديدة لقيادة المجتمع، ويوهمون الناس انهم المطالبون الحقيقيون بالاستقلال. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم يظهر حزب سياسي أو فئة أو شخص تمكّن أن يقود الجماهير في ثورة حقيقية للمطالبة بالاستقلال والحريّة والكرامة.
نعم شهد العراق والعراقيون الانقلابات العسكرية وما رافقها من عمليات سحل وقتل وانتقام، كما شهد التهافت على السلطة، حتى وإن كان على حساب أرواح الناس ومعاناتهم. بينما شهدنا هذه الروح الثورية تغلي من جديد في العروق، في الانتفاضة الشعبانية عام 1991، والتي تُعد أول تكرار من نوعه للانتفاضة الشعبانية الأولى عام 1920، ففي تلك الانتفاضة والثورة، أثبت العراقيون للعالم أنهم لا يعيشون في ظل الحكم الأجنبي، وفي الانتفاضة الثانية، أثبت العراقيون أنهم قادرون على اسقاط أول حجرة من صنم الطاغية البائد، ومذ ذاك بدأ العد العكسي لحياة صدام في السلطة. بل يبدأ العد العكسي لكل من يسير في هذا الطريق، لكن بشرطها وشروطها.