بحضور وفد من مكتب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في كربلاء المقدّسة, والعديد من الأفاضل وخطباء المنبر الحسيني, وطلبة العلوم الدينية, أقامت حوزة كربلاء المقدّسة ـ مدرسة العلاّمة أحمد بن فهد الحلّي قدّس سرّه, مؤتمرها التبليغي السابع تحت شعار: «المنبر الحسيني وسيلة الارتقاء والتكامل الإنساني»، يوم الثلاثاء الموافق للسابع من شهر رجب الأصبّ 1433 للهجرة.
بدأ المؤتمر بتلاوة معطّرة من آيات القرآن الكريم تلاها المقرئ القدير الحاج مصطفى الصراف.
بعدها أعلن فضيلة آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري بدء أعمال المؤتمر, حيث رحّب بالضيوف الكرام من علماء وأساتذة وطلبة وخطباء، وقال: كما تعلمون نحن على أبواب ختام هذا العام الدراسي, واعتادت حوزة كربلاء عقد مؤتمرها التبليغي بهدف تحديد الأهداف وتركيز المفاهيم وتذكِّير أحدنا الآخر، فعلى اسم الله وبركته نبتدئ أعمال وكلمات المؤتمر.
كانت أولى الكلمات لآية الله السيد مرتضى القزويني, استهاها بالآية المباركة: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) سورة التوبة:الآية122, وقال: الآية الكريمة تضمّنت أبحاث عدّة لا بأس بالإشارة إلى بعضها، ومنها, التفقّه. فلا يخفى على الأخوة أنه ورود الكثير من الروايات والآيات الشريفة في المقام منها: قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ) سورة الزمر:الآية 9، وقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) سورة فاطر:الآية 28، وقال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) سورة البقرة:الآية269. وفيما يخص الروايات الشريفة فقد ورد في الأثر الشريف كم كبير في المقام, منها: «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقّهه في الدين» وكذلك قول الإمام الصادق عليه السلام: «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقّهوا» وكذا: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة» وورد: «ان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به».
وأضاف: إن طلب العلم أفضل ما يتقرّب العبد به إلى الله تعالى، وبه يكون التكامل الإنساني والارتقاء بالأمة إلى الحضارة الإنسانية المطلوبة، فهنيئاً لكم وأنتم مشغولون بطلب العلم والناس مشغولون بطلب الدنيا.
ثم تحدَّث حول الجانب التبليغي ووجوب تهذيب النفس والمواظبة على العبادات الشرعية لاسيما صلاة الليل ليكون كلام المبلِّغ مؤثراً وكذا تصرفاته صادرة عن ملكة فيه اثر تجهيز نفسه وتهذيبها.
كما تطرّق في حديثه إلى جوانب من الصعوبات التي تواجه المبلِّغ وطرق حلّها مستذكراً تضحيات رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه من أجل الإسلام وتبليغ رسالة الله سبحانه.
الفقرة الثانية في أعمال المؤتمر كانت حوار مفتوح حول التبليغ وغاياته وأهدافه وأفضل طرقه, حيث أكد أساتذة الحوزة أهمية الاعتماد على المصادر الموثوقة المعروفة، حيث كانت مداخلة للعلامة الحجّة الشيخ طالب الصالحي متحدثاً حول تفسير البرهان وأهميته في عمل المبلغ. وكانت مداخلة اخرى لفضيلة الشيخ فاضل الخفاجي حول تجاربه وذكرياته مع كبار الخطباء الحسينيين, ومنهم: المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي والمرحوم الشيخ هادي الكربلائي والمرحوم الشيخ عبد الزهراء الكعبي والمرحوم السيد صدر الدين الشهرستاني الحكيم والسيد كاظم القزويني والشيخ كاظم عرب والشيخ عبد الرزاق البهبهاني. وتحدّث حول الصعوبات التي كانت تواجه الخطباء في ذلك الوقت مقارناً بين الزمانين ومستخلصاً النتائج والعبر. وكانت مداخلة لفضيلة الخطيب الشيخ زهير الأسدي, وداخلة ثانية للشيخ طالب الصالحي.
أما ختام المؤتمر فكانت كلمة لأستاذ الحوزة والجامعة آية الله الشيخ فاضل الصفار دامت بركاته, تمحورت حول العلم ونوعيه، حيث قال: ورد في الحديث الشريف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» والتأمّل في مضمون هذا الحديث يغيِّر نظرتنا للعلم بعض الشيء, فمنطوقه جملة حملية خبرية يكشف عن واقع ان العلم نور وهو بيد الله سبحانه, في حين يتصوّر الناس ان العلم هو بكثرة المعلومات وان العالم هو من حفظ الكثير من العلم ويكون حاضر الجواب عند السؤال، لكن هذا الحديث الشريف يعطينا نظرة أخرى مختلفة إلى العالِم غير النظرة التي تتبادر إلى الأذهان.
وأضاف: لا شك أن الإنسان لكي يكون عالِماً لابد أن يسلك طريق العلم ومجالس العلماء ويبذل مقداراً كبيراً من جهده وتفكيره في سبيل العلم، لكن هذه مقدمات وجودية للعلم لأن العلم نتيجة اكتسابية, وتحصيله متوقف على مقدماته والمقدمات تحصّل في مجالس العلم والحوزات العلمية, فهذا هو العالِم عند الناس, ولكن ليس بالضرورة أن يكون عالِماً عند الله عزّ وجلّ, بمعنى انه لا توجد ملازمة بين حمل العلم ونورانيته, والفرق بين الحقيقتين كبير عند التحقيق حيث أن تحصيل العلم يتوقف على الكسب أما النورانية فتحصل من سبيل آخر وهو التخلية والتحلية واتباع الفضائل واجتناب الرذائل واستعداد النفس لتلقّي النور الذي يقذفه الله سبحانه، وهذا الاستعداد والقابلية لا يأتي من كثرة التعلّم وكسب العلوم بل بتزكية النفس وتطهير الباطن والخلوص في النية وصدقها، وعليه قد يكون الإنسان محقّقاً كبيراً وأستاذً قديراً يحضر درسه الكثير من أهل الفضل والعلم فهو يحمل العلم لكن ليس له نوره، ولكي تتضح المسألة أكثر نضرب لكم مثال: كتاب جواهر الكلام من مفاخر كتب الشيعة ومؤلّفه فقيه كبير كان مرجع للتقليد في زمانه, بذل نصف عمره الشريف, قرابة الثلاثين عاماً, في تأليف هذا الكتاب كما هو المستفاد من التواريخ التي ذكرها في نهاية كل مجلّد من الجواهر، في إحدى الأيام ضم مجلس علم عدداً من العلماء والفضلاء ودار البحث حول مسألة معيّنة وكل أدلى بدلوه واحتدم النقاش والحوار وصاحب الجواهر صامت فوجّه إليه السؤال حول رأيه في المسألة المطروحة ـ ولعله لم يرد الإجابة وقتها ـ فقال: إن هذه المسألة بحثتها في كتاب الجواهر. فقال أحد الفضلاء الحاضرين لصاحب الجواهر: جواهرك هذا الأفضل لك أن تعطيه للعطارين لاستخدامه في حفظ البضاعة من السكر والملح وغيرها.
هذا الموقف الذي اتخذه هذا الفاضل ارتكب به ثلاث محرّمات:
الأول: بخس الناس أشياءهم، حيث بخس حق صاحب الجواهر.
الثاني: انتهك حرمة صاحب الجواهر، وانتهاك حرمة المؤمن حرام فضلاً عن الفقيه.
الثالث: وجَّه الأذى إلى تلامذة ومقلّدي صاحب الجواهر وإيذاء المؤمن حرام.
هذا الفاضل كان حامل للعلم وليس له نورانية العلم، لذا فأنه حتى في كتب التراجم قليل ما يذكر ولا يعرف إلاّ من قبل القليل من المدقّقين في هذا المجال أما اطروحاته فلا تناقش في الميادين العلمية، أما صاحب الجواهر فمنذ قرنين من الزمن وكتاب الجواهر محافظ على مكانته في الأوساط العلمية ولا يستغني عنه فقيه.
وتابع قائلاً: البعض يتصوّر انه إذا حصل على العلم وكان يتمتع بقوة الذاكرة والقدرة على البيان والنقض والإبرام صار عالماً، والحق انه ليس بعالم ما لم يمتلك نورانية العلم وهي تحصل بمراقبة الذات والنظر إلى الباطن وداخل النفس وان كان غالب الناس ينظرون إلى الظواهر وخارج الإنسان، أما طالب العلم فعليه النظر إلى داخله ويراقب نيّته, وأنه لماذا يدرس ويطلب العلم, وهل هو لله أم للمكاسب الذاتية، وليعلم بأنه ان كان يستطيع ان يتظاهر أمام الناس فإنه لا يستطيع مخادعة نفسه، وليعلم انه بمعلوماته وحفظه ليس بعالم دون نورانية العلم فالحاسوب اليوم في حفظه للمعلومات الكثيرة والدقيقة بحيث لا يستطيع أن يظاهيه أحد ولكنه نورانية العلم أين هي منه.
هذا واستشهد ببعض الأدلة على ذلك ملخّصاً للموضوع بعد ذلك حول الحديث الشريف: «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» مستطرداً بعد ذلك, الحديث حول العطلة الصيفية وكيفية اغتنامها لتحقيق الهدف المنشود في الحصول على نورانية العلم قائلاً:
نحن مقبلون على العطلة الصيفية وهي فرصة مناسبة لاكتشاف حقيقة أنفسنا وقد يكون من المناسب أن أوصي نفسي وأقترح ثلاث وظائف للعمل بها خلال هذه العطلة لاسيما أنه من منن الله تعالى أن جعلها في شهور مباركة عظيمة ثلاث هي: رجب وشعبان وشهر رمضان, والوظائف هي:
أولاً: الطالب الذي يجد نفسه قاصراً أو مقصّراً أيام التحصيل عليه أن يكمل ما فاته أيام العطل، وهذه سيرة دأب عليها العلماء القدامى.
ثانياً: هذه الشهور الفضيلة هي شهور الدعاء والابتهال والصيام والصلوات المستحبّة، وعادة طالب العلم لا يجد الفرصة السانحة لهذه الأعمال العبادية أيام التحصيل فليغتنم هذه العطلة لذلك فهي من أهم أسباب الحصول على نورانية العلم.
ثالثاً: تنظيم الوقت، وهنا ثلاث مهام شرعية وإنسانية ينبغي على كل واحد منا العمل وفقها وهي:
1ـ قراءة بعض الكتب غير الدراسية التي تنمّي فكر الطالب ومستواه المعرفي في مختلف الأبعاد وينبغي ألاّ تقلّ عن عشرة كتب.
2ـ إقامة الدورات الصيفية وتثقيف الشباب وتوعيتهم لاسيما في هذا الظرف وهذه لا تخلو من شبهة الوجوب العيني علينا.
3ـ ترسيخ العلاقات الاجتماعية من قبل طالب العلم حيث ينبغي أن يكون قريباً من الناس وهي كذلك لا تخلو من شبهة الوجوب العيني.
هذا وفي ختام المؤتمر تقدّم فضيلة آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري لكل الحاضرين من أساتذة وخطباء وطلبة العلم بالشكر لما بذلوه خلال هذا العام الدراسي, وكذا للمشاركة في هذا المؤتمر المبارك, وقدّمت إدارة الحوزة بعض الهدايا المعنوية والعينية للطلبة المتميّزين خلال العام الدراسي.