في ليالي شهر رمضان العظيم يتوافد العلماء والفضلاء وطلاب الحوزة العلمية ومختلف الشخصيات على بيت المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في مدينة قم المقدسة. وخلال لقائهم بسماحته دام ظله يدور الحديث حول المباحث العلمية والمسائل الفقهية والتاريخية والثقافية، إضافة إلى ما يتفضل به سماحته من وصايا وتوجيهات.
نسيان غسل الجنابة في شهر رمضان
في بدء الجلسة طرح أحد الفضلاء مسألة من كتاب العروة حيث يقول السيد اليزدي رحمه الله: (الأقوى بطلان صوم شهر رمضان بنسيان غسل الجنابة ليلاً قبل الفجر حتى مضى عليه يوم أو أيام) وقد تفضّلتم في تعليقتكم عليه (إذا لم يغتسل غسلا آخر، وإلا كفى على الأظهر) فما هو وجه هذا القول؟
فقال المرجع الشيرازي دام ظله الشريف: من كان عليه غسل واجب مثل غسل الجنابة فلا يشترط في تحقق الإمتثال قصد ذلك الغسل، قال الشارع على الجنب أن يغتسل، ولم يقل بوجوب كون هذا الغسل بنية الجنابة، ولذا إذا لم يكن الشخص يعلم اسم ذلك الغسل الواجب أصلا ولكن يغتسل بقصد القربة وخلوص النية فقد إمتثل، لأنه ليس لدينا دليل على أكثر من هذا، ولذا هذا الشخص الذي نسي غسل الجنابة ولكن إغتسل غسل الجمعة فهذا المقدار يكفي في امتثال غسل الجنابة.
وببيان آخر: في الأغسال لا تجب نية ذلك الغسل الواجب بل يشترط قصد القربة والخلوص لله تعالى فقط، بمعنى أن يأتي بالعبادة لله تعالى فحسب، فإذا كان على شخص غسل الجنابة وغسل الحيض وغسل نذري وغسل الزيارة، فإتيان غسل واحد يكفي عن جميع تلك الأغسال، ولابد من أن يكون ذلك الغسل غسلاً مستحباً أو واجباً، وقد قال المشهور: إن كان الغسل مستحباً بقاعدة التسامح يكفي أيضاً، وهذا الحمل يجري في كل مطلق ومقيد، بخلاف المتباينين كصلاة الظهر والعصر فإن كل واحدة منهما لا تجزئ عن الأخرى.
ثم ذكر سماحته مشيراً إلى شواهد كثيرة على هذا المطلب: أحد هذه الشواهد ـ ما في باب المستحبات ـ وهو خبر رجاء بن أبي الضحاك صاحب الرضا عليه السلام من المدينة إلى مرو وقد ذكر في بيان أحوال الإمام عليه السلام أنه: «ثم يصلّي صلاة جعفر بن أبي طالب أربع ركعات، يسلم في كل ركعتين ويقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح، ويحتسب بها من صلاة الليل» (وسائل الشيعة، ج4، ص 56، ح4496) وقد بين في هذه الرواية أن الرضا صلوات الله عليه أقام أربع ركعات من صلاة الليل بطريقة صلاة جعفر الطيار عليه السلام واحتسبها من صلاة الليل، فهذه الصلاة تحتسب من صلاة الليل وكذا تحتسب من صلاة جعفر الطيار عليه السلام.
كما ذكر دام ظله: أنه قد صرح الشيخ البهائي وكذلك بعضُ المحشين على العروة بأن التداخل يجري في واجب ومستحب غير متباينين أيضاً، مثل أن يصلي في وقت نوافل الليل إحدى عشرة ركعة صلاة القضاء ففي هذه الصورة يحتسب نافلة الليل ايضاً.
وقد نقل عن العلامة الحلي رضوان الله تعالى عليه في استفتاء له رضوان الله عليه أن شخصاً صلى صلاة الظهر والعصر بسنوات قبل دخول الوقت فما هو تكليفه؟ فقال العلامة رحمه الله: يقضي صلاة يوم واحد فقط لأن كل يوم كان يصلي قبل الوقت ما كان يحتسب أداءً ولكن كان يحتسب له قضاء صلاة اليوم السابق، لأنه لا يلزم في النية نية الأداء والقضاء، وذلك الشخص اشتبه في تطبيق النية ويبدو أنه قول جيد، وعلى هذا القول لا يبقى محل للإستدلال بحديث «لا تعاد» الذي أحد مستثنياته الوقت للإفتاء بوجوب قضاء جميع الصلوات.
اشتراط القبض في الهدية
ثم سئل: إذا اشترى شخص لآخر هديةً ولكن لم يسلمها إليه، فهل يجب فيها الخمس عند دوران الحول؟
فقال دام ظله الوارف: نعم، لأنه ما دام لم يسلمه الهدية ولم يحصل القبض تعدّ هذه الهدية من أموال الشخص المُهدي، مثل من سافر لزيارة بيت الله الحرام، واشترى هدايا كثيرة لأشخاص ومات قبل تسليمها إليهم، فهذه الهدايا حيث لم تسلم إلى الأشخاص فهي من أموال الميت وتركته.
عدم لزوم الإلتفات التفصيلي لثواب العمل
ثم سأل أحد الفضلاء عن قاعدة التسامح في أدلة السنن: بالنظر إلى صحيحة هشام وأمثالها هل يلزم الإلتفات التفصيلي لثواب العمل كي يستحق الثواب أو لا؟
فقال دام ظله العالي: لا، لا يلزم الإلتفات التفصيلي، بقرينة أنهم إعتبروا فتوى الفقهاء ايضاً من صغريات قاعدة التسامح ولم يذكر الثواب في فتواهم، وقرينة أخرى على أن الإلتفات التفصيلي بالثواب ليس بلازم أن هذه القاعدة تشمل المكروهات أيضا مع أنه في المكروهات ليس الغرض هو بلوغَ الثواب، وإن كان لازم ترك المكروه ترتب الثواب عليه، لأن ترك كل مكروه مستحب وفيه ثواب.
ثم قال دامت بركاته: في قاعدة التسامح في أدلة السنن يثبت مطلبان: 1ـ ثبوت الإستحباب 2ـ إستحقاق الثواب وإن لم يعلم ثواب ذلك العمل.
البداء في قضاء الله تعالى ليلة القدر
ثم سئل عن رواية عن الإمام الصادق عليه السلام في دعاء علمه لعمار الساباطي في الليلة الأولى من شهر رمضان فهل للبداء سبيل فيما يقدر ليلة القدر للأفراد في قضاء الله تعالى؟
فقال دام ظله: في هذه الفقرة من الدعاء حيث يقول: «واجعل فيما تقضي وتقدر من الأمر المحتوم فيما تفرق من الأمر الحكيم في ليلة القدر من القضاء الذي لا يرد ولا يبدل» يوجد عدة مطالب لابد من التوجه إليها: 1ـ هذا سؤال من الله تعالى أن يجعله قضاءً وأمراً محتوما لا تبدل فيه ولا رد، فهو منوط باستجابته تعالى لهذا الدعاء.
2ـ ليس هذا دعاء نفس الإمام عليه السلام بل علمه الإمام لعمار لأن يقرأ هو وآخرون 3ـ اعتبار ونسبة هذه الرواية إلى الإمام الصادق عليه السلام بقاعدة التسامح في أدلة السنن 4ـ وفي المقابل،هناك أدلة البداء القطعية ولم يعد هذا المورد من مستثنياتها، وضمنا أشار سماحته إلى أن البداء بالنسبة إلى الله تعالى هو بمعنى الإبداء.
قضاء المستحبات المؤقتة
ثم سئل عن قضاء المستحبات التي لها وقت خاص.
فأجاب دام ظله: لقد بحث المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني والأخ المرحوم رضوان الله عليهما في ذلك مفصّلاً، وبناءً على بعض الأدلة، فإن نظرهما هو أن الأصل في العبادات وجود القضاء فيها إلا أن يقوم دليل على نفيه. ويخطر بالبال أن هذا الرأي سديد صحيح كما جاء في رواية: «إنما النافلة مثل الهدية متى ما أتي بها قبلت». والمرحوم الشيخ منيرالدين البروجردي الإصفهاني أيضا أشار إلى هذا المطلب في رسالة «الفرق بين الفريضة والنافلة» وفي المقابل قال جمع في الواجبات : الأصل فيه أنه لا قضاء لأي عمل إلا أن يقوم دليل على قضائه.
المراد من العدالة بين الحلائل
ثم سئل عن الآية الشريفة: «فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً» وعن الآية الشريفة «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَينَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيلِ» ما هو وجه الجمع بين هاتين الآيتين المباركتين؟
فقال دام ظله: بين المفسرين والفقهاء في تفسير ووجه الجمع بين هاتين الآيتين مطالب يمكن مراجعتها لمعرفة الأقوال المختلفة فيها، ولكن جاء في بعض الروايات أن المقصود من العدالة في الآية الأولى هي العدالة في النفقة، والمقصود منها في الآية الثانية العدالة في المودة والمحبة القلبية.
خلق السماوات والأرض
ثم سئل عن وجه الجمع بين الآية الشريفة: «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يوْمَينِ» وبين الآية الشريفة: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيامٍ».
فقال مد ظله: لا منافاة بين هاتين الآيتين لأن الآية الاولى ناظرة إلى خلق السماوات السبع والآية الثانية ناظرة إلى خلق السماوات والأرض وما بينهما، ومضافا إلى أنها إشارة إلى المراتب ولها نظائر في آيات القران الكريم.
مثلاً جاءت ثلاثة تعابير في القرآن الكريم في التوفي وقبض الروح من ذوي الأرواح 1ـ «اللَّهُ يتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» 2ـ «إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا» 3ـ «قُلْ يتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ»، فإن نسبة التوفي إلى الله عزوجل حقيقية والنسبة إلى غير الله تعالى من ملك الموت والملائكة مجازية. والنظير الثاني له هي تعابير ثلاثة جاءت في هذه الآيات الشريفة: 1ـ «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» 2ـ «فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ»، 3ـ «رَبُّ الْمَشْرِقَينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَينِ».
فكثير من هذه الموارد مجازات، وعليها قرائن تدل على مجازيتها، ومن الواضح أن جمال وحسن اللغة العربية يكمن في هذه المجازات والكنايات والإستعارات.
ملاك قتل الخطأ وشبه العمد والعمد
طرح سؤال آخر حول ملاك قتل الخطأ وشبه العمد والعمد؟
فأجاب سماحته: الروايات في بيان معيار هذه الأقسام الثلاثة مختلفة وقد طرح في جواهر الكلام هذا البحث وللفقهاء في بيان بعض مصاديق هذه الأقسام الثلاثة اختلاف شديد.
ثم قال دام ظله: قد طرح صاحب الجواهر هذا الفرع وهو: لو أن شخصا قرأ رثاءً لشخص ضعيف القلب مرثيةً مؤلمة فمات هذا الشخص ضعيف القلب لسماع هذه المرثية، فهل يعد الراثي قاتلاً؟ قال صاحب الجواهر: لا يصدق أي قسم من الأقسام الثلاثة من القتل على هذا المورد والأدلة منصرفة عنه كما ألقى أميرالمؤمنين عليه السلام لهمام خطبة المتقين فمات رحمه الله بإستماعه لها.
الموالاة في أفعال الوضوء
وفي ختام الجلسة سأل أحد الحضور: أن المشي أثناء الوضوء لا يبطل الوضوء إلا أن يهدم الموالاة فهل لهذا دليل خاص؟
فقال سماحته: ليس له دليل خاص، بل استفيد ذلك من روايات الوضوء من أن الوضوء عمل واحد فيجب فيه الموالاة، بخلاف الغسل فإنه أعمال ثلاثة، ولذا لا يشترط فيه الموالاة.